شكل التدخل الروسي في الثلاثين من شهر أيلول عام 2015 حدثاً مفصلياً ليس فقط على مستوى الصراع الدائر بين الشعب السوري ونظام الأسد، بل قفزة نوعية وسريعة على طريق الحلم الامبراطوري الروسي في بقعة جغرافية شكلت تاريخياً عقدة جيوسياسية للحلم الروسي في الوصول إلى المياه الدافئة.
فمنذ العهد القيصري شكل هذا الحلم عنصراً حاكماً ومهماً في السياسية الروسية، وذلك بسبب الجغرافية الروسية القارية الضخمة، ومعاناتها التاريخية من البحار المغلقة والمياه المتجمدة، والتي شكلت عائقاً أمام لحاقها بركب الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى التي كان نفوذها يمتد في قارات العالم المختلفة.
فالحديث عن السياسة والاستراتيجية الروسية لا يمكن أن ينفصل عن الجغرافيا النائية والواسعة والتي تبعد عن المياه الدافئة والموانئ والتكتلات البشرية الكبيرة، ما يجعلها أكثر بقاع العالم مناسبة للدفاع والانكفاء عن العالم، لكن هذه الجغرافية تشكل في الوقت ذاته حجر عثرة أمام الاستراتيجية التوسعية الروسية التي تحتاج لبناء جسور تواصل مع بقية دول العالم وربما الهيمنة عليها.
وبعد الحرب العالمية الثانية وصعود الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقوتين عظمتين، استمرت العقدة الجيوسياسية التي طالما شكلت كعب أخيل، كونها باتت في مواجهة قوة بحرية هائلة تشرف على المحيطين الأطلسي والهادي، بالإضافة لقواعدها المنتشرة في كل بحار العالم المفتوحة.
وانتظر الاتحاد السوفيتي حتى ستينات القرن الماضي ليقيم أول قاعدة بحرية له في مصر خلال فترة حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لكن قرار خلفه أنور السادات بإنهاء وجود الخبراء الروس في الجيش المصري عام 1972 بعثر الأوراق مجدداً، لتتجه أنظار القيادة السوفيتية حينها إلى سوريا التي كانت تحت حكم الدكتاتور الأب حافظ الأسد، والذي اتفق مع القيادة الروسية على إنشاء مركز للخدمات اللوجستية للأسطول السوفيتي في ميناء طرطوس عام 1971، وبدأ العمل به عام 1977 بهدف توطيد حكمه من خلال تمتين علاقاته مع الاتحاد السوفيتي.
لكن الأحلام الروسية عادت وتبددت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وانحسر النفوذ الروسي على الساحة الدولية بشكل كبير، حيث أصبح هاجس القيادة الروسية إيقاف تمدد حلف شمال الأطلسي تجاه الدول التي تعتبرها جزءاً من أمنها القومي، وعادت فكرة الوصول إلى المياه الدافئة وسواحل المتوسط حلماً بعيد المنال.
ومع دخول الألفية الجديدة بدأت الأمور بالتغير بعد وصول ضابط المخابرات السوفيتي السابق فلاديمير بوتين لسدة الحكم، حيث نجح في إعادة روسيا إلى الواجهة الدولية مجدداً، بعدما أعاد فرض النفوذ الإقليمي الروسي على دول الجوار، قبل أن يبدأ بالتفكير بلعب دور دولي عبر البوابة السورية، من خلال تكريس نفوذ دولي في مناطق بعيدة عن روسيا.
وما عجز القياصرة عن تحقيقه طوال قرون استطاع بوتين تحقيقه بالتواطؤ مع نظام الأسد الابن الذي لم يجد بداً من الارتماء في أحضان روسيا لتفادي سقوطه المحتوم عام 2015، لتصبح القواعد البحرية والجوية الروسية في سواحل شرق المتوسط الدافئة حقيقة، بعد عهود من الأحلام البعيدة المنال.
وفي تعليقه على الحلم الروسي في الوصول إلى سواحل المتوسط يقول الدكتور عبد الله تركماني الباحث في مركز حرمون للدراسات لموقع تلفزيون سوريا " لطالما شكّل البحر المتوسط واحدة من الواجهات التي طمحت روسيا تاريخياً إلى تأمين نفوذ دائم فيها، وكان هذا الطموح يزداد كلما طورت روسيا قوتها وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية، حيث يغدو البحر المتوسط أحد أهم شرايين التغذية الروسية ومجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، بالرغم من كون روسيا قوة برية أكثر منها بحرية، وبالتالي فهي لا تلجأ في الغالب إلى المجال البحري إلا لدواعي الضرورة الاقتصادية والعسكرية. وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية على مر التاريخ، وليست تعبيراً عن فائض قوة يراد استعراضه في المياه الدافئة".
وبحسب كثير من المراقبين فإن التدخل الروسي في سوريا يسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف بعيدة الأمد تأتي في مقدمتها كسر الحاجز الذي فرضه حلف الناتو على روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والانتقال إلى خطوط دفاعية جديدة بعيدة من محيطها الجغرافي، فسوريا تحتل موقعاً فريداً على خارطة الطموحات الروسية، حيث يمكنها عبر قواعدها في المتوسط الولوج إلى المحيط الهندي، كما يؤمن حماية لأمن الخاصرة الجنوبية لروسيا في مواجهة منظومة حلف شمال الأطلسي.
كما تتيح القواعد العسكرية والبحرية لروسيا في شرق المتوسط لعب دور حقيقي في رسم ملامح منطقة الشرق الأوسط، مستغلة حالة التشرذم والانقسام الطائفي والسياسي الذي يعصف بالمنطقة، فبهذا التدخل جعلت روسيا من نفسها لاعباً قوياً في أكثر الملفات الإقليمية تعقيداً كالملف الإيراني في سوريا، والذي يمكن أن تستخدمه كورقة مقايضة في ملفات أكثر حساسية.
بدوره يرى تركماني أن من أسباب التدخل الروسي في سوريا أيضاً هو محاولة روسيا العودة إلى المشهد السياسي الدولي عبر بوابة الأزمة السورية، ويوضح أن "الولايات المتحدة تسعى لأسباب مختلفة إلى تحجيم روسيا دولياً وتقليص دورها في نطاق إمدادات الطاقة عالمياً. في حين تعتبر روسيا الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجال الطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، وكمعبر للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز على المتوسط بالغاز القادم من إيران، وكمعبر إجباري لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا. مما يجعل من سوريا درة الاستراتيجية الروسية في المنطقة".
ربما استطاعت روسيا من خلال تدخلها العسكري في سوريا العودة إلى الساحة الدولية، وفرض نفسها كقوة دولية في منطقة استراتيجية كالشرق الأوسط، معتمدة على ترسانة عسكرية ونظام ديكتاتوري ظالم، لكن الرهان الحقيقي هو هل ستنجح هذه المرة في تحقيق حلمها التاريخي هذه المرة؟ بعدما خسرت الشعب السوري إلى غير رجعة والذي استباحت دماء أبنائه ودمرت مدنه وبلداته وقراه.