ربما من غير المبشر أن يكون عمر الرئيس التشيلي الجديد الفائز بالانتخابات التي انتهت قبل أيام غابرييل بوريك، هو 35 سنة، فهذه العلامة بالنسبة للسوريين، تذكرهم مباشرة بأن الديكتاتور الذي مازال يحكم بلادهم، بعد أن دمرها، وقتل شبابها، واضطر أهلها إلى النزوح واللجوء، كان عندما تولى منصبه، بعد موت والده، قد بلغ من العمر 34 سنة، ما دفع حاشية النظام إلى تعديل الدستور كي يتيحوا له الوصول إلى رأس السلطة بشكل قانوني!
طبعاً، قصة العمر هي فسحة تندرٍ هنا، وليست حمالة حقائق، خاصة وأن الظروف بين البلدين مختلفة نسبياً، لكنها تتيح المجال، للدخول إلى الأسئلة التي يطرحها قدوم اليسار مرة أخرى إلى حكم بلد آخر في أميركا اللاتينية، وعلاقة هذا البلد، وتلك البلدان بقضية السوريين، لا سيما وأن كل ما صدر عن الحكام اليساريين تجاه النظام الأسدي، طوال العقد الماضي، لم يكن مريحاً بالنسبة للثائرين، إذ اتصفت مواقفهم بالعماء الكامل، مع سيطرة للخطاب الديماغوجي المبني على "ضرورة دعم النظام المعادي للإمبريالية في وجه تدخلاتها في شؤونه الداخلية، ومساندته في وجه العصابات الإرهابية الرجعية التي تحاربه على أرضه"!
من المؤكد أن تشيلي حالة خاصة، في سياق نضالات شعوب هذه الدول، من أجل الحصول على العدالة الاجتماعية، مع تذكر أن أولى تجارب تحطيم إرادة الشعوب في المضي ديمقراطياً نحو الاشتراكية، نفذتها الطغمة العسكرية ضد حكومة الرئيس سلفادور أليندي، الذي قتل وهو يدافع عن القصر الجمهوري في سانتياغو عام 1973، لتعمل الإدارة الأميركية التي رعت الانقلاب ومولته، إلى تحويل البلاد إلى نموذج اقتصادي، يتم فيه بيع مؤسسات القطاع العام إلى شركات خاصة، لا يراعى فيه الحفاظ على حقوق الطبقات الفقيرة أو المتوسطة، بل يتم السعي بدلاً من ذلك إلى إغراقها في عملية تصفية إجبارية، تتكفل بجعل الجميع يقبلون بالحلول الليبرالية كإنقاذ لهم، من الغرق في العوز.
هذه السياسية التي سمتها الباحثة الكندية نعومي كلاين "عقيدة الصدمة" فحمل كتابها الذي كرسته لها الاسم ذاته، بدأت في ذلك البلد، لكن عجلات ماكينتها لم تتوقف هناك، بل إن تعميم هذا النموذج كان جزءاً من خطة مدرسة شيكاغو للاقتصاد، التي أدارها الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان، من أجل السيطرة على اقتصادات الدول الناشئة، والمتحررة من الشيوعية، ودمجها في السياق الرأسمالي العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة!
نتذكر هذه التفاصيل، من أجل وضع الخطوط الفاصلة، بين السائد وبين المحتمل، في مواقف القوى السياسية التي تصل إلى السلطة، بموجب دفاعها عن قضايا شعوبها العادلة، ولكنها تتخذ مواقف لا أخلاقية وغير منصفة، وربما غاية في الرجعية، تجاه نضالات شعوب أخرى في مواجهة أنظمة ديكتاتورية.
إذ تجعلنا مباركة، وكذلك ترحيب ثلاثة من الرؤساء اليساريين الديكتاتوريين (الكوبي ميغيل دياز كانيل، الفنزويلي نيكولاس مادورو، النيكاراغوي دانيال أورتيغا) بالمرشح اليساري الشاب، في حالة شك وخشية من أن ينتهج الرجل الموقف ذاته من نظام الأسد!
المقارنة بين ظروف نضال التشيليين الحالية ضد الحكومات اليمينية المتلاحقة منذ نهاية حكم الجنرال بينوشيه، توضح أن الحكام الذين واجههم يساريو اليوم، تحلوا بالروية في تعاطيهم مع الجمهور، مقابل سياسة طغمة الجنرالات الذين قتلوا كل من واجههم، فلم يسلم منهم حتى المغني فيكتور جارا، الذي تمت تصفيته بطريقة وحشية فصار المثال المكرس لحالة الفن في مواجهة الديكتاتوريين، واعتقلوا عشرات الآلاف من الشباب الثائر، وقاموا بتصفيتهم في السجون، ودفنهم في مقابر سرية!
ناضل التشيليون بعد سقوط الديكتاتورية في الإطار الديمقراطي السلمي، الذي كان جزءاً من تبعات التحول الاقتصادي الليبرالي، فلم تتكرر أفعال مجرمي العسكر، وصار بإمكان القوى السياسية الديموقراطية أن تصنع مراجعة للماضي، وتقرر المضي في محاكمة رموز المرحلة السوداء من تاريخ السلطة، فأوصلت الديكتاتور السابق إلى المحاكمة، فألقي القبض عليه في لندن، في نهاية عام 1998، واحتجز في الإقامة الجبرية لسنة ونصف، قبل أن يعود إلى بلاده ليحاكم هناك، حيث استمرت القضية بين صد ورد، حتى مات في العام 2006 دون أن تتم إدانته!
مقارنة الأحوال بين سوريا وتشيلي، ودون إيلاء أهمية للشعارات التضليلية اليسارية السطحية، التي تدعي أن نظام البعث الأسدي يعادي الإمبريالية وإسرائيل.
تحيل القارئ إلى بؤر تفكير عديدة، منها أن الأسديين ما زالوا هنا، يسجنون ويقتلون ويهجرون، بينما ذهبت هذه المرحلة إلى غير رجعة هناك، وحين نزل السوريون إلى الشارع مطالبين بتغيير ديمقراطي، قام الجيش والقوى الأمنية بتصفية المتظاهرين قنصاً ورمياً بالرصاص بشكل مباشر، فضلاً عن الاعتقالات والاختطاف، بينما تم تقليم أظافر الجيش التشيلي، في الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد بين عامي 2019 و2020، التي سميت بالانفجار الاجتماعي، فبعد أن أعلن الرئيس سبستيان بنييرا حالة الطوارئ، وأعطى أوامره بانتشار قوات الجيش لاستعادة النظام ومنع تدمير الممتلكات العامة، ومحاكمة عشرات المعتقلين أمام المحكمة العسكرية، عاد وتراجع عن هذه الإجراءات، مقدماً اعتذاره لشعبه عن هذه السياسة، التي ذكرتهم بأيام لا يريدون عودتها.
نضالات التشيليين هذه، وقد انتهت بما يراه اليساريون نهاية سعيدة بعد أن تغير دستور عام 1980 البغيض (وضعه بينوشيه)، تذكّر بإن حظوظ السوريين في نهاية تفرح قلوبهم، قد وئدت منذ زمن طويل، وسط تواطؤ غريب ضد ثورتهم، لم يسبق أن حصل في مكان على سطح الكوكب، بين القوى اليمينية والفاشية، وبين القوى والحكومات اليسارية ذاتها، التي ترحب بقدوم الرئيس الشاب إلى السلطة في سانتياغو!
ورغم ملاحظة أن ثمة يساريون سوريون معادون للنظام قد رحبوا بالتغيير في تشيلي، إلا أن التوجس من أن الأسد قد كسب حليفاً آخر في قارة بعيد، يبقى حاضراً حتى يثبت العكس!