نال كتاب "قرن الديكتاتوريين" شهرة معقولة في فرنسا، الكتاب الصادر نهاية العام الماضي عن دار "بيرين -لو بوانت" من تحرير أوليفيز غويز، الصحفي والكاتب الفرنسي الذي عمل مع 22 كاتباً ودبلوماسياً ومختصاً، ليقدم لنا (سيرة) 22 ديكتاتور من القرن العشرين، وضعنا كلمة سيرة بين قوسين كون ما نقرؤه يتحرك بين الشهادات الشخصيّة والسرد التاريخيّ في محاولة لفهم الديكتاتوريات المتنوعة وأسلوب عملها، ويحضر الشرق الأوسط في الكتاب تحت أسماء، صدام حسين، معمر القذافي، الخميني والأسدين، حافظ وبشار.
الديكتاتور وصوره
يبدو الكتاب للوهلة الأولى مرجعياً ونتاج جهود قام بها المؤلفون لرصد روح العصر الديكتاتورية إن صح القول، إذ يخبرنا غويز في المقدمة عن "مواجهته" مع الديكتاتور، المرة الأولى كانت في برلين الشرقية، ثم في كوبا، لينتقل بعدها إلى "صور" الديكتاتور، مشيراً إلى أفيشات (قصاصات) الصحف التي كانت معلقة في منزل صديقه أثناء الدراسة في لندن.
يمر بعدها بتاريخ الديكتاتوريات القديمة، ويشير إلى مفهوم الطاغية والسيّد، ذي السلطة الذي لا تعلو سلطة عليه، كما يحاول رصد أسباب ظهور الديكتاتوريات في القرن العشرين، دول ما بعد الاستعمار، الانقلابات، الثورات، ثم يعدد صفات الديكتاتور، قلة النوم، الزهد أو الإدمان الجنسي، تعدد الألقاب، طبقاتهم الاجتماعيّة، والشرط الاستثنائي لظهور الطاغية.
تحاول المقدمة وضع منهج ما لفهم الديكتاتور، أولا كفرد "ناج مذعور... الأقل رغبة بالموت من بين الناس، ومحاصراً بالإحساس بالخطر" ثم كسياسيّ وسيد "يستفيد من الناس كوقود وطاقة أوليّة، لا من الثروات الباطنيّة، إذ يحرّك الجموع ويتحكم بحياتها وموتها. و يتضح من ذلك أننا أمام مقاربة سياسية -حيوية للديكتاتوريّة، التي تَنتهك الحياة وتوظف باراغدايم (المخيم) قانونياً لفرض هيمنتها على الجموع وإفناء أجزاء منها، ثم يصف غويز التكنولوجيا كفرصة ذهبية للديكتاتوريات لممارسة الهيمنة على الأفراد كما في الصين وروسيا.
تبقى كلمة ديكتاتور معلّقة دون تعريف واضح، مع إشارات إلى كتاب حنا أردنت "في الديكتاتوريّة"، وإحالات للفروقات بين الشموليّة والديكتاتوريّة، ومن أصل 690 صفحة، يشغل الأسدين الفصل الأخير، بـ34 صفحة، نشير إلى هذه التفاصيل الفيزيائيّة للكتاب، في محاولة ولو ساذجة، لقراءة نص "فرنسي" صدر بعد 9 سنوات من الثورة عن الأسد كديكتاتور، نص يصنّفه ضمن الطغاة، ربما بعيداً عن التعميمات والآراء المتداولة، ووفق قراءة سياسيّة لا فقط لشخص الأسدين بل للدولة وكيف وُظّفت كأداة قمعيّة.
الأسدان وأوهام ملامح الوجه
مؤلف الفصل الخاص بالأسدين هو بيرنارد باجلوت، دبلوماسي فرنسي، كان المستشار الثاني للسفير الفرنسي في سوريا بين عامي 1986و 1990، وشغل في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند منصب المدير لعام للأمن الخارجي، وما نتوقعه كقرّاء إما شهادة شخصيّة (جديدة) أو تحليلاً سياسياً لبنية الدولة في سوريا مع الأخذ بعين الاعتبار نظام التصنيف الأوروبيّ وأدواته في التسمية والتحليل والتوصيف فباجلوت خريج الـScience po و ENA، لكننا نجد أنفسنا أمام تعميمات، ومقاربات "صحفيّة" أكثر منها نقدية أو أكاديميّة لتاريخ سوريا، بل إن بعضها مجحف و متطرف أقرب لقراءة مدرسية واستشراقيّة تتجاهل "بنية الديكتاتوريّة" في سوريا وتربطها بجسد الأسديّن لا بالدولة كجهاز.
يبدأ الفصل بالتعريف بتاريخ الطائفة العلويّة، والقمع الذي تعرضت له تاريخياً وجذور التسميّة، جاعلاً طائفية "النظام" المفرطة مصدر قوته، بل إن سبب وجوده هو الانتقام الأقلوّي كون "العلويين مستعدين لقتل كل من يخالف (ديانتهم)"، هذه المقدمة التاريخية تمر بدور الاحتلال الفرنسي في حماية هذه الطائفة وإخراجها من الفقر بل ودعم الاحتلال برغبتهم بالاستقلال عن الباقي "السنّي"، ذاك المهتم بالتجارة وذو الجذور الضاربة في التاريخ.
مركزيّة الطائفية التي يقيم عليها الكاتب حجته لا تبدو متماسكة، فبرأيه "الأسد طاغية مشرقيّ أكثر منه ديكتاتور ستاليني" وهنا لا نعلم ما المقصود بالطاغية المشرقيّ هل يعني الباشاوات وشكل الحكم المرتبط بهم؟ أم كسرى؟ أم شيوخ قبائل ما قبل الدول؟.
ننتقل بعدها إلى سياسة الأسدين الخارجيّة التي يستفيض بها الكاتب، لكن ما يلفت الانتباه هي تلك التعليقات والتوصيفات على سلوكيات الأسدين الفرديّة، التي تتسل إلى النص لنرى أنفسنا أمام ما هو أقرب للأنثروبولجيا الزائفة والتحليل النفسي المبالغ به، إذ نقرأ صفات جمجمة الأسدين وجباههم وملامحهم، وسلوكياتهم، التي تقدم توصيفات أدبية ومجازيّة أكثر منها أداة للحكم. هناك أيضاً اقتباسات شعريّة في الفصل، مثلاً "الأسد الأب لا يمتلك مستشارين بل مخبرين" وغيرها من الحذلقات اللغويّة التي تخلق الرعب لدى القارئ ولا تفسر أو تحلل، بل تتشابه مع البروباغاندا الرسميّة، وما تحاول تقديمه من صورة عن رأس هرم السلطة، فطول بشار الأسد أو قصر باسل الأسد، تفسير ساذج لنظام الديكتاتوريّ في سوريا ولا يشير إلى الماكينة القانونيّة والسياسية التي تهيمن، بل فقط، يخلق إيماناً ساذجاً بالقوى (السحريّة) للديكتاتور وقدراته (الكريزماتيكيّة).
الأهم، الثورة في سوريا حسب الكاتب ليست إلا غضباً سنياً ضد النظام الذي يحمي ويدعم "كلّ العلويين"، و هذا أيضاً يبدو ساذجاً، تفسيرات ثقافويّة أكثر منها سياسّية ، كحالة التفسير الملفت للانتباه لكن غير المقنع المرتبط بقرف أدولف هتلر من اليهود، فهتلر كان مهووساً بالنظافة والنظام، واليهود كانوا "جراثيم" لا بد من إبادتهم، هذا الهوس الفردي المرضي مُلفت حين يؤخذ من زاوية دقيقة، لكن لا يفسرّ الاقتصاد الكامل وراء إبادة اليهود أثناء الهولوكوست، ذات الشيء في سوريا "الرعب العلويّ من السنة" لا يفسّر كيف يستمر النظام في "العمل" و"الاستمرار" سواء قبل الثورة أو بعدها، بصورة أخرى الحقد الطائفيّ غير كافٍ لإدارة دولة على مدى خمسين عاماً.
لا قدرة سحرية لديكتاتور
نشير إلى هذه العناصر التي وصف عبرها الكاتب نظام الأسد، لنشير إلى أن هذا التسرع أو السذاجة أو قدسية الشهادة الشخصيّة عن سوريا ممن اختبر الوجود فيها أو كان على تماس دبلوماسي مع مؤسساتها، يهدد المعارف الجدّية التي تحاول أن "تفهم" هذا النظام، لا بوصفه استثناءً تاريخياً، بل محصلة قوى وعلاقات داخليّة، لا يمكن اختزالها بحقد طائفي، أو صفات شخصيّة أو انتقام تاريخيّ، إهمال القمع المستمر بالزمن الذي مارسه النظام السوري في الداخل، عبر السجون ونظام المخابرات وأدوات المجازر والإخفاء والمصادرة، تجعل كلمات كـ"أربعين سنة من القمع" فارغة من المعنى، أو لم تمسّ كل السوريين ولم يختبروها بصورة يوميّة.
قراءة هذا الفصل وتقنيات "إدانة" الأسد ضمنه، لا تصلح لوصف حافظ الأسد أو بشار الأسد بالديكتاتور، صحيح أن الكاتب يشير إلى استخدام الكيماوي والمجازر على طول حكم الأسدين، لكنها تتبنى ذات البلاغة التي يريد أن يصدّرها النظام عن نفسه، تلك التي تقدم الأسدين كشخصيات أسطوريّة، ذات قدرات سحريّة، كـ 6 ساعات من النقاش مع مبعوث أميركي، وتلاعب بالكلام وأكاذيب أمام المسؤولين الدوليين، هذه حكايات لنشر الرعب والجدارة وليست دلائل وعي سياسي ونظام حكم، بل ترسيخ للصورة (المقدّسة) القائمة على مفارقات يوميّة، والإشكالي هو إن إخذنا هذه القدرات السحريّة على محمل الجدّ فهي تشير إلى "وعي" كامل وآني لدى الأسدين بما يحدث في كل سوريا ، وهذا (الوعي) ما زال محط الجدل، أي نعم الأسد ديكتاتور، لكن كيف ولماذا؟ وهل فعلاً هو شخصياً العقل المخطط لكل ما حدث؟.