فقدت كلمة "تطبيع" معناها الأصلي لمعنى مناقض تماما في ظل استخدامها في سياق فتح العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تعد كيانا غير طبيعي في منطقتنا، وبينما كان من المفترض أن الذي يتبادر للذهن عند سماع كلمة تطبيع بالأساس هو العودة إلى وضع أو ظرف طبيعي وليس التعامل مع كيان غير طبيعي فإن الواقع لم يكن كذلك.
وفيما تصبح بعض الاستخدامات الخاطئة للمصطلحات عصية على التغيير مع تداولها فإن الواقع العربي واللغة العربية اليوم أمام فرصة لإعادة هذه الكلمة إلى نصابها الصحيح عبر التطبيع مع الطرف والعمق الطبيعي الذي ينبغي دعمه وهو المقاومة والشعب الفلسطيني في مشروع تحرره خاصة أن دول المنطقة كان لها تجارب في دحر الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي.
رأينا في السنوات الماضية استخدام مصطلح التطبيع بشكل مضلل في وصف العلاقة بين دول في المنطقة ودولة الاحتلال الإسرائيلي منذ اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول 1978 إلى اتفاقيات أبراهام في أغسطس آب 2020، وما تلاها، وذلك بسبب الهشاشة المتزايدة في الواقع العربي والتي كان الاحتلال الإسرائيلي يعمقها ويوظفها، ويبدو أنه كان لا بد من حدث كبير لإحداث هزة في جدار التصورات الموهومة وإعادة الطابع الحقيقي للتصورات فجاء حادث 7 أكتوبر الذي أظهر صورة الاحتلال الحقيقية سواء من حيث الإجرام والإدانة أو من حيث الهشاشة العسكرية والأمنية أو من حيث الاعتمادية على الولايات المتحدة ودول أخرى، كما أظهر بشكل جلي محدودية الاستثمار في العلاقة معه حتى دون الحاجة لدراسة جدوى.
واليوم نفترض أن يوم 7 أكتوبر وما تلاه أنتج واقعا ومخرجات لم يبق مجال محلي أو إقليمي أو دولي إلا وانطبع منها في شيء، وقد أظهر حدث 7 أكتوبر وما تلاه زيف الكثير من الصيغ التي ربما كانت مضللة أو غير واضحة حول طبيعة الكيانات الاحتلالية والعلاقة معها وخطرها وتهديدها الممتد إلى أوسع من جغرافيا فلسطين بشكل لا يمكن لأي عاقل أن يتجاهلها.
وفيما يرى عدد من خبراء اللغة أنه لتصحيح الاستخدام الخاطئ لكلمة ما فإنه ينبغي استخدام طرق مثل التعليم والتوعية والممارسة، ولكن في المجال السياسي فإن الفعل والممارسة لهما قوة أكبر ومع ذلك ينبغي على الكتاب والنشطاء أن ينظّروا للتصحيح عبر الممارسة من دول المنطقة التي ينبغي أن تعيد النظر في علاقتها مع المقاومة الفلسطينية للأحسن وتعيد النظر في علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي إلى الأسوأ وإلى الانفكاك من هذه الوصمة الثقيلة.
فيما يتعلق بالضغوط التي تقوم بها الولايات المتحدة على الدول الإقليمية للتطبيع مع دولة الاحتلال فإنها في ظل الواقع الدولي ليست قدرا محتوما بل يمكن تحديها ومقاومتها وعدم التجاوب معها.
تهاوي أسباب التطبيع
أولا وفي سياق الإجابة على سؤال أسباب "التطبيع" مع الاحتلال الإسرائيلي كان هناك اعتقاد سائد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ستكون بوابة الدول المطبعة لكسب رضا واشنطن تلك القوة المهيمنة على العالم، والمتحكمة في المشهد الدولي، وعند هذه النقطة نجد أن واشنطن لم تعد بتلك القوة التي تلت الحرب الباردة وباتت هناك قوى أخرى تتحداها وقوى كالصين تنافسها وقد تتفوق عليها قريبا كما أن قدرتها على فرض الوقائع أثبتت فشلها وكان نموذج أفغانستان من آخر الأمثلة على ذلك.
أما علاقة دولة الاحتلال الإسرائيلي مع الولايات المتحدة فهي نفسها أصبحت محل تساؤل فاليوم باتت الخلافات بالرغم من الموقف الأميركي المبدأي الداعم للاحتلال أكثر من ذي قبل، كما أن المجتمع والشارع الأميركي كما رأينا في مظاهرات الجامعات الأميركية الكبرى أصبح أكثر نفورا من دولة الاحتلال التي باتت صورتها كعبء على الولايات المتحدة تصبح أكثر ثقلا من ذي قبل وهذا سيكون له أثره بلا شك على التفكير المستقبلي في الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بالضغوط التي تقوم بها الولايات المتحدة على الدول الإقليمية للتطبيع مع دولة الاحتلال فإنها في ظل الواقع الدولي ليست قدرا محتوما بل يمكن تحديها ومقاومتها وعدم التجاوب معها. كما أن الدول التي "طبّعت" مع الاحتلال لم تجن سوى المزيد من المشاكل الأمنية الكبرى الداخلية أو الأزمات مع جيرانها.
قد يرى آخرون أن التعاون الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي وكذلك الاستفادة من التقدم التكنولوجي له هما سببان مهمان "للتطبيع" ولكن الوقائع أثبتت أن هذا الكيان نفسه هش أمنيا بل إن تصوراته الأمنية قد انهارت أمام حركة مقاومة وليس أمام دولة ولم يستطع أن يحمي نفسه يوم 7 أكتوبر، وكذلك الحال فإن التقدم التكنولوجي الذي وسم نفسه وجيشه به من خلال مصطلح جيش صغير وذكي يعتمد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي قد ثبت فشله كما أن هناك دولا غربية مثل أيرلندا والنرويج تفكر بسحب استثماراتها في هذه المجالات لدى الاحتلال وهو الأمر الذي فعلته جامعات أميركية تحت ضغط الطلبة والأكاديميين.
من زاوية أخرى نجد أن المنطلقات والتخوفات الأمنية لدى الدول "المطبعة" التي استغلتها الإدارة الأميركية ودولة الاحتلال الإسرائيلي وربما سعتا على إنمائها لتزيدا من مبيعات السلاح والتكنولوجيا استخدمت كفزاعة.
لتبقي قرارات الدول ومنظوماتها الأمنية مرتهنة لها، وفي ظل الواقع الدولي الجديد يمكن لدول المنطقة سواء دول الخليج أو تركيا أو شمال إفريقيا وبقية الدول أن تجد صيغة للأمن الجماعي توفر الكثير من المقدرات لهذه الدول وتجعلها تخصصها في رفاهية شعوبها لا في صيغة صراع لا ينتهي كما تريده واشنطن وتل أبيب.
بات واضحا أن المقاومة الفلسطينية بعد 7 أكتوبر باتت تحظى بدعم واسع من الجيل الشبابي عربيا وإقليميا ودوليا وسيكون هذا الجيل مراقبا وشاهدا.
مزايا التطبيع مع المقاومة الفلسطينية
قبل كل شيء إن التطبيع مع المقاومة الفلسطينية ودعمها في التخلص من الاحتلال هو واجب أخلاقي وإسلامي وعروبي وإنساني وهو كذلك مطلب لدى كل شعوب دول المنطقة وبالتالي تنسجم الدول الداعمة للمقاومة والمطبعة معها في المعاني الأقرب للاستقرار المستدام وتنسجم مع رؤية وتطلعات شعوبها مما يخدم أمنها الاجتماعي على المدى الطويل.
من زاوية أخرى أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها أصلب في مواجهة الاحتلال من الكثير من التوقعات وأن الاحتلال أضعف مما كان يروج له، كما أثبتت المقاومة أنها أكثر عقلانية ومرونة وأنها تتصرف بحكمة بالغة في المواطن التي تتطلب ذلك، وقد أظهرت ذلك في علاقاتها مع الوسطاء وفي تعاملها مع المبادرات حتى تلك التي جاءت من حلفاء للاحتلال وبالتالي فإن المقاومة الفلسطينية طرف يمكن التطبيع معه ودعمه.
على مستوى المكاسب السياسية والدبلوماسية فقد أثبتت الأشهر الماضية أن الدول التي امتلكت علاقات قوية مع المقاومة الفلسطينية أنها هي الأطراف المرشحة للعب دور الضمانة والوساطة والحضور الدبلوماسي على جميع المستويات فالقضية الفلسطينية قضية ذات أبعاد متعددة وتحظى باهتمام بالغ من جميع الأطراف الفاعلة.
بخصوص المستقبل وإثبات الاستقلالية بات واضحا أن المقاومة الفلسطينية بعد 7 أكتوبر باتت تحظى بدعم واسع من الجيل الشبابي عربيا وإقليميا ودوليا وسيكون هذا الجيل مراقبا وشاهدا على مواقف القادة والدول في لحظة التحول هذه هل كانت مواقف مستقلة تعبر عن تطلعات الشعوب مما يشكل رافعة قوية للقادة الذين يقفون الموقف الصحيح ويستفيدون منه أم كانت مطبقة لأجندات أخرى تبقى مسجلة في التاريخ كنقاط سوداء في مرحلة الهشاشة.
هناك فرصة تاريخية لإعادة المعنى الحقيقي والصحيح لكلمة التطبيع من خلال الممارسة عبر فتح الأبواب للمقاومة وقادتها، وعدم إعاقة شرعيتها المستحقة وبدعمها في جميع المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والإغاثية. وفرصة لخروج المنطقة من صبغة التبعية والارتهان للمواقف الأميركية والغربية التي تسببت بأذى كبير لهذه المنطقة وشعوبها.
بالتطبيع مع المقاومة سيزول الكثير من الهواجس الأمنية التي كانت لدى بعض الدول، وستفتح الأبواب للمصالحات الداخلية وستكون هناك فرص أكبر لطي صفحات من الماضي الثقيل المملوء بالصراعات، كما سيكون لذلك فوائد اقتصادية واجتماعية بل ونفسية، حيث إن علم النفس يُشير إلى عملية عودة الشخص إلى سلوكه الطبيعي بعد التعرض لصدمة أو مرض نفسي، وقد كان إنشاء دولة الاحتلال وفتح المحيط العربي للعلاقات بها صدمة واختلالا لا بد من العودة منه.
قد يكون الواقع الإقليمي الحالي مستعصيا على العودة للحالة الطبيعية ولكن لا بد من الاستمرار في تشخيصه على أنه واقع مريض لا يعبر عن مصلحة المنطقة ولا عن روحها ولا عن هويتها.