مهما بلغت البشرية من تطوّرٍ تكنولوجي عبر سباقٍ محموم مع الزمن، ضد الطبيعة والحواس وعوالم الواقع. ومهما خاض العالم في برَك الفوضى والحروب والعنصرية والجائحات المستجدة، وفلسفات الأقطاب والهيمنة والتسليح وموارد الطاقة والاحتباس الحراري واليمين المتطرّف والإسلاموفوبيا و"مكافحة الإرهاب" وأزمة القمح و"زيت القلي"... وحده الكتاب يبقى سيد الموقف السرمدي.
لكل شيء في الوجود قيمته المحدودة، أما الكتاب فلا يقاس بقيمة! هل جرّب أحدنا أن يحدد قيمة ما قرأ؟ هل فكرنا يوماً ما أن نمحو من تلافيف أدمغتنا فكرةً تعلمناها من كتاب أو مفهوماً انتزعناه من سطوره وشكّل جزءاً من ثقافتنا؟
لا شك أن بإمكاننا الحصول على أي كتاب نود اقتناءه مقابل دفع ثمنه أو بالمجان، وبإمكاننا بعد ذلك رصفه –إن كان ورقياً- بجوار أقرانه على الرفوف، أو إعارته أو حتى حرقه. وفي حال كان نسخةً إلكترونيةً، فبإمكاننا وبمنتهى البساطة أن نضغط على زرّ (Delet) ليصبح هباءً منثورا. لكننا بالتأكيد لا نملك صلاحية إبطال مفعول السحر الذي تلبّسنا بعد قراءة مضمونه، بصرف النظر إن كان سحراً أسودَ أم أبيض أم رمادياً.
في هذا اليوم الذي خُصّص للاحتفاء بالكتاب (اليوم العالمي للكتاب) لا يسعني إلا العودة بالذاكرة إلى عقد الثمانينيات، ذلك العقد الذي شهد مراحل التعليم المدرسية الأولى لأبناء جيلي، وليعذرني أبناء الأجيال السابقة واللاحقة لعدم إلمامي بتفاصيل علاقتهم مع الكتب. في مطلع ذلك العقد درسنا الابتدائية وأنهيناها مع مونديال المكسيك (حزيران 1986) الذي ما يزال أبناء ذلك الجيل يعتبرونه الأجمل في تاريخ كأس العالم على الإطلاق.
خلال تلك السنوات، ولأسباب عدة تتعلق بعامل السنّ وبالوسط الاجتماعي/ الثقافي وبالحالة المادية... تربّعت كتبنا المدرسية على قمة أولوياتنا الثقافية، إلا أننا تمكّنا آنذاك من ابتكار وسط ثقافي رديف تمثّل في سلسلة كتب "الألغاز" و"المغامرون الخمسة" و"الشياطين الـ13"، التي كانت عبارة عن روايات بوليسية (بين 45- 55 صفحة) مخصصة للأطفال، تصدرها دار الهلال المصرية بقلم الكاتب الراحل محمود سالم.
أتذكّر جيداً كيف كنا نتبادل أعداد السلسلة التي كنا نجمع ثمنها من مصروفنا اليومي (وصل ثمن العدد في منتصف الثمانينيات إلى 150 قرشاً سورياً على ما أذكر) ثم يتبرع أجرؤنا للذهاب إلى المكتبة وشراء العدد وإخفائه داخل حقيبته المدرسية كيلا يكتشفه الأهل الذين كانوا ينظرون إلى السلسلة كتسلية تلهي عن الدراسة وواحدة من أسباب الفشل التعليمي و"الدشر" عن المدرسة. والأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل كنا في أغلب الأحيان نناقش مضامينها كلما انتهينا من قراءتها.
في نهاية عقد الثمانينيات، كنا قد أنهينا الإعدادية ودخلنا في المرحلة الثانوية بكل ما شابها من تغيّرات ذهنية ونفسية وجسدية، دفعت إلى إطلاق مصطلح "سنّ الغلاظة" على أبناء تلك المرحلة العمرية.
كنا نتداول عبارة طريفة تقول: "غبي كل من يعير كتاباً.. والأغبى منه هو الذي يعيده إلى صاحبه"
في مدينتي دير الزور، كان يُطلَق على أبناء جيلنا –ظلماً وبهتاناً- مسمّى "عجيان الدربات"، أي: فتيان الحارات باللهجة المحلية، ويُقصد بها الفتيان الذي يقضون أوقاتهم في التجوّل بين حارات المدينة والوقوف عند زواياها (رأس القُرنة) بهدف البصبصة وانتظار انصراف فتيات الثانوي من مدارسهن، وأحياناً –بل أغلب الأحيان- بهدف "التلطيش" (التنقير) عليهن.
على أي حال، وبعيداً عن الجانب الأسود والفضائحي من حياتنا في تلك المرحلة، تشكّلت لدى فئة لا بأس بها من أبناء جيلنا حالة من النزوع إلى المطالعة والاهتمام بالكتب، وربما ساهمت قراءة الروايات البوليسية سابقاً في تطوّر هذه الرغبة، إلا أن أحد الأسباب الرئيسة الكامنة خلفها يتجسّد في التعطّش الشديد إلى توسيع آفاق مداركنا الثقافية ما يساعد على كسر مفهوم "سنّ الغلاظة" و"عجيان الدربات"، لدرجة أننا كنا نتقصّد حمل رواية ما أو ديوان شعر أو مجموعة قصصية أو كتاب لأحد الفلاسفة، ونحن نقف عند "رأس القرنة" بانتظار انصراف الفتيات!
كنا نتداول عبارة طريفة تقول: "غبي كل من يعير كتاباً.. والأغبى منه هو الذي يعيده إلى صاحبه". في مدينتي، وأظن في بقية المدن السورية كذلك، شكّل اليساريون (الشيوعيون تحديداً) في تلك المرحلة الفريق الأكبر من المثقفين ومن مقتني المكتبات المنزلية المتخمة بالكتب والمؤلفات. وبمعزل عن كتب المضامين الأيديولوجية التي تضمها غالبية مكتبات الشيوعيين مثل: مجلدات "مختارات لينين" و"مختارات ماركس وأنجلز" و"موضوعات في الاشتراكية العلمية"، وكتب "رأس المال" و"المادية الديالكتيكية" و"المادية التاريخية"... إلخ، كانت مكتباتهم تزخر بالمؤلفات الأدبية من شعر ورواية ونثر، بالإضافة إلى كتب الفلسفة المختلفة والفكر السياسي.
وبطبيعة الحال، غالباً ما كانت عائلات الدير تضمّ "رفيقاً" شيوعياً واحداً على الأقل، إما أخ أو أب أو عمّ أو خال أو ابن خال أو ابن عم أو صهر... وبحسب تجربتي، كانوا لا يمانعون البتة في استعارة أي كتاب من رفوف مكتباتهم. وبهذا الصدد، أذكر أنني كنت أستعير كتباً بشكل شبه يومي من مكتبة ابن عمّ والدي اسمه "خليل" –رحمه الله. وكنت أختار دائماً الروايات والمجموعات القصصية المترجمة؛ لتولستوي وتشيخوف ودستويفسكي، ولكتّاب آخرين معظمهم من دول أوروبا الشرقية ومن أميركا اللاتينية، وكذلك لأدباء عرب وسوريين كالطيب صالح وغادة السمان، والقليل من حكايات العجيلي.
في إحدى المرات، دخلت مستعجلاً إلى غرفة المكتبة وتناولت كتاباً لم يضمّ غلافه سوى رسم لرجل يرتدي بزّة حمراء ويمتطي حصاناً أبيض، وفوقه كُتب العنوان فقط –بدون اسم المؤلف. ومن اللوحة والعنوان ظننت أنه رواية، فحملته وتوجهت نحو منزلنا.
فور دخولي إلى المنزل وجدت أفراد أسرتي يتناولون الغداء، فوضعت الكتاب على الطاولة وجلست أشاركهم. بعد دقائق قليلة نهض والدي وتناول الكتاب وراح يقرأ العنوان بصوت مرتفع: "إلى الأمام". ثم قلب صفحة الغلاف وأردف يقرأ: "يا عمال العالم اتحدوا". ثم راح يزمّ شفتيه وينظر نحوي دون أن أفهم مغزى الموضوع أو معنى العبارة، ولكن الشيء الوحيد الذي فهمته آنذاك هو أن والدي –رحمه الله- يضمر شراً ما بداخله. ظل واقفاً حتى انتهيت من طعامي، وبمجرد وقوفي "طرقني" بالكتاب على رأسي حتى شعرت أن صفحاته اختلطت بتلافيف مخّي، ثم راح يصيح: "صاير شيوعي يوااال!". وأنا في تلك الفترة كنت مجرد مسكين لا يميّز بين كلمة شيوعي وشيعي وشعبوي وشعاع الليزر! ولا أعرف ما تعنيها كل تلك الكلمات أصلاً.
منذ تلك الخبطة وأنا أشعر أن الكتاب أصبح جزءاً لا يتجزأ من رأسي، ليس ذلك الكتاب بالطبع وإنما الكتب بشكل عام. وبمعزل عن المشهد الأخير، شكّلت تلك المرحلة بالذات، بداية رسم الجانب الثقافي في حياتي وحياة أصدقائي اللاحقة، وبالرغم من العدد الكبير للكتب التي قرأتها لاحقاً وتنوّع مضامينها، ظلّ أثر قراءات تلك الحقبة فاعلاً بصورة استثنائية. وإن لم يكن له دور في تحديد دراستي الأكاديمية أو المهن التي مارستها فيما بعد، إلا أن الأثر الذي أقصده تجلّى في تكوين قاعدة أخلاقية أساسية لي ولأصدقائي المعاصرين، تمثّلت في احترامنا اللامحدود للكتب، كل الكتب.
كل عام والكتاب بخير