لا شك أن مشهد الموظف عبد العظيم واوية من المسلسل السوري الشهير "يوميات مدير عام" الذي وقع بشر أعماله بسبب مماطلته في توقيع معاملة لأحد المراجعين، ما زال عالقاً في أذهان معظم السوريين، وخاصة من هم في جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فهذا المشهد عكس وما يزال صورة الموظف في الدوائر الرسمية وهو يمارس سطوته "القانونية" والتعجيزية في كثير من الأحيان على المراجعين، حينما يطلب منهم توقيع معاملاتهم من دوائر أخرى ليست على ارتباط مباشر بمضمون المعاملة المراد توقيعها من الموظف إيّاه.
ولعل هذا التقريب الذي وضعناه أعلاه، هو التجسيد الحقيقي لروتين عمل المؤسسات السورية الحكومية منذ عقود، والذي يصب في صميم فشل سياسة إدارة تلك المؤسسات، ما يخلق أشكالاً من الترهل الإداري، الذي ينعكس مباشرة على أداء المؤسسات ونجاحها في خدمة المواطنين وحتى الموظفين والمتعاقدين، كما أنه يقتل ديناميكية العمل المؤسسي ويخلق جداراً صلباً بين المؤسسات والمديريات وبين من يطرق بابها.
الدكتور في الاقتصاد والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، كرم شعار، يعلّق على هذه الحالة بالقول "تُركز الغالبية الكاسحة من التحليلات الساعية لفهم أسباب تدهور الوضع المعيشي في سوريا على الفساد الحكومي الذي يسعى من يقف وراءه إلى التربح على حساب العامة. في حين يتم غالباً تجاهل أسباب التدهور، التي قد لا تقل أهمية، والمرتبطة بغباء السياسات الاقتصادية والإدارية التي يجري اعتمادها ليس بغرض التربح وإنما بسبب قلة الكفاءة".
اقرأ أيضاً: هل يُكرر نظام الأسد التجارب الفاشلة لحلفائه مع العملة الرقمية؟
ما الترهل الإداري؟ وما صوره؟
من الممكن إرجاع سبب الترهل الإداري، إلى إخفاق السياسات المتمثلة بالنهج الذي تتبعه الحكومة في إدارة شتى شؤون البلاد، في مجالات الاقتصاد والمجتمع وغيرها، وهذا النهج يؤدي بالدرجة الأولى إلى التدهور المؤسسي في البلاد ويخلق الترهل الإداري.
يشبّه شعار في حديث لموقع تلفزيون سوريا، الترهل الإداري في المؤسسات السورية بـ الترهل الجسدي، كوجود كمية كبيرة من الدهون في الجسم لا تخدم أي وظيفة عضوية فيه، بل تؤثر على نشاط تلك الوظائف وتحد منها، ويقول شعار إن هذه الحالة موجودة في المؤسسات والمديريات، حيث توجد نسبة كبيرة من الموظفين الذين هم بالواقع كالتراكمات الدهنية التي لا تقدّم أي منفعة حيث وجدت.
ولعل أقرب مثال على هذا النهج وفق شعار، هو ما أقرّته اللجنة الاقتصادية التابعة لحكومة نظام الأسد من توصيات في كانون الثاني الفائت، إذ تلزم هذه التوصيات جميع الجهات العامة التي تستدعي طبيعة عملها أعمال الحمل والعتالة بتأمين تلك الأعمال بموجب عقد بالتراضي مع نقابات الحمل والعتالة، ووفقاً لأحكام قانون نظام العقود الموحد رقم 51 لعام 2004.
ويوضح شعار أن الخلل في هذه التوصيات، يكمن في أن الإجراءات المعقدة والكثيرة التي يجب تنفيذها حتى يصل العامل (العتال) والجهة المشغلة إلى صيغة التعاقد على العمل.
وحتى يحدث ذلك فإن هناك جملة طويلة ومعقدة وغير ضرورية بحسب وصف شعار يجب أن تطبق، منها أن يشكل المحافظ لجنة مهمتها تحديد أسعار عمليات الحمل والعتالة ليصار إلى إبرام عقد بالتراضي، ومن ثم تشكل لجنة مهمتها وضع أسعار منطقية وواقعية لأعمال الحمل والعتالة تراعى فيها الأسعار المحددة من قبل المكاتب التنفيذية، ومن ثم وضع لائحة ضوابط وشروط لحسن سير العمل.
ويرى شعار أن جميع هذه الإجراءات غير ضرورية وأنها تُعيق سير العمل وإنجازه في الوقت المطلوب، خاصة إذا ما نظرنا إلى الباب الذي تفتحه للمفسدين والمتكسبين الذين سيهدرون مالاً ووقتاً.
ويقول إن توصيات لجنة الاقتصاد لم تنته عند وضع لائحة الضوابط والشروط، بل إن هناك لجنة يجب أن تشكل تضم في عضويتها عضو المكتب التنفيذي المختص بالمحافظة، وعضو المكتب التنفيذي في اتحاد عمال المحافظة، ومدير الشؤون الاجتماعية والعمل بالمحافظة، وممثلًا عن الجهة المعنية بموضوع التعاقد، ورئيس نقابة الحمل والعتالة لدى اتحاد عمال المحافظة المعنية، وممثلًا عن مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بالمحافظة.
وتُجسد عملية تشكيل اللجان واتخاذ الإجراءات والقرارات التنفيذية، الترهل الإداري الذي هو نتاج طبيعي لفشل السياسات، وفق رأي شعار الذي يعتبر أنها هزلية ولا تحفز المنتجين على الإنتاج.
ويشير شعار إلى أن توظيف مجموعة من العتالين لا يحتاج هذا الرقم "المرعب" من الموظفين واللجان، مؤكدأ أنه في الأساس يوجد قانون مخصص للعمال والمستخدمين وفق عقود متفق عليها، في إشارة إلى المادة 29 من قانون نظام العقود، الذي يقول "يجب أن تكون شروط استخدام العمال أو المستخدمين في أعمال العقد متفقة مع أحكام قانون العمل واتفاقية العمل الدولية رقم (94) المرعية الإجراء في الجمهورية العربية السورية، وعلى المتعهد العمل بكل ما يتطلبه هذا القانون وتلك الاتفاقية من أحكام، وعليه أن يطبق قانون التأمينات الاجتماعية".
اقرأ أيضاً: ذراع مالية وأخرى أمنية.. عقوبات قيصر تطول حازم قرفول وحسام لوقا
السوريون يعرفون أثر إخفاق السياسات الحكومية على الفساد
بالرغم من أن كثيرا من السياسات لا يسعى من وضعوها بالدرجة الأولى إلى التربح، فإن هذا لا يعني أنها لا تؤدي إلى حالة من الفساد ضمن طبقة المسؤولين عن تطبيقها.
حالة الترهل الإداري الذي ولّد فسادا مستشريا في الدوائر والمؤسسات يعرفها السوريون منذ سنوات طويلة وقد وثّقها كثير من الفنانين في مسلسلاتهم وأعمالهم من باب السخرية وانتقاد الواقع، إلا أنها كانت تحكي بصدق مرارة ما يقاسيه المواطن السوري من روتين فاشل ومعقّد حينما يكون لديه معاملة في مؤسسة ما، إذ يفتح هذا الروتين باباً واسعاً لفساد الموظفين وإشراك المراجعين به عبر دفع الرشاوى على سبيل المثال لا الحصر، ما يجعل الدائرة والمؤسسة مكاناً طبيعياً لممارسة هذا الجانب من الفساد بأريحية.
وعلى الرغم من أن هذه الحالة معروفة لدى السلطات التي تدير البلاد وعلى رأسها عائلة الأسد، فإنها لم تٌقدم أي حلول منطقية للتخلص منها، وهنا نتحدث عن حقبة زمنية طويلة توالت فيها وزارات ومديرون وكبار مسؤولين، فمسلسل مرايا على وجه الخصوص قدم حلقة جريئة عام 1986، تتحدث عن الروتين القاتل والممل وغير المنطقي لإحدى الدوائر في دمشق، والذي تسبب بإنهاء حلم أحد المراجعين في السفر إلى أوروبا.
وصوب القائمون على الحلقة، الانتقاد إلى رئيس النظام وقتئذ حافظ الأسد، عبر إشارة له على أنه هو المدير العام لعمل جميع المؤسسات في البلاد، ظهر ذلك حينما سأل الفنان سليم كلاس (وهو الذي جسد دور المراجع) من هو المدير العام المسؤول عن التوقيع الأخير لمعاملته التي طُلب منه توقيعها من شتى مناطق دمشق كـ المزة وبرزة والمرجة وصولاً إلى حرستا، قيل له إنه في مكتبه الذي يقع على جبل بحي المهاجرين، وعندما استفسر كلاس منتقداً هذا النوع من العمل غير المنتظم وما إذا كان المدير العام يعلم بذلك، قيل له إنه يعلم وإنه يراقب ما يجري في المؤسسات من وراء ستار قماشي كي لا تزعجه الشمس التي يراها تحرق رؤوس المراجعين اللاهثين وراء توقيع هنا وتوقيع هناك.