هل يستطيع السوريون تحقيق حلمهم في "سوريا الجديدة"؟

2024.08.24 | 05:51 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2024 | 05:51 دمشق

5433333333333
+A
حجم الخط
-A

في خضم الحديث عن تسويات ومصالحات دولية، اتبع النظام السوري استراتيجية لاستقطاب الأسماء المهمة في المجالات الفنية والأدبية والعلمية، بتقديم ضمانات وإغراءات مادية ومعنوية للعودة إلى سوريا، لتجميل واجهته الدولية والمحلية.

فبعد سنوات من العزلة، يحاول إظهار نوع من "الاستقرار" و"العودة إلى الحياة الطبيعية"، وهو في ذلك بحاجة إلى استخدام الشخصيات المؤثرة التي تملك شعبية للمساهمة في مآربه، مستغلاً بذلك حالة الحنين الوطني.

ترافق ذلك مع مؤشرات على أن بعض الدول في المجتمع الدولي بدأت تتجه نحو تعويم النظام السوري وإعادة تأهيله على الساحة الدولية، سواء بإعادة علاقات دبلوماسية أو عودة مشاركته في منظمات عربية وإقليمية أو ما يدور في كواليس الأروقة السياسية في الدول الغربية، وهو توجه يأتي بعد سنوات من العزلة والعقوبات التي فُرضت على النظام منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، بدعم روسي وإيراني مستمر لمنحه الشرعية من خلال المشاركة في المحافل الدولية.

تدّعي بعض الدول أن بقاء النظام هو ضمانة لتحقيق نوع من الاستقرار في المنطقة، خاصة في ظل الخوف من فوضى أكبر قد تنجم عن انهيار النظام، وتدعمه بتقديمه حليفاً لمكافحة الإرهاب.

ومع ذلك، هناك معارضة قوية من منظمات حقوق الإنسان وأجزاء من المجتمع المدني الدولي لأي محاولات لتعويم النظام من دون محاسبة على الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها في حربه ضد السوريين. ومع دوام الوضع الإنساني الصعب في سوريا واستمرار الانتهاكات وغياب الحريات، تزداد تعقيدات شرعنة النظام على المستوى الدولي.

مهما كان السيناريو المخطط له في سوريا، فإنه من الحتمية أن يمر بطريق تحقيق العدالة الجنائية وملاحقة مجرمي الحرب في سوريا، لكن ذلك يمثل تحديًا كبيرًا، غير أنه ليس مستحيلاً في حال توفرت الإرادة الدولية لإحالة القضية السورية إلى المحكمة عبر مجلس الأمن الدولي.

كذلك، يمكن رفع قضايا ضد مرتكبي الجرائم في المحاكم الوطنية في بعض الدول التي تقبل مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل ألمانيا وفرنسا، وتقديم الدعم القانوني للضحايا الذين يسعون لرفع دعاوى قضائية في هذه الدول بالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية لتعزيز الجهود الرامية إلى محاسبة الجناة.

إن الشرعية الحقيقية لأي حكومة تعتمد على قدرتها على تلبية احتياجات مواطنيها واحترام حقوقهم الأساسية، وهو ما فشل النظام السوري في تحقيقه وعجزت المعارضة عن اكتسابه.

غير أننا وإن ثمّنّا الجهود الفردية، فإن مساعي تحقيق العدالة الجنائية تحتاج إلى جهد جماعي، وهو أمر يشكل أساسًا واضحًا لأي مستقبل يخص السوريين، لأن أي سيناريو يصبح محفوفًا بالمخاطر من دون تحقيق العدالة الانتقالية.

لقد فقد النظام السوري من منظور العديد من السوريين والمراقبين الدوليين شرعيته بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من قتل وتعذيب وتهجير قسري، ما أدى إلى فقدان الثقة به لدى جزء كبير من الشعب السوري. ومع ذلك، يبدو المجتمع الدولي متمسكًا بوجوده كونه لا يزال يسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد، أهمها العاصمة دمشق والمدن الرئيسية الأخرى، والقدرة على الاحتفاظ بمؤسسات الدولة وإدارتها، وبسبب ضعف مؤسسات المعارضة وعدم تنسيقها وانقسامها.

إن الشرعية الحقيقية لأي حكومة تعتمد على قدرتها على تلبية احتياجات مواطنيها واحترام حقوقهم الأساسية، وهو ما فشل النظام السوري في تحقيقه وعجزت المعارضة عن اكتسابه، لتبقى الكرة في ملعب السوريين أنفسهم فيما يخص علاقاتهم مع بعضهم البعض.

يعتمد مصير العلاقات السورية-السورية في حال بقاء نظام الأسد وإجراء مصالحات دولية على عوامل سياسية واجتماعية، وشروط تشمل تنازلات كبيرة من النظام أو تغييرات في بنيته، وهو ما لن يكون من السهل قبوله بالنسبة إليه. لذا، سيكون هناك تحدٍ كبيرٌ في استعادة الثقة بين مختلف الأطراف السورية بسبب سنوات طويلة من الصراع والمعاناة.

أما إذا كانت المصالحات الدولية تقتصر على تعزيز موقع النظام من دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع، فقد يؤدي ذلك إلى استمرار التوترات الداخلية، مما قد يعزز الانقسام المجتمعي ويؤدي إلى تجدد النزاعات بأشكال مختلفة. فإذا لم تكن المصالحات الدولية تشكل فرصة لتخفيف الصراع السوري، لا بد من إعادة النظر فيها وضرورة الوصول إلى حل يقبل السوريون التعايش معه. أما محاولات المصالحة السطحية التي تجمل الأمور ولا تحل المشكلات من جذرها، فمصيرها الفشل لأنها ستكون هشة ومؤقتة ومحدودة الأثر على المدى الطويل، ولا تحقق عملية انتقالية شاملة تشمل إصلاحات سياسية وإعادة بناء الثقة بين جميع الأطراف.

كذلك، إن إجراء مصالحة من دون عدالة انتقالية يعد تخطياً لمرحلة مهمة في إعادة البناء والإعمار. فالمصالحات التي يريدها السوريون اليوم ليست سياسية تُجرى من خلال صفقات سياسية دولية أو تشمل تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة فحسب. السوريون بحاجة إلى بداية جديدة، لا شك في ذلك، لكن ذلك يجب أن يمر عبر قنوات مدروسة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، كي لا تُترك جروحًا مفتوحة.

قد يصل الأطراف إلى اتفاقات مصالحات بضغط من القوى الدولية والإقليمية التي تهدف إلى تحقيق استقرار سريع لأسباب استراتيجية، من دون التركيز على العدالة الانتقالية، لكن مثل هذه المصالحات قد تحقق تهدئة مؤقتة ولا تعالج المظالم العميقة.

يبدو أن المجتمع الدولي يعمل وفق آلية إغفال العدالة الانتقالية بمرور الزمن، "النسيان التدريجي مع الوقت"، إذ إنه مع مرور الوقت، ستأتي أجيال جديدة مختلفة أو سيتغاضى السوريون ممن أتعبتهم الحرب عن قضايا العدالة الانتقالية ببساطة، بالتركيز على المستقبل من دون النظر إلى الماضي.

إن هذه السيناريوهات، رغم أنها قد تحقق نوعًا من المصالحة، تحمل مخاطر كبيرة. فتجاهل العدالة الانتقالية التي ينتظرها السوريون قد يؤدي إلى استدامة الشعور بالظلم والانقسام، مما يزيد من احتمالية تجدد الأزمات المجتمعية في المستقبل. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل هي أساس لتحقيق سلام دائم وشامل، وقد تكون المصالحة في غيابها هشة وغير مستدامة.

إن أفضل ما قد تفعله هذه السيناريوهات هو إدخال سوريا في حالة من "اللاسلم واللاحرب"، حيث يتوقف العنف واسع النطاق، لكن تظل المناطق المتضررة تعاني من توترات خفية وانعدام الثقة.

إن سوريا الجديدة في حال بقاء النظام السوري بعد الثورة ستكون دولة تحمل إرثًا ثقيلاً من الصراع والتناقضات، ويصعب التنبؤ بشكل دقيق بمستقبلها. من المؤكد أن النظام سيواصل تعزيز قبضته على السلطة مستخدمًا الأساليب الأمنية والقمعية التي استخدمها في الماضي، وسيستمر في مراقبة وتقييد أي معارضة محتملة، مع الحفاظ على نظام الحكم المركزي الصارم، وسيغض المجتمع الدولي النظر عن ذلك لأنه يرى فيه ضامنًا للاستقرار في سوريا، وهذا قد يدفع دولاً إقليمية ودولية للتعاون معه في قضايا مثل مكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار.

سيسعى النظام إلى تغيير الواجهة السياسية للإيحاء بتغيير السياسات، ويعمل على تحقيق إصلاحات اقتصادية محدودة بهدف تحسين الظروف المعيشية وتهدئة الاحتجاجات الشعبية المحتملة، لكن هذه الإصلاحات قد تكون سطحية ولا تعالج الأسباب العميقة للفقر والفساد، ولن تنعكس على المواطن الأكثر احتياجًا وفقرًا.

إن أفضل ما قد تفعله هذه السيناريوهات هو إدخال سوريا في حالة من "اللاسلم واللاحرب"، حيث يتوقف العنف واسع النطاق، لكن تظل المناطق المتضررة تعاني من توترات خفية وانعدام الثقة. الركود السياسي وغياب الديمقراطية ركنان أساسيان في هذه الحالة، لأنه من غير المحتمل أن يتم تحقيق أي تقدم حقيقي نحو الديمقراطية في حال بقاء النظام وتبعيته لحلفائه الدوليين مع غياب الحريات السياسية والمدنية وحالة الزهد السياسي التي تخيم على السوريين.

قد يسود شعور بالإحباط والاستياء إذا لم تتحقق الأهداف الأساسية للثورة، وربما ينزع الشباب والعقول إلى الهجرة خارج البلاد بحثًا عن فرص أفضل، وهو ما سيجعل من "سوريا الجديدة" في ظل بقاء النظام دولة تواجه تحديات كبيرة في تحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية.

واستنادًا إلى ما سبق ذكره، يبدو أن المجتمع السوري سيُترك لمصيره، لتكون مأساته مجرد آثار جانبية لما حصدته دول العالم الأول من ثمار العبث بالقضية السورية.