أكثر ما أثار استغراب المراقبين خلال الأسابيع الماضية، هو عندما فقد كثير من المسؤولين الغربيين حصافتهم وحججهم ومنطقهم، وهم يتحدثون عما تفعله إسرائيل خلال الشهرين الأخيرين في غزّة. وخاصة حين يتلعثمون بالإجابات، عندما يسألون عما يمكن وصفه بالإبادة الجماعية التي تطول المدنيين، والتهجير القسري، الذي بلغ حدّ مطالبة مصر، عبر قنوات خاصة، للسماح لسكان القطاع بالانتقال إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، هرباً من الموت.
عدا الساسة والإعلاميين الذين لا يمتلكون حرية الموقف، بسبب عملهم في مؤسسات ذات توجهات محددة سلفاً، فإن العديد من المفكرين والمثقفين العالميين بمن فيهم اليهود، كانوا يسمون الأشياء بأسمائها فيصفون ما يجري على أنه جرائم ضد الإنسانية. ولكن ما الذي يجبر أولئك القادة والمسؤولين على وضع أنفسهم في تلك الخانة المحرجة؟ الجواب الأولي الذي يحضرني، هو الخوف على مستقبلهم السياسي، فيما لو شقّوا عصا الطاعة، لأميركا وللدوائر الداعمة لإسرائيل عبر العالم.
"خلال مؤتمر صحفي، أخبرني مسؤول كبير في وزارة الخارجية (الأميركية)، أنني إذا واصلت القول إن (حادثة فيلا) كانت بمثابة تجربة نووية، فسوف يدمّرون سمعتي". الاقتباس السابق يعود إلى ليونارد فايس، عالم وخبير أميركي في منع الانتشار النووي. كان حينذاك، يعمل ضمن طاقم السيناتور الديموقراطي جون جلين. التقط القمر الصناعي الأميركي فيلا "Vela 6911" المختص بمراقبة النشاطات والتجارب النووية في 22 أيلول/سبتمبر 1979، صور وميضٍ، لما يُعتقد أنه تفجير نووي جنوب المحيط الأطلسي، وقدّر العلماء والمختصون في مجمّع الاستخبارات الأميركي أنها تجربة نووية إسرائيلية بمساعدة لوجستية من جنوب أفريقيا. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟
رفض البيت الأبيض نتائج تحقيقات المخابرات، وعمل على تشكيل لجنة خاصة من العلماء، تتبع البيت الأبيض مباشرة، لدراسة المعطيات وإشارات وصور القمر الصناعي فيلا
كان مجرد الحديث عن برنامج نووي إسرائيلي، يعتبر من المحرمات بين أفراد الطبقة السياسية في الولايات المتحدة. وأن الخوض في حديث بأن تلك التجربة كانت لاختبار قنبلة نووية إسرائيلية، سوف يقوض كل الإرث الدولي والأميركي، بشكل خاص، في التستر على مشروع تطوير سلاح نووي إسرائيلي. لهذا رفض البيت الأبيض نتائج تحقيقات المخابرات، وعمل على تشكيل لجنة خاصة من العلماء، تتبع البيت الأبيض مباشرة، لدراسة المعطيات وإشارات وصور القمر الصناعي فيلا.
ستتوصل اللجنة، التي دُعيَت "لجنة روينا" نسبةً إلى رئيسها جاك روينا الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، سريعاً إلى أن الصور ليست لتفجير نووي، وربما كانت من تأثيرات "انعكاس محتمل لأشعة الشمس على نيزك صغير أو قطعة حطام فضائي مرّت قرب القمر الصناعي". استمعت اللجنة إلى شهادات ووجهات نظر وزارتي الطاقة والدفاع المؤيدة للاعتقاد بوقوع حادث نووي. "حتى نتمكّن من تجاهلهم بأمان أكبر" هذا ما جاء في مذكرة للجنة نشرت بعد سنوات. كان هذا دليلا آخر على تسييس الأدلّة العلمية ضمن جهود تبرئة إسرائيل.
الأكثر غرابة أن أحد أهم أعضاء اللجنة، ريتشارد جاروين، وهو عالم مرموق قد وقّع على تقرير لجنة روينا، بالرغم من أنه كان في لجان الاستخبارات، وحينذاك، أي قبل شهر واحد، كان من أوائل المؤيدين لتفسير الوميض على أنه لتجربة نووية. تساءل كثيرون يومها ومازالوا حتى يومنا، لأي سببٍ، وكيف غيَّر جاروين حكمه بشأن صور فيلا؟
في مساء 21 شباط/فبراير 1980، بثت شبكة سي بي إس الأميركية، تقريراً حصرياً لمراسلها في تل أبيب "دان رافيف"، يقول فيه إن الشبكة علمت أن حادثة فيلا كانت اختباراً نووياً إسرائيلياً بالفعل. التقرير استشهد بمخطوط كتاب إسرائيلي، مُنِع من الطبع والنشر، بعنوان "لن ينجو منّا أحد: قصة القنبلة الذرية الإسرائيلية" للصحفيين إيلي تيشر وعامي دور أون.
بعد سنوات سيعلن رافيف أنه استند في تقريره إضافة للمخطوط، إلى مصدر سياسي إسرائيلي موثوق، هو عضو الكنيست إلياهو سبايزر، وهو من أكّد له إجراء التجربة النووية. كان رافيف قد بثَّ تقريره من روما للتهرب من الرقابة الإسرائيلية، ومع ذلك فقدَ أوراق اعتماده الصحفية في إسرائيل، بأمر مباشر من وزير الدفاع الإسرائيلي عازر وايزمان.
بعد تقرير لجنة روينا، وفي 27 شباط/ فبراير 1980، دوّن جيمي كارتر في مذكراته التي نشرت فيما بعد "لدينا اعتقاد متزايد بين علمائنا، بأن الإسرائيليين قاموا بالفعل بإجراء تفجير تجريبي نووي في المحيط، بالقرب من جنوب أفريقيا". من جهتهِ، خلال تسعينيات القرن الماضي، صرّح الأدميرال ستانسفيلد تيرنر، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية أنه لم يأخذ لجنة روينا على محمل الجدّ أبداً، وكان دائماً يؤيد "وجهة النظر السائدة بين محللي الوكالة، بأن الوميض المزدوج كان بمثابة تجربة نووية. على الأرجح أن إسرائيل هي من أجرتها" ولم يستفض الرجل في أية تفاصيل أخرى.
تشير شهادة مردخاي فعنونو، الفني النووي السابق في مفاعل ديمونا، التي أدلى بها لصحيفة صنداي تايمز خريف عام 1986، إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية أكثر تقدماً مما توقّع الجميع. قدّر فعنونو حجم الترسانة النووية الإسرائيلية بأكثر من 100 قنبلة تعتمد البلاتينيوم. ستقبض الموساد على فعنونو، وتعيده إلى إسرائيل، وسيحكم عليه بالسجن لمدة 18 عاماً. ليطلق سراحه عام 2004، ولكن بقيود مشددة على حركته وتصريحاته. تدلل معلومات فعنونو أن أميركا مارست على الدوام ما يمكن وصفه بغسيل الأدلّة، إذا جاز لي اشتقاق التعبير من غسيل الأموال، لاعتبارات حماية إسرائيل في تجاوزاتها للقانون الدولي.
ستكشف جملة وردت في وثيقة أميركية مفرج عنها بعد عقود، دُوّنت خلال اجتماع لجنة تنسيق خاصة بحادثة فيلا حالة التعامي الأميركي المتعمَّد. وفقاً للمشاركين فإن هناك حالة إجماع على "أننا لا نعرف ماذا حدث، ويجب علينا أن نتحرك وفقاً لذلك فيما يتعلق بسياساتنا". وهو ما يوضح الجهود المبذولة لتسييس حتى العلم. للأمانة كان كل العالم يعرف أن إسرائيل تطوِّر سلاحاً نووياً، ومع ذلك توجّب على الإدارات الأميركية المتعاقبة، العمل عامدةً بسياسة نعاميَّة، فتدفن رأسها في الرمال، وتدّعي دائماً أنها لا تعلم عن هكذا برنامج.
مع انتشار عشرات آلاف الصور، ومعرفة الجميع أن جرائم ضد الإنسانية ترتكب كل لحظة، فإن الخارجية الأميركية تؤكد عل أنها لم ترَ "أيّ دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً"
ولكن ماذا أريد من رواية تلك الحادثة وملابساتها، وما علاقتها بالجرائم التي ترتكب في غزّة اليوم؟ الحقيقة أردت القول إن هناك سياسة أميركية أصيلة وتاريخية وثابتة، للتعمية على انتهاكات إسرائيل وتجاوزاتها للقوانين الدولية، بما فيها تلك التي تتشدد الولايات المتحدة بها تجاه الدول الأخرى، كمنع انتشار الأسلحة النووية وحظر تجاربها. ولذا نلحظ اليوم كل هذا الاستنفار الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة عسكرياً وإعلامياً وسياسياً للتعمية عن النهج الإجرامي الإسرائيلي. مع انتشار عشرات آلاف الصور، ومعرفة الجميع أن جرائم ضد الإنسانية ترتكب كل لحظة، فإن الخارجية الأميركية تؤكد عل أنها لم ترَ "أيّ دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً"!
حسناً، ورغم ما سبق، لكن لماذا إسرائيل بالذات هي من تحظى بذاك الامتياز من الحصانة الأميركية والغربية عموماً، بمواجهة الأعراف والقوانين الدولية؟ إن أي دولة طبيعية لا تحتاج لمثل هذا، وخصوصاً حول حقها في "الدفاع عن وجودها"، الجملة الأكثر تكراراً في التصريحات الغربية بما يخص إسرائيل! نعم هذا صحيح، لولا أن هذا يشي بشكوك وأسئلة عالمية، بل وحتى ضمن المجتمع الإسرائيلي، حول هذا الحق. بل وهناك دائما ذاك التخوف حول استمرار إسرائيل في الوجود، كدولة احتلال.
الأكيد أكثر أن الجميع لديهم شكوك، حول أن إسرائيل تمتلك مواصفات دولة نشأت بصورة طبيعية، كباقي دول العالم، مما يؤمِّن لها كغيرها من الدول، استمرارها الطبيعي في الوجود تلقائياً. المتطرفون الإسرائيليون الذين يحكمون اليوم في تل أبيب، هم الأكثر بعداً عن فهم أنه إن كانت لإسرائيل فرصة في استمرار الوجود حقاً، فإنما عبر قبول المحيط العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، بهذا الوجود. وعبر القبول بسلام ينهي الاحتلال ويحفظ للفلسطينيين أدنى حقوقهم التي تبقّت لهم بعد مآلات الصراع منذ عام 1948 وحتى اليوم، بإقامة دولة فلسطينية مستقله تعتمد حدود عام 1967. فلم يخبرنا التاريخ عن دولة استطاعت، مع احتمالات تبدل موازين القوى، الاستمرار في الحياة والوجود بدعمٍ خارجي، ضمن محيط يناصبها أشدّ العداء.