أتلصصُ من ثقبِ الباب على وطن صار ظلاما، تعالوا نضع الوطن في قارورة مثل رسائل البحارة المنسيين، مثل رسائل العشاق الحقيقين نرميها للبحر.. للمحيطات للأكوان هل تصل هل نصل.. هل نعثر على أنفسنا لا ندري؟
ما الوطن؟ هذا السؤال الذي يجعلني أتلفت حولي، أبحث في جوجل، في الخرائط، في القواميس علني أستطيع أن أجد جوابا شافيا لسؤال بتُ أسمعه كثيرا، هذا السؤال الذي كنا نجيب عليه بالفطرة، فهل تراجعت الفطرة أمام الزلزال الصادم الذي لا نزال نعيشه ونشهده، في وطن بات بيئة طاردة للحب، خصبة للطائفية والعنف والصراعات، وطن كلُّ أبوابه فتحت للغزاة، فهل ثمة وطن بعد كل هذا؟
وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى تعريف جامع و متماسك لمفهوم الوطن، حتى لو تحدثنا عن الارتباط التاريخي بالأرض، ومسقط الرأس، أو البيت، أو اللغة، أو الأساطير، أو الآثار،أو الأغاني والأمثال، أو الرائحة والصوت، أو لون الصباحات ورائحة الخبز، أو النشيد الوطني في صباحات المدرسة، كل هذه الرومانسيات بدأت تتراجع أمام سؤال ما الوطن؟ وهو ما جعل الماغوط يصرخ صرخته المدوية قبل أكثر من 30 سنة" سأخون وطني".
وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى تعريف جامع و متماسك لمفهوم الوطن، حتى لو تحدثنا عن الارتباط التاريخي بالأرض
تلك الصرخة التي بتنا نسمعها اليوم، فهل ثمة وطن أصلا ، ما هو هذا الوطن، ومن نحن و قد بتنا في شتات الأرض؟
هل حقا خلقنا من ترابه و هوائه وناره ومائه، تلك العناصر التي بدأت تتساقط ولم يبق منها سوى فعل النار؟.
هل هو تلك الحارات التي ولدنا فيها، ذاك البيت، تلك المدينة، أو القرية، هل كنا نعيش في وطن مزيف، أم حقيقي، ما الفرق أصلا بين وطن و وطن، هل نحن مواطنون، من نحن؟ بعد أن بتنا في الشتات والمنافي وتحت الخيام.
صار الوطن بلا قلب، قبور وسجون ومدن أشباح وخوف، صور للوجع والألم والجوع ، كل صورة تصلنا تتفوق ألف مرة على لوحة الصرخة للفنان إدوار مونك، يكفي أن نرى صور الأطفال والنساء والجموع الهاربة من براميل الموت، والإرهاب، أو من يقفون في طوابير الغاز والخبز، والعتمة والذل، فهل هذا وطن؟
ليس غريبا أن تفقد أجيال وأجيال الإحساس بالأرض بالوطن بالحرية والاأنتماء، حيث لا كرامة لنبي في بيته وأرضه، لا كرامة لطفل ومسنّ، لا كرامة لمثقف وشاعر وفنان، فالجميع يلهث، وهنا أستحضر مقولة قالها لي يوما النحات عاصم الباشا:"الوطن هو الرصيف الذي أجد عليه كرامتي".وهو الفنان الذي ترك أمجاد الأرض وعاد إلى يبرود، ولكن سرعان ما دفن منحوتاته، وفرّ على مبدأ "انجُ سعد هلك سعيد".
ليس غريبا أن تفقد أجيال وأجيال الإحساس بالأرض بالوطن بالحرية والانتماء، حيث لا كرامة لنبي في بيته وأرضه، لا كرامة لطفل ومسنّ، لا كرامة لمثقف وشاعر وفنان، فالجميع يلهث
في الطرق البعيدة يعبر شريط حياتنا أمام عيوننا ، نضيع في الشوارع وندرك أن كل شيء تغير، نبحث في المدن التي ندخلها عن أمكنة تشبه أمكنتنا، وكأننا نحترف الوهم بكامل وعينا، يتردد إلى ذاكرتي حوارات الأصدقاء فيقول أحدهم :"لا وطن للشيخوخة"، أرد بأسى ، لا وطنَ لأحدٍ ..نحن المنذورون للمنافي و أرضِ اليباب.. والهباء، هذا العالم لم يعد مُحتملا، وتسألُنِي كيفَ أنتِ اليوم؟ لا تسألني أرجوك الألمُ يسيلُ من صوتي و بكاملِ فراغي أمشي، كيف أنتِ اليوم؟ سؤالك أخذه الصمت.. وإلى هاوية لعينة أخذوا البلاد.
وأتذكر ما قاله محمود درويش حين سُئل ما هو الوطن..؟ الوطن .ليس سؤالا تجيب عليه وتمضي.. إنه حياتك و قضيتك معا"، فهل بات الوطن مفهوما مؤجلا، منصة الهذيان والرعب والجوع والعتمة، هل كنا نعيش في وطن مزور، وطن مسروق ومنهوب يتداعي ، وإلى أي درجة تساقطت معه كرامتنا ؟
تعالوا نناضل لنصبح مواطنين، مواطنين سوريين، أبناء الشتات، ضحايا الحرب، ضحايا البطالة، ضحايا الاعتقال، ضحايا الصوت الحر، ضحايا إقصاء العالم لنا، ضحايا العتمة والظلاميين، ننتصر لأنفسنا، بفيلم سينما، بقصيدة أو اختراع، أو أي نجاح يرفع من شأننا، نحن سوريون وكفى، وحين نسأل عن الوطن نقول لقد سرق، ولم ينتهِ الأمر، و لم ننتهِ نحن أيضا، أينما مضينا نزرع شجرة، نشد رؤوسنا حين نسأل من أين أنت؟ نقولها لأننا نعرف جيناتنا وأبوابنا، ولا نسقط بفخ المهرج الذي صدّق نفسه بأنه الوطن.
مجتمعات يبدو أهلها وكأنهم كالأشجار العتيقة ، أو النهر الذي لا يغادر مجراه، هكذا بتنا نتحوّل لنكون أشبه بمجتمعات الترانزيت، بعد أن كان المجتمع بمثابة وطن مجتمعات تهيّئ حقائب السفر والهجرة، وترسم طريقها نحو المطارات، فمن استطاع حمل خفه ومضى، ومن بقي جلس ذاهلا و فقد كل الحيل.
كنا معروفين بتجذرنا بالأرض، نتوارث المهن لكونها صورة من صور التمدن والحضارة، صناع الحرير، صناع الزجاج، صناع الذهب، النحاسون والعطارون، وصناع إكسسوارات الأحصنة، حتى باتت الأسواق تشبهنا، سوق الذهب، سوق الحرير، البزورية والعطارين، هذا الإرث الثقافي والحضاري، فإذا بهذه الأسواق تحرق، ويشرد أهلها، وكأنه المحو الأسود للرائحة رائحة الحارات والأسواق والقيم، والهوية، والتراث والعادات، هذا الارتباط الذي يمتد عميقا في الأرض بكل ما مرّ عليها من حضارات و تبدلات ، فالسوري يسافر إلى جهات الأرض من أجل رزقه ، وتبقى عيونه على وطنه ،لا يقطع الحبل السري وكأنه مربوط بخيط الخلق هذا الرباط السرمدي الذي يسير نحو أبدية اللحظة.
هذا الحال نتاج لطبيعة المجتمع، الذى نشأ على ضفاف الأنهار بردى العاصي الفرات ، أو على شواطىء المتوسط، وقد رسم هذا التراكم ملامح الشخصية السورية، التي ترى فى الارتباط بالأرض مصيرًا واختيارا.
كنا معروفين بتجذرنا بالأرض، نتوارث المهن لكونها صورة من صور التمدن والحضارة، صناع الحرير، صناع الزجاج، صناع الذهب، النحاسون والعطارون، وصناع إكسسوارات الأحصنة، حتى باتت الأسواق تشبهنا
مهما اغترب تبقى عينه على بلده، يبني بيتا، أو يفكر بأي مشروع عمل يضمن فيه مستقبل أسرته، وإذ كل ما بناه يذهب بلحظة طيش، طيش الحرب، ولاعبي "البلاي ستيشن"، و مصاصي الدماء، وكأننا في عالم فقد كل إنسانيته..
هذه الصورة التى بدت كأنها يقين، اهتزت تخلخلت نظرة أبدية ارتباطه بوطنه. فلا يمكن تصور حجم باب الهجرة، واللجوء، إلى دول مجاورة وأشد قسوة، وكأن اللعنة تلاحقنا، من باصات الهوب هوب، إلى الغرق في البحر، والرمل والغبار، فعلى أي جانبيك تميل وعلى أي جانبيك تتكئ.
أصبحنا نرى عملية التهجير القسري، ومن بقي يردد هل من أفق هل من أمل في أن ننجو؟
يبدو أن الطغاة نجحوا فى تغيير التركيبة النفسية لقطاع كبير من السوريين، ونجحوا فى زعزعة جزء ثابت فى التكوين فى ارتباطه بأرضه وزرع الرغبة فى الخروج أو الهروب
فالوطن حين يتحوّل إلى فكرة تساق بها الجموع كالقطيع، فإن هذا كافٍ لأن تتدمر فينا مفاهيم الانتماء، الجمال لا ينمو إلا في حقل وطن أستطيع فيه التحليق، هذه الصورة، دفعت الشباب للخروج من بيوتهم إلى الشوارع والساحات، لكن الكرسي المنخور يعرف كيف ينخر الأرض من تحتنا، فصدقنا بعدها بودلير"الثورة تكرّس الخرافة عن طريق التضحية، لهذا هي شبيهة بالانتقال من منزل إلى آخر"، وحدهم الطغاة يتحدثون عن خونة الوطن.
و رغم انتقاد أدونيس للثورات، أو للربيع العربي، فإنه رأى في كتابه الهوية غير المكتملة، والذي صدر عام 2005، ضرورة تغيير المجتمع من ألفه إلى يائه، إنني أعيش في مجتمع ينبغي إعادة بنائه كليا، إنني أعيش في مجتمع كما لو كنت أعيش في الدرجة صفر"، وكان يدرك أن من يفعل أي شيء ضد الواقع الديكتاتوري ، فلن يقتل وحده، بل سيقتل أبناؤه، وإخوته" ففي رأي المستبد يتوجب تطهير المجتمع من الأشخاص الذي يوجهون له انتقادا"،أو يطالبون بمجتمع تعددي إنساني بعيدا عن أنظمة تعتبر نفسها آلهة على الأرض ، وكل ما يعارضها إلى الجحيم، حتى بات وطن بكامله جحيما.
صادق جلال العظم مات وعيونه على الحلم السوري، نبيل المالح ، ميشيل كيلو، خيرة المفكرين والمثقفين والفنانين، صاروا خارج الوطن، وما زال الكرسي ينخر أرواحنا،
فهل ندخل متاهة العبث، طرقات الجنون، لقد تجاوزنا اللامعقول فما نراه ليس وطنا ، لقد شُبّه لهم .
أنا امرأة المنافي، محض علامة بيضاء في عتمة مريبة.. قبل أن يلتهم كلُّ شيءٍ كلّ َشيء.