لم يتراجع البحث العلمي في العالم الإسلامي منذ القرن السادس عشر تقريباً -كما يتم تداوله. واعتبار الغزالي المتهم رقم واحد في تدمير البحث العلمي عند العرب المسلمين بعد نشره كتاب "تهافت الفلاسفة"، قد يبدو ظلماً كبيراً في حقّ الرجل الذي توفي قبل 4 قرون من هذا التاريخ، ثم أنّه لم يقل بتهافت الفلسفة وإنما بتهافت الفلاسفة. ولو قرأنا مثلاً كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي لوجدنا فيه شيئاً من الفلسفة أكثر بكثير من هرطقات الأيونيين، آباء الفلاسفة اليونانيين.
يتفق جورج صليبا المفكر العربي وأستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، مع الفيلسوف وعالم الاقتصاد الشهير آدم سميث، في أن سبب تدهور البحث العلمي عند العرب المسلمين هو تغيّر طرق التجارة، وأن الفكرة السائدة من أن العرب ترجموا بأمانة علوم اليونانيين من اللغة السريانية، لتتطور فيما بعد على يد الغرب فكرة ساذجة، إذ بالنظر لما تبقى لدينا من الأدب السرياني، أو غالبيته، هو مجرد تعليق على التوراة، وليس له علاقة بالعلوم أصلاً.
يذكر العالم التركي المسلم الشهير فؤاد سزكين، الذي ترشح عدة مرات لنيل جائزة نوبل وربما لم يحصل عليها نتيجة لموقفه المعادي من "الصهيونية" العالمية، أنه نجح بالوصول مع فريق عمل من باحثين أتراك وألمان في معهد مستقل بفرانكفورت في ألمانيا، إلى نشر تعاريف 35 ألف كتاب بأصولها العربية، قد تم تزويرها على سنوات طويلة.
لكن بتغيّر طرق التجارة القديمة، تدهور البحث العلمي في العالم العربي وحضارات أخرى لا تقلّ شأناً عن الحضارة اليونانية والعربية، ونتيجة للكشوف الجغرافية واستعمار العالم الجديد، تراكم الذهب في أوروبا فبدأت حركة تطوير البحث العلمي بشكل واسع في أوروبا كلها تقريباً.
***
كان الأوروبيون أوّل من أنشأ مؤسسة علمية خاصة في التاريخ مهمتها فقط تطوير البحث العلمي، بدايةً في إيطاليا وحتى عام 1550 تم إنشاء أكاديميات ملكية كالأكاديمية الملكية البريطانية تُعنى بالبحث العلمي مستفيدة من تراكم الذهب القادم من المستعمرات الجديدة.
تحويل العلم من الناحية العلمية المحضة إلى الغاية الاستثمارية، حولت العلوم إلى سلع ذات قيمة مالية وحولت البحث العلمي من بحث عن الزيادة العلمية إلى شيء يمكن الاستفادة منه في السوق.
حتى أن عالماً مثل غاليليو، والذي عليه أن يبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة، بحث عن الكسب في الإنتاجات العلمية، عندما نظر غاليليو إلى أقمار المشتري لم يكتب هكذا ستنهار كوزمولوجيا أرسطو، بل اتصل بملك فرنسا وكتب له: "إنني قد وجدت كواكب جديدة، يمكنني أن أسميها باسمك لو دفعت لي". فرفض ملك فرنسا ومثله أيضاً فعل البابا إلى أن سمّاها "النجوم المديتشية" بعد أن أعطاه المديتشون المال.
اختُرع ما يعرف بالبراءة العلمية (براءة الاختراع) لأول مرة في التاريخ في أوروبا، وهو أمر لم تعرفه الحضارات السابقة، وهذا الاختراع صك يعطي صاحبه الحق الحصري بالكسب المادي منه، وهو ما يعني تحويل "المعرفة من أجل المعرفة" إلى استثمار مالي قابل للربح والخسارة، وخاضع لقانون العرض والطلب.
بدت فكرة براءات الاختراع فكرة محفّزة للجميع وقتها ومفيدة جداً في خلق مناخ من التنافس العلمي وهذا صحيح إلى حد ما، لكنها خلقت حالة من السعار التنافسي بين المؤسسات والشركات المختصة بالتطوير والبحث العلمي حتى أصبحت الأمور تأخذ سلوكاّ عكسياً وصولاً إلى جمود البحث العلمي، ولأنه كمسلّمة معروفة للجميع من أن العلم فعل تراكمي ينشأ عادة عن تلاقح عدة أفكار، تعطل هذا المخاض إلى حد كبير بسبب فكرة "ما قيمة المعرفة إذا لم يكن تسويقها والربح منها ممكناً".
***
ينتشر في الوسط العلمي في أوروبا أن شركات الأدوية تملك فعلاً علاجات لأمراض مستعصية كالزهايمر وبعض أنواع السرطانات، لكنه ببساطة وبسبب البراءات والحقوق الحصرية في تفاصيل عديدة تدخل في عقار واحد فقط مثلاً من تلك العقارات المخصصة لمثل هذه الأمراض يلزم عندها أن تدفع الشركة أموالاً طائلةً لطرحها في السوق ولأنها قيمة سوقية غايتها الأولى الكسب المادي ظلت مركونة على رفوف المستودعات في تلك الشركات، وهذه واحدة من أشكال الجمود العلمي والذي ربما يوصل لما يسمى بـ (greed lock) نتيجة التحكم الشديد في هذا "الاختراع الأوروبي الحصري".
ينسحب هذا النمط التنافسي والاحتكاري للمعرفة بفرض أخلاقيات لم تكن موجودة في أكثر المجتمعات وغايتها الربح قبل كل شيء، حتى نحن نعلم أطفالنا أن يدرسوا مهناً تدر أرباحاً أكثر من غيرها وهذا أمر طبيعي ومشروع لكل الآباء أن يعيش أولادهم في بحبوحة مالية لولا أن الغرض من دراسة الطب مثلاً الكسب المادي قبل مداواة الناس.
أما المرأة، فمنذ أرسطو ولغاية هذه اللحظة وفي هذا المجتمع الهرمي، لم يتم فقط تهميشها علمياً، بل واحتقارها، اعتماداً على مقاييس علمية تعمّد إفهامنا إياها بشكل مغلوط، كحجم الجمجمة مثلاً، والذي تتميز فيه النساء بحجم جمجمة عادة أقل من الذكور، والتكريس البشع لفكرة "العالم المادي الواقعي الحقيقي"، عالماً لا يقيم وزناّ إلا للإنجاز فقط، إنجازاّ يتم تقييم قيمته العلمية بقيمته السوقية.
الاستعداد للتضحية بالقناعات الراسخة هو عمل شاق جداً وهو ما يفيد في تكوين حقيقة لها عدة وجوه، ودائماً ما كان "السياق" هو الحل ربّما، فالشجرة ضمن سياقها ليست كائناً مهمته طرح الأوكسجين أو مجرد خشب يذهب إلى معامله فقط.