من مكتبها الكائن في الطابق السادس القريب من مبنى مجلس النواب الألماني الاتحادي، تطل أليسا فايدل وترنو نحو الغرب وتمعن النظر في مساحة شاسعة مليئة بالأشجار التي لا يظهر منها سوى رؤوسها بعدما استحالت أوراقها إلى لون بني شتوي. هناك في تيرغارتن، أشهر حديقة ببرلين، نصب عمود في وسطها يرتفع 67 متراً للاحتفاء بالهزيمة التي ألحقتها بروسيا بالدنمارك في عام 1864، وعلى قمة هذا العمود تتربع آلهة النصر المجنحة المذهبة التي تحاكي بشكلها وريثة عرش بروسيا، ابنة فكتوريا ملكة بريطانيا.
بشعرها الأشقر الذي تربطه للخلف، وأنفها الدقيق، ووقفتها الشامخة البسيطة، وملابسها العملية الأنيقة، تظهر السيدة فايدل بمظهر ملكة تنتظر حفل التتويج، إذ بما أنها زعيمة لحزب البديل من أجل ألمانيا، وهو الحزب الأكثر تطرفاً في البلاد من بين أهم سبعة أحزاب سياسية، أصبح نفوذها في تصاعد مستمر، والحق يقال إن هذا الحزب الذي انطلق في عام 2013 واتخذ من اللون الأزرق رمزاً له، لم يحصل سوى على 78 مقعداً من أصل 736 في البرلمان، كما أنه لا يحكم أي ولاية من ولايات ألمانيا الست عشرة، بل يسيطر فقط على ثلاث بلديات صغيرة، ثم إن أغلب الألمان أعلنوا عن عدم وجود نية لديهم بالتصويت لهذا الحزب، كما أقسمت بقية الأحزاب البارزة على النأي بنفسها عنه، في حين وضع المكتب الفيدرالي لحماية الدستور الفروع المحلية لهذا الحزب تحت المراقبة بسبب تطرفه الشديد.
صعود لافت
ولكن في غضون سنة وسبعة أشهر، صعدت السيدة فايدل إلى القمة، وذلك بعدما تضاعف عدد الراغبين بالتصويت له من 10% إلى ما يزيد على 20%، ما جعله يحتل المرتبة الثانية من حيث الشعبية في ألمانيا، بعد الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض من يمين الوسط، إلا أنه سبق كل الأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحكومي، إذ كشفت نتائج تصويت أجري مؤخراً بأن شعبية السيدة فايدل فاقت شعبية أولاف شولتز، المستشار الألماني من الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
وفي انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجري في حزيران المقبل، من المتوقع لحزب البديل من أجل ألمانيا أن يحصد مقاعد أكثر بكثير من المقاعد التسعة التي يشغلها في الوقت الراهن، وهذا ما يعبر عن الاتجاه السائد في القارة الأوروبية بأكملها والذي تعززت من خلاله مكانة الشعبويين من اليمين المتطرف في كل من السويد، مروراً بهولندا، وصولاً لإيطاليا.
وفي شهر أيلول القادم، سيتوجه الناخبون الألمان في الولايات الشرقية وهي براندنبيرغ وساكسوني وتورينغن إلى صناديق الاقتراع، بيد أن حزب البديل من أجل ألمانيا هو المتصدر في كل منها.
ومع حلول الانتخابات البرلمانية المقبلة في عام 2025، لابد أن تتحول السيدة فايدل وزميلها تينو شروبالا إلى طبقة ملكية جمهورية، أي تلك الطبقة التي تصنع الملوك من دون أن تتوج على العرش.
بعيداً عن الصبغة الملكية، تبدو السيدة فايدل، 44 عاماً، زعيمة مليئة بالتناقضات بالنسبة لحزبها، فهي امرأة في حزب يهيمن عليه الذكور، بما أن هنالك امرأة واحدة مقابل كل تسعة رجال من النواب البرلمانيين فيه، مقارنة بنسبة 35% لدى بقية الأحزاب. في حين يبدو زعيم هذا الحزب، السيد شروبالا شخصية مغالية في صبغتها التقليدية، إذ كأغلب الناخبين لهذا الحزب، أتى هذا الرجل من ألمانيا الشرقية ويفتخر بانتمائه للطبقة العاملة، ويجسد حالة نقمة على النخب، وتلك النقمة هي التي قوّت موقف الحزب خلال الاضطرابات التي سادت أثناء تفشي كوفيد-19، وخلال مرحلة التضخم الكبير وفترة الحرب على أوكرانيا.
في حين تنحدر السيدة فايدل من أسرة موسرة تعود أصولها لمدينة صغيرة في ألمانيا الغربية، بيد أنها تسلحت بشهادة دكتوراه في الاقتصاد، كما أنها تميل إلى الظهور وهي تصافح الحشود في الساحات التي تخضع لمراقبة شاملة سواء من قاعات الاجتماعات أو في الاستديوهات، ولقد حلقت مسيرتها المهنية قبل عملها في مجال السياسة بشكل صاروخي، إذ عملت لدى مصرف غولدمان ساكس الاستثماري العالمي، بالإضافة إلى عملها لدى شركة أليانز العملاقة في مجال التأمينات، قبل أن تطلق شركتها الاستشارية الخاصة. ولقد أمضت بضع سنوات في الصين، لكنها تلقت تحذيرات من ارتكاب خطأ مهني يتمثل بتحولها إلى ذراع للصين.
وبعد إعلانها عن مثليتها، أصبحت تقيم في سويسرا، وأخذت تربي طفلين مع شريكتها، وهي مخرجة سويسرية تعود أصولها لسريلانكا، أحدهما في السابعة والآخر في العاشرة من عمره. ولقد أعلنت السيدة فايدل عن دعم شريكتها لمسيرتها السياسية على الرغم من الأفكار الليبرالية للغاية التي تتمتع بها، وعلى الرغم من تدخل الإعلام الألماني في خصوصياتهما.
أثناء ارتشافها للشاي الأخضر في مكتبها، اعترفت زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا بأن قرارها القاضي بنقل قناعاتها السياسية إلى الحياة العامة مليء بالتحديات، إذ بعد تأثرها بموقف حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض لأوروبا، عملت فايدل بدوام جزئي لدى هذا الحزب طوال أربع سنوات قبل أن تخوض غمار الانتخابات المحلية، لتصبح تحت الأضواء في عام 2017، بعدما مثلت مقاطعة في ولاية بادن-فورتمبيرغ الواقعة جنوبي البلاد، وهذا ما جعلها تنضم لزميلها شروبالا في رئاسة الحزب عام 2022.
حزب تحت المراقبة
بعيداً عن رقابة الصحافة، تخضع فايدل اليوم هي وحزبها لرقابة رسمية في ثلاث ولايات ألمانية، وعن ذلك تقول: "من العبث أن يقرأ جواسيس المخابرات رسائلي وأن ينصتوا لمحادثاتي الهاتفية على الرغم من تزعمي لحزب معارض"، وتتابع بالقول إن خطيئتها الكبرى تتمثل بالدعوة لتأمين حدود ألمانيا، وتصف الوضع بقولها: "إن لم تنادي بفتح الحدود أمام الجميع، فستحشر في تلك الزواية المخصصة لليمين المتطرف".
ألمانيا وسياسات الهجرة "اللامسؤولة"
من خلال ما ذكرته السيدة فايدل، يمكن ربط معظم مشكلات ألمانيا بسياسات الهجرة اللامسؤولة على حد تعبيرها، خاصة ذلك الترحيب الذي أبدته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تجاه موجة اللاجئين الهاربين من الحرب السورية، برفقة غيرهم من المهاجرين، إذ تعلق على ذلك بقولها: "أرى بأنه على السياسيين أن يحددوا الجوانب السلبية الموجودة لدى جماعات معينة من المسلمين، فقد تجاوزت نسب الجريمة سقفها ويتحمل الناس الذين ينتمون لتلك البيئة الاجتماعية، وعلى رأسهم الأفغان، يليهم العراقيون فالسوريون، العبء الأكبر من نسب الجريمة".
كما أنها تنحي باللائمة على المهاجرين بسبب الأداء الضعيف لألمانيا في دراسة ظهرت مؤخراً ركزت على مقارنة وضع التعليم بين عدة دول، وهذا ما دفعها للقول: "لابد لمستوى التعليم أن يتراجع تلقائياً في حال قدوم مهاجرين من بيئة غير متعلمة لا علاقة لها باللغة (أي اللغة الألمانية) أو الثقافة (أي الثقافة الألمانية)"، وفي معرض هذا الحديث، استشهدت بشجار كبير وقع مؤخراً في مدرسة ببرلين شارك فيه بحسب وصفها فتيان تعود أصولهم للشرق الأوسط.
إلا أن أكثر من ربع الشعب الألماني البالغ عدده 85 مليوناً ينتمي لبيئة المهاجرين، لكن سجلات الشرطة تثبت بأن نسب الجريمة بدلاً من أن تزيد عقب موجة الهجرة تراجعت بشكل كبير خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 2016-2021 قبل أن تعود للصعود بنسبة بسيطة خلال العام الفائت. كما أن التصنيفات الأوروبية لمستوى الأمان العام تضع ألمانيا في وسط قوائمها بشكل اعتيادي.
بات الأجانب يشكلون نسبة متزايدة بين تلاميذ المدارس، ويميل هؤلاء إلى تحصيل علامات أدنى من نظرائهم الألمان في الامتحانات، غير أن نتائج الدراسة التي أجريت مؤخراً أثبتت بأن هنالك فروقات ضئيلة بين ألمانيا وبين دول الجوار التي تؤوي نسباً مماثلة من المهاجرين. كما تبين بأن المهاجرين في المملكة المتحدة يحققون درجات أعلى من نظرائهم البريطانيين، ما يوحي بأن مشكلة ألمانيا قد تعود لنظامها التدريسي لا لأعراق التلاميذ وجنسياتهم.
بالرغم من كل ذلك، فإن الخليط التي تعده السيدة فايدل والذي يضم مزاعم حول وجود اضطهاد وظلم وحول حالة الذعر في البلد ممزوجة بتلميحات معادية للهجرة وأخرى مدافعة عن النزعة القومية أصبح يلقى رواجاً أكبر ليس فقط ضمن القاعدة الحاضنة لحزبها، بل أيضاً ضمن نسبة متزايدة من الشعب الألماني، وأحد مؤشرات ذلك تتمثل بالتحول الذي أبداه حزب السيدة ميركل، أي حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، إذ في البيان الذي صدر عنه مؤخراً في 10 من كانون الأول استعاضت عن عبارة: "الإسلام جزء من ألمانيا" بصيغة تبدي ترحيباً بالمسلمين الذين يشاطرون الألمان بقيمهم.
على الرغم من تأخر هذا التحول، لابد لذلك أن يبث السرور في قلب السيدة فايدل، لكنها قد تزفر متحسرة وتقول إن ألمانيا خسرت ما يعرف بـ"الثقافة الرائدة"، إذ بعدما فتحت السيدة ميركل الباب على الخراب، عجلت الحكومة الائتلافية في ألمانيا، بيمينها ويسارها، هذا الانحدار، ومع ذلك، تقول السيدة فايدل وهي تضع فنجانها الفارغ فوق صحنه بكل رشاقة: "سنرى ما تبقى من البلد عندما يفرغون".
المصدر: The Economist