طلبت من طلابي الجامعيين (الأتراك) الذين يتعلَّمون اللغة العربية أن يكتبوا موضوعاً عن كتاب قرؤوه في الماضي وأحدث تأثيراً في نفوسهم. وبالفعل كتب الطلاب موضوعاتهم عن كتب مختلفة، بحسب توجهاتهم واهتماماتهم.
كانت تلك التجربة مثيرة لي بشكل خاص، إذ طرحت في أعماقي العديد من التساؤلات حول الذوق الأدبي وكيفية تكوُّنه، فرحت أبحث حول هذا الموضوع، ووجدت ضالتي في كتاب مهمٍّ باعتقادي، اسمه (الذوق الأدبي.. كيف يتكوَّن؟) للكاتب البريطاني أرنولد بينيت، وهو كاتب متعدد الاشتغالات، روائي وصحفي وناقد وكاتب للسيناريوهات. الكتاب على صغر حجمه رحلةٌ ممتعةٌ، يعلِّمنا فيها بينيت كيف نتحوَّل من قرَّاء عاديين إلى ذوَّاقة للأدب عن طريق خطَّة مبسَّطة وشيِّقة.
يحدث في حياتنا العملية المزدحمة أن نجهل صدور بعض النتاج الأدبي والثقافي الذي يتمُّ طرحه في عالمنا المتسارع، وقد يتبجَّح أحدهم ويقول: إنَّ هذا الجهل سببه تهاون في المعرفة الأدبية، فيتَّهمنا بقلِّة الاطلاع وقصور الثقافة؛ فالمعرفة بكلِّ شيء –كما يدَّعي المتحذلقون- برستيج يجب علينا الالتزام به إذا أردنا بلوغ الكمال في المجتمع الذي ينتمون إليه، مجتمع الإتيكيت، والأناقة في الملبس، واللباقة في التصرُّف، والحقيقة تبتعد عن ذلك تماماً كما يدَّعي الكاتب في صفحات كتابه، فالإلمام بالأدب ليس مكمِّلاً لشخصية القارئ الثقافية، بل هو فعل أساسي يقوم به الإنسان، ولا غنى له عنه، فهو كما يقول الكاتب "جزء لا يتجزَّأ من احترام الشخص لذاته". ويكون الاطَّلاع على الأدب رفاهية فكرية ليست زائدة في مجتمع الثقافة؛ لأنَّها تعطي صاحبها كريزما ثقافية عالية تنبِّئ بتصالحه مع العالم من حوله.
ولكنَّ السؤال الذي لا يزال يراودنا تجاه هذا الكتاب -حتى هذه اللحظة- هو كيف نتحصَّل على الذوق الأدبي؟ وهل الطريق لتحقيق هذه الغاية شائكة ومعقدة؟ وهل هي متاحة لكل القرَّاء؟ يطرح الكاتب فكرة مهمَّة حول تكوُّن هذا الذوق فيقول: إنَّ كاتبي الأدب يمتلكون نشوة دائمة تستغرقهم لفترات طويلة، يواجهون بها عتمة العالم، هذه النشوة توقظ النفس البشرية، وتبعث الحياة فيها، وقراءة أدبهم ينقل هذه النشوة إلينا نحن القرَّاء؛ لأنَّنا في قراءتنا نشعر بما شعروه، ونستمتع بهذه النشوة، بمعنى أدق في هذه اللحظة بالذات تتغير علاقتنا بالعالم، وبهذا لا يبقى الأدب وسيلة للمتعة بقدر ما هو توجيه للإدراك والشعور، والإحساس المرهف بما حولنا.
القارئ الناشئ لا يستطيع أن ينتخب من الأعمال المعاصرة ما هو مناسب للقراءة، ولا يستطيع غيره فعل ذلك في الوقت الحاضر لأنَّ ذلك يتطلب وقتاً طويلاً، وهو ما مرَّ على الكلاسيكيات التي تكونت فيها آراء ناتجة عن أذواق موثوقة.
ويذهب الكاتب إلى الحديث عن مراحل متعددة يتوجَّب على القارئ تحقيقها بشكل متتابع ليتكوَّن عنده الذوق الأدبي، وأولى هذه المراحل تبدأ بالاطلاع على كلاسيكيات الأدب قبل الاطلاع على المنتوج الأدبي الحديث والمعاصر، على الرغم من أنَّ هذه الكلاسيكيات قد لا تقدِّم لنا المتعة ذاتها التي تقدِّمها لنا الكتب المعاصرة، ولو تساءل سائل: لماذا لا ينبغي على القارئ في بداية تكوين ذوقه الأدبي أن يقرأ أعمالاً معاصرة، سيجيبه الكاتب بأنَّ القارئ الناشئ لا يستطيع أن ينتخب من هذه الأعمال المعاصرة ما هو مناسب للقراءة، ولا يستطيع غيره فعل ذلك في الوقت الحاضر؛ لأنَّ ذلك يتطلب وقتاً طويلاً، وهو ما مرَّ على الكلاسيكيات التي تكونت فيها آراء ناتجة عن أذواق موثوقة.
ولا يكفي أن يقتني القارئ هذه الكلاسيكيات بشرائها ووضعها على رفِّ المكتبة معطياً بذلك صكَّاً وهمياً بأنَّه شخص مثقف، فهذا يختلف كلَّ الاختلاف عن تحقيق العنصر المادي في المرحلة التالية لتكوين ذوقك الأدبي، وهو أن تحيط نفسك بالكتب، أي أن تخلق جوَّاً ثقافياً، من دون أن تفكِّر بأيِّ كتاب ستبدأ، المهم هو تحقيق الألفة مع شكل الأدب، أو المظهر الثقافي، وابدأ بعدها بالتصفُّح، إذ لا يحتاج متذوقو الأدب لتقسيم الأدب إلى فروع وأقسام، بل يجب أن يعتقدوا بوحدة الأدب؛ لأنَّ الأدب بكلِّ فروعه كما يقول الكاتب: "تعبير عن المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تحدث نتيجة للإحساس بمتعة الحياة وجمالها"، وكلِّما تطور الذوق الأدبي استطاع القارئ أن يتلمس هذه المشاعر، سواء كانت ظاهرة أم كانت مضمرة. ولا بدَّ في هذه المرحلة من الحوافز والتنظيم، فمن المعروف أنَّ الطبيعة الإنسانية هشَّة وضعيفة وتحتاج للتحفيز الدائم، كما تحتاج هذه العملية لعنصر الوقت المنظم من خلال تخصيص ساعات محددة للقراءة والانضباط بها، كأن يقول أحدنا "سأطَّلع على أعمال الكاتب فلان قبل مضيّ عام من عمري".
وبعد أن تتم هذه المراحل ينصح الكاتب بتخصيص وقت لكاتب معين، وليس من الضروري أن يكون هذا الكاتب غزير الإنتاج، مثل محمود درويش، بل يمكن أن يكون على سبيل المثال أمل دنقل، سيقوم القارئ في مرحلة تالية بدراسة نتاجه، وبذلك سيكتسب خبرة واضحة عن أدب ذلك الأديب، وعن أشياء أخرى في العالم جاءت متعلقة بهذه المعرفة، بعبارة أخرى سيصبح القارئ خبيراً وقادراً على تقييم كلِّ ما يقرؤه ويسمعه في المستقبل عن ذلك الأديب، وسيشعر القارئ بالفخر، وهذا الشعور بحدِّ ذاته سيكون حافزاً للاستمرار قدُماً لقراءة نتاج أديب غيره في المستقبل.
أمَّا عن كيفية القراءة فلا يبخل الكاتب في وصفها بدقة، فهي قراءة تتسم بالعناية والبطء والتمعُّن والتوُّدد والترفُّع عن المساعدة التي تقدمها القراءات النقدية المطروحة في بداية الكتب الأدبية، لذلك فإنَّه ينصح بوضع هذه القراءات في نهاية الكتب لا في مقدمتها، وإنَّه لمن المثير للاهتمام أن يضع القارئ هدفاً إضافياً يرافق هدف المتعة التي يبحث عنها كلُّ قارئ كأن يكون الهدف أخلاقياً أو سياسياً أو دينياً أو معرفياً، إنَّ كلَّ كتاب سيقودك إلى الآخر حتماً؛ لأنَّ الأدب متصل ببعضه ولا حواجز تفصل بين أجزائه، من دون أن يكون للقارئ تحيزاً تجاه نوعٍ بعينه، فيجب على القارئ الذي يكوِّن ذوقه الأدبي أن يتغلب على هذا التحيُّز، كأن يتحيز للرواية ويهمل الشعر أو العكس.
وبعد أن تتم القراءة لعام كامل قم بوضع قائمة بتلك الكتب التي قرأتها خلال هذا العام، ثمَّ انتخب أكثرها قرباً منك، "واختبر أجزاء عقلك وابحث عن الأفكار والمشاعر التي جنيتها من قراءة ذلك الكتاب، واسأل نفسك عدداً من الأسئلة:
ماذا يتبادر إلى ذهنك في حياتك اليومية من ذلك الكتاب؟ على ماذا يسلِّط هذا الكتاب الضوء؟ كيف أثَّر بك وبعلاقاتك مع الأشخاص والأشياء؟ هل جعلك هذا الكتاب أكثر رهافة في تعاملك مع العالم من حولك؟
إنَّ الإجابات هي التي ستحدِّد درجة تطور ذوقك الأدبي، وفي النهاية لا يجب أن يهمّك بوصفك قارئاً الكمُّ الذي تقرؤه في بناء عالمك الفكري، إنَّ ما يهم حقاً أن تقرأ الكتاب الذي يحثك على التأمل، الذي يجعل علاقتك بالعالم عميقة ونقية.