يُطلّ علينا الأكاديمي الدكتور "عادل باكتي آيا" في كتابه المعدل عن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه (2002) تحت عنوان "ولادة العروبة في سوريا العثمانية: التغير الاجتماعي – الاقتصادي والفكر السياسي" (دار نشر "إلاتيشيم"، 2009) بدراسة تشرح فهم مسيرة نهضة العروبة في "سوريا الطبيعية" خلال جزء من القرن التاسع عشر ضمن المنظور الأكاديمي التركي إذ بُنيت الدراسة بالمجمل الأعظم على أدبيات تركية.
لم تغفل الدراسة فحص بعض مواد الأرشيفين العثماني والإنكليزي، ولكن دون اعتبارها دراسة أرشيفية بحتة، وذلك يمكن فهمه لكون المؤلف متخرج متخصص بدرجة الدكتوراه في العلاقات الدولية -أي أنه غير قادر على الحفر في لغة الأرشيف- رغم ما تبين من فحصه لمجريات الدراسة بشكل عميق نسبيًا وكأنه مؤرخ، ولكن دون أن يمتهن حرفة التأريخ أيضًا. احتوت الدراسة على كتب أجنبية معدودة على أصابع اليد الواحدة وأخرى مترجمة إلى التركية كذلك.
عدد صفحات الدراسة 360 صفحة من القطع الصغير -يصلح للحمل في جميع وسائل النقل- بثلاثة أقسام وتسعة فصول موزعة باتّزان عليها، عُنونَ القسم الأول بـ"التغير والإصلاح الاجتماعي الاقتصادي في سوريا القرن التاسع عشر" والقسم الثاني "نقطتا الانعطاف في مخيال مستقبل العرب: أحداث لبنان – الشام والحرب العثمانية الروسية لعام 1877"، وأما القسم الثالث "النهضة وما حوتهُ من اتجاهات سياسية ناشئة".
بنى "باكتي آيا" نظريته في الكتاب بشكل مختصر على أساس أن العمران والمواصلات البرية والبحرية أثرت في البنية الاقتصادية والاجتماعية، والتي بدورها كانت نتيجة لإصلاح الدولة من رأس هرمها سواء بتأثير الإدارة المصرية في سوريا أو العثمانية في حقبة التنظيمات، بحيث تكاتفت هذه الإصلاحات مع الصراع السياسي الطائفي في الشام ومع "مصيبة" الحرب العثمانية الروسية في إظهار نتيجة وجود حس عروبي بالتدريج من حالة أدبية ثقافية إلى انفصالية عن جسد الدولة بشكل عشوائي غير منتظم وليس على الترتيب المتوالي.
التحول في البنية الاجتماعية - الاقتصادية
نثر الكاتب الفصول الأربعة الأولى في القسم الأول من الدراسة التي تناولت مواضيع البنية الإدارية والسكان في سوريا، حيث ألحق جمعًا من الجداول في ملاحق دراسته حول هذه الإحصائيات للسكان والطوائف في سوريا، مع التأكيد على أن هذه الجداول الإحصائية منسوخة عن سالنامات ولايات الدولة في الحقبة العثمانية. وتناول في الفصل الثاني الطرق البحرية والبرية والسكك الحديدية التي انتشرت في سوريا ومساهمتها في التأثير على "البنية الاقتصادية الاجتماعية".
في الفصل الثالث تناول مسألة بناء الإدارة العثمانية حداثتها على ما أحدثته الإدارة المصرية لمحمد علي في الشام في الإصلاحات العدلية والزراعية والإدارية والصحافة وغيرها، وأن التنظيمات كانت شيئًا غير مستجد تمامًا على سوريا الطبيعية حينما استقبلت التنظيمات العثمانية نتاج ما رأته من أشكال التحديث ومحاولاته حينما انضوت تحت الإدارة المصرية.
في الفصل الرابع ادّعى "باكتي آيا" أن ثمة صراعًا بين العثمنة (كتوجه حكوميّ) والغربنة (أي التبشير ومؤسسات القوى الاستعمارية) في التعليم في سوريا الطبيعية، ولكن كاتب المقال قد يستغرب ادّعاءه هذا مع اعتبار أن مؤسسات الدولة العثمانية كانت وقتها قد تشبّعت بالمفاهيم الغربية فلم تكن العثمنة عن الغربنة ببعيدة في حقيقة الحال. يمكن ذكر المثال الأشدّ بروزًا في هذه القضية وهو أن كامل جيل مؤسسي الجمهورية العلمانيين – التحديثيين كانوا متخرجين من مدارس هذه الفترة من القرن التاسع عشر فالفصل ليس سهلًا بين مدارس حكومية وأخرى غيرها.
التحديث في القرن التاسع عشر والذي ابتدأت أنفاسه وبوادره الفاشلة في القرن الثامن عشر كان حتميًا في التأثير على قضية مهمة ألا وهي "مركزة الدولة"، وهو أساس حصول الاضطراب في سوريا
هذا لو حصرنا تناول العلاقة بين التعليم الرسمي والتعليم التبشيري المتعلق بالإرساليات فقط كما فعل، ولكن لو أردنا تقديم نقد لهذا الفصل الرابع بالذات يمكن الحديث عن نوع من ربط التعليم بالمصالح الاقتصادية خصوصًا، أي فقط توسيع النظرة قليلًا عمّا هي في الكتاب، لنصل إلى نتيجة أن هيكلية الدولة بذاتها لم تكن منفصلة عن القنصليات الأجنبية ورأسمال أوروبا والديون العامّة بحيث تتكشّف حقيقة أخرى لدعوى "الصراع بين الدولة والتبشير في التعليم" أو وصفه على أنها "حرب مدارس" بشكل مبالغ فيه. أو حتى أجدرية هذه المقاومة من الدولة التي "فشلت!" على إطار آخر كما يعترف "باكتي آيا"!
ختم القسم الأول بجداول جميلة للمدارس فيها الإحصائيات المفصلة وأعداد الطلبة بالآلاف في مدن سوريا الطبيعية.
الصراع الطائفي والحرب الروسية لعام 1877
في الفصل الخامس ينتقل للحديث عن بروز مشكلة الطوائف والجماعات ويدّعي وجود "نظام واتزان بينها في سوريا قبل التنظيمات ولكنه اضطرب بعدها وبالخصوص يقصد بين المسلمين وغير المسلمين"، بين الدروز والمارون، وأن هذا أحدث تغيرًا في العقد السادس والسابع من القرن التاسع عشر على ثلاثة صُعُد (يذكرها في الفصل السادس) أولها هو التغير في سلوك الدولة تجاه الإدارة في سوريا والثاني التغير في علاقة المسلمين عمومًا مع غيرهم، وثالثها التغير في المجتمع المسيحي بطبيعة الحال.
وأما الفصل السابع كان حديثه عن نقطة الانعطاف الثانية بعد أحداث الشام – لبنان، وهي الحرب الروسية العثمانية بين عامي 1877-1878، والتي ادّعى أنها أنتجت أوّل بذرة للعروبة والانفصالية عن كيان العثمانية وكانت قد ولدت في سوريا على يد الأمير عبد القادر الجزائري كمشروع ملموس.
اكتنف طرحه أو بنية هيكلية نظريته في هذه الجزئية نوعًا من الهلهلة، أي الجسر الرابط بين "العمران" في القسم الأول و"النهضة العروبية" في القسم الثالث من دراسته؛ ألا وهو حادثة اضطراب التوازن في العلاقة بين طوائف الشام والحرب الروسية العثمانية، لا يمكن إنكار وجود أثر من هذين الحادثين "السياسيين" في التغيير في حركة التاريخ، وبالتالي كما فعل "باكتي آيا" ربط ذلك بـ"النهضة"...
ولكن الأصل أن التحديث في القرن التاسع عشر والذي ابتدأت أنفاسه وبوادره الفاشلة في القرن الثامن عشر كان حتميًا في التأثير على قضية مهمة ألا وهي "مركزة الدولة"، هذا أساس حصول الاضطراب في سوريا، جمع الضرائب فرض شكل من الإدارة الجبري والإكراه (كما تشير إليه الدراسات الحديثة عن "الدولة") حيث أدّى هذا إلى كبح جماح الحرية النسبية التي كانت لدى هذه المجتمعات.
لا ينكر المؤلف وجود هذه الديناميكيات، ولكنه لا يؤكد عليها ولا يتجاوز ذكرها سطحيًا، بينما كانت هي الأساس في التغيير، وليس مجرد حرب روسية – عثمانية أو نزاع طائفي، استُبطن في حقيقة الأمر تحت أكنافه توحّش الدولة وسنّ أنيابها على المجتمع هو الأصل في البحث كما يرى كاتب هذا المقال؛ لذلك فالمؤلف لا يقدّم لنا دراسة على الطرز الحديث للتأريخ.
أعلام عروبيون أثروا في الإصلاح الديني والعلماني والانفصال عن الدولة العثمانية
في الفصلين الأخيرين الثامن والتاسع يأتي المؤلف على ذكر أمثلة من الأعلام العرب المسيحيين والمسلمين الذين أراد عبرهم تشكيل خطابه في مفهوم النهضة العربية/ العروبية، وهم بطرس البستاني ونجيب عازوري من جهة، وعائلة الجزائري (طاهر وعبد القادر) ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي من جهة أخرى، ذاكرًا مساهمة كل منهم على انفراد.
جاء في حديثه عن مفهوم "العروبة" الذي عرضه وصفًا لا نقدًا بالمجمل، بيّن مفاهيم نشأة القومية التي تقاطعت أوصافها تارة، وقطعت مع بعضها تارة أخرى بين المفكرين (حسن كايالي) و(ميروسلاو هروش) و(إيرك هوبسباوفم)، وهو يؤكد على أن شروحاته لم تتعدّ هذه التصورات عن طبائع القومية ومستويات تشكلها!
القضية المعضلة في اختياره لمسمى "الاقتصادية الاجتماعية" هو أنه وسم عنوان الفصل الثاني بها، ومن ثم اقتنص أو استلّ هذا الوصف كعنوان فرعي للكتاب مستغلًا لمعانه و"سكرته". ولكن ليست كل دراسته توحي بأنها دراسة "اجتماعية" بالمعنى "السوسيولوجي" للكلمة أو كتخصص دقيق في الحقيقة، الأنكى هو أن الفصل الثاني الذي حمل هذا العنوان في الحقيقة تناول مسألة انتشار القوى الاستعمارية وعلاقتها بالتحضر والعمران والتقانة الحديثة في المواصلات في "سوريا الطبيعية" أو "الجغرافية" -كما سمّاها- ولم يكن فرع عن دراسة "سوسيولوجية".
حتى في قسمه الثالث الأخير الذي تناول فيه أعلام النهضة، كان عرضًا مملًا تقليديًا مر على جمع من أعلام الفكر المذكورين بشكل وصفي عام. قد يكون من باب ملئ الفراغ "للدراسات العربية المدونة باللغة التركية في المجال التركي"، ولكنه عمومًا لا يُعتبر أنه باحثٌ خلفَ الأصالة في عمله هذا، فليس الأصالة ملئ الفراغ في أي دراسة أو شرط معالجة موضوع غير معالج سابقًا، بقدر ما ينبغي أن يظهر جهد ذهنيّ نقديّ صريح مضافًا لهذا النقص المحتاج أيضًا.
على سبيل المثال يمكن أن نأخذ مثلًا دراسة "نيكي ر. كيدي" حول جمال الدين الأفغاني أنها لا تسعى لملئ الفراغ (في الدراسات الأجنبية) ولكن تقدم الجديد في شخصية الأفغاني وتفاصيل بيوغرافيا من زاوية معينة كونها مدونة في لغة غير اللغة الأصلية -العربية- التي اعتيد على النظر منها لشخصية الأفغاني؛ لذلك فإن "باكتي آيا" بلغته التركية لم يتعد هذا الحاجز في الحقيقة، قد يكون هذا نتاج ادّعاءه بحثًا تاريخيًا وهو غير مختصّ بالتاريخ وكذلك ادّعى تقديم شيء اجتماعي ولكنه ليس بسوسيولوجيّ، ربما.