تسبب الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا، الذي كان متوقعاً لكنه أتى مفاجئاً في 24 من شباط 2022، بوقوع كثير من الارتدادات العنيفة التي هزت النظام العالمي في غضون أسابيع ثلاثة، إذ شهدت كبرى أسواق المال تقلبات شديدة في الأسعار، كما سجل سعر النفط ارتفاعات قياسية جديدة، وأخذت الدول المستوردة للقمح ولزيت عباد الشمس تتحقق من الكميات المخزنة لديها بقلق بالغ، إلا أن المكان الوحيد الذي لم تبد عليه تأثيرات كبيرة هو سوريا، وياللعجب!
بالنظر إلى اعتماد نظام الأسد بشكل كبير على الدعم العسكري الروسي، يبدو هذا الهدوء المخالف لأي منطق على وشك التبدد، وهذا هو المرجح له بنسبة كبيرة.
فشل روسي في أوكرانيا
بدأت روسيا تدخلها العسكري في سوريا في أيلول 2015 لأسباب عديدة، كان بينها بكل تأكيد تشتيت انتباه الشعب الروسي والعالم بأسره عن الأعمال العدائية التي أخفقت في إقليم الدونباس، كونها فشلت في اقتطاع جزء كبير من الأراضي الأوكرانية، تلبية لما اقترح فلاديمير بوتين تسميته بنوفوروسيا أو روسيا الجديدة وقد أثبت ذلك الطموح بأنه صعب المنال. ولهذا كان نشر عدد محدود من تشكيلات القوات الروسية ضمن نزاع معقد بعيد عن حدودها أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر، إلا أن روسيا حققت من خلال ذلك بعضاً من أهدافها، ولهذا أصبح لدى بوتين أسبابه ليعلن عن انتصاره هناك وليكرر ذلك في مناسبات عديدة.
أما حالياً، فيهدف بوتين لتحقيق انتصار أكبر بكثير في أوكرانيا، إلا أن نقاط الضعف المتأصلة في القوة العسكرية الروسية، والتي لم تنكشف في أثناء الحملة الروسية على سوريا، قد افتضح أمرها بشكل صارخ في أوكرانيا. وذلك لأن عدم قدرة قيادة الأركان الروسية على تنفيذ سلسلة من الضربات الجوية الكبيرة تعتبر غريبة بشكل صادم، كما لم تُجد المهام القتالية التي تتبع النهج المتبع في سوريا والتي نفذها سربان من الطائرات الحربية أصابا أهدافاً ثابتة لم تكن بالضرورة عسكرية بشكل دقيق إلى حد كبير في أغلب الأحوال.
وفي الوقت الذي تحاول فيه القوات المسلحة الروسية تحقيق شيء من النجاح في العديد من العمليات الهجومية التي أصبحت بطيئة حد التوقف ابتداء من كييف في الشمال وصولاً إلى خاركيف في الشرق، وميكوليف في الجنوب، فإنه لابد للعمليات القتالية التي بقيت في سوريا أن تنحسر وتتراجع، إذ ذكر مقاتلون سوريون بأنهم لاحظوا هذا الانحسار بصورة تدريجية والذي تمثل في ما يصل من المعدات اللازمة لجيش الأسد عبر البحر، لا سيما بعدما لجأت تركيا للمادة 19 من اتفاقية مونترو وأغلقت المضائق أمام البحرية الروسية.
سيناريوهات تركية محتملة
إن اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب الذي وقعه كل من بوتين والرئيس رجب طيب أردوغان قبل عامين مايزال سارياً، إلا أن العديد من الجماعات المسلحة تستعد لاختبار مدى استعداد الروس لتعزيز وحماية الدوريات الروسية. كما أن إعلان التضامن والدعم لأوكرانيا لم يكلف المعارضة السورية المناهضة للأسد شيئاً، بل ساعدها على الوقوف في وجه النفوذ الروسي الجائر في سوريا، إلا أن الاشتباك بصورة فعلية ليس ببعيد.
حتى الآن، رسمت تركيا لنفسها مساراً حذراً للغاية في مسرح البحر الأسود العاصف، حيث تواسطت لعقد اجتماع بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في أنطاليا يوم الخميس الماضي، لكن هذا الاجتماع لم يفض لأي نتيجة مثمرة كما كان متوقعاً له. ومع ذلك، وفي الوقت الذي يزيد فيه حلف شمال الأطلسي من دعمه لأوكرانيا، يضيق مجال المناورة أمام تركيا التي قد تجد نفسها خلال فترة قصيرة وقد أضيفت لقائمة "الدول المعادية" لروسيا التي تمت مراجعها وتنقيحها منذ فترة قريبة، حيث تشمل تلك القائمة جميع الدول الأوروبية والعديد من الدول الآسيوية، وتستثني دول الشرق الأوسط.
زودت تركيا أوكرانيا بمسيرات قتالية تي بي2 من نوع بيرقدار منذ عام 2019، وبالرغم من عدم تقديمها لأي مساعدة عسكرية أخرى، إلا أن تأثير تلك المسيرات على الحملة العسكرية الروسية أتى ثقيل الوطأة، بما أن الجيش الروسي لم يجد وسيلة للدفاع عن نفسه أمام ضربات تلك المسيرات بصورة باتت عصية على أي تفسير.
إن النكسات التي تعرض لها الجيش الروسي بسبب تلك المسيرات حولتها إلى مصدر إزعاج سياسي كبير بنظر روسيا، ولهذا قد يزيد التوتر مع تركيا بنسبة أكبر مع تكثيف أسطول البحر الأسود، الذي كان خاملاً خلال المرحلة الأولى من الحرب، لعملياته القتالية. وهنا قد يصبح من واجب حلف شمال الأطلسي نشر منصات بحرية لحماية رومانيا وبلغاريا، وعندها لن تتمكن تركيا من أن تنأى بنفسها عن هذا النزاع، إذ قد يختار أردوغان أن يرد في مكان آخر، أي في سوريا، في حال تعرضه لعقوبات وتهديدات من قبل روسيا. ثم إن توجيه بوتين لوزير دفاعه سيرغي شويغو حتى يقوم بنشر "متطوعين" من سوريا في منطقة الحرب بالدونباس قد تكون مجرد خدعة دعائية، إلا أن تماسك جيش الأسد ومعنوياته (التي لم تقترب في حياتها من مستوى مرضٍ)، قد تتراجع مع انحسار الإمدادات الروسية.
ولذلك، قد تحاول تركيا استغلال ضعف نظام الأسد، إذ يميل أردوغان إلى فكرة استغلال حالة الفوضى لصرف انتباه شعبه في الداخل، بعيداً عن الأزمة الاقتصادية التي بدأت تتكشف في بلاده، ولكسب أفضلية جديدة لخوض الانتخابات القادمة التي ستجري في عام 2023.
جهة فاعلة أخرى: إسرائيل
ثمة جهة إقليمية فاعلة أخرى تسعى لتقليص حجم المخاطر والبحث عن فرص قد تظهر ضمن علاقات القوى العظمى التي شوهتها هذه الحرب، وهذه الجهة هي إسرائيل، إذ قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت عطلته من أجل أن يتحدث إلى بوتين في موسكو يوم 5 آذار الماضي، وليحافظ على بقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع سائر الأطراف من أجل المواجهة الكبرى. وقد أثمرت تلك الجهود عن الاحتفاظ بآلية "خفض النزاع"، مع روسيا في سوريا، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل ضرباتها الجوية على أهداف تعتبرها مهمة من الناحية العسكرية، مثلما حدث في منطقة دمشق يوم 7 آذار الماضي.
يعتبر التقارب مع تركيا تطوراً إيجابياً، إلا أن أهم شيء يقض مضجع إسرائيل هو احتمال قيام اتفاق دولي جديد بخصوص البرنامج النووي لإيران، بتشجيع من إدارة بايدن، إلا أن موسكو سبق لها أن وقفت في وجه اتفاق كهذا بشكل صارم.
لا قاعدة دعم روسية ثابتة في سوريا
لقد استنزفت سوريا وأنهكت بسبب الحرب التي ستبلغ عامها الحادي عشر في 15 آذار، ولكن مع عدم انطلاق أي شيء يشبه عملية إعادة الإعمار بعد الحرب في سوريا، لذا فإن الدوافع التي يمكن أن تتحرك باتجاه تصعيد جديد في الأعمال العدائية ماتزال تعمل عملها، في الوقت الذي صرف فيه العالم أنظاره عن سوريا ليركز اليوم على الحرب في أوكرانيا.
استطاعت روسيا أن تجعل من نفسها قوة عظمى عبر سعيها وتأكيدها لبقاء نظام الأسد المتوحش وهيمنته على البلاد، لكنها لم تؤسس قاعدة دعم ثابتة لسوريا عبر تدخلها فيها، ثم إن صورة روسيا أصبحت سيئة على المستوى الدولي، فقد أصيبت قوتها العسكرية في مقتل بسبب سوء التخطيط وكذلك بسبب الحرب التي استنزفت مواردها. إذ في غضون أسابيع وليس أشهر، قام كبار الضباط الروس بإعادة تقييم استمرار التدريب العسكري المكلف والعودة لدراسة أسبابه المنطقية ضمن عمليات استعراض القوة الروسية في سوريا.
تعكس التبدلات الخفية سريعة التطور ضمن حالة التفاعل المعقدة للأجندات المحلية والإقليمية والعالمية في سوريا تغيرات أعمق في طبيعة التحالفات المصلحية في الشرق الأوسط، فقد صوت نظام الأسد ضد قرار الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة بما أنه يدين الاعتداء الروسي على أوكرانيا، إلا أنه من الصعب على هذا النظام إقناع روسيا بمواصلة دعمها له.
قد تندم بعض الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط على تراجع صورة روسيا وانحسار تدخلها في المنطقة، إلا أن جهات أخرى كثيرة مستعدة للاستفادة من عجز روسيا المعروفة باستغلالها وتلاعبها بأي نزاع.
المصدر: معهد أبحاث السلام