بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، اتحدت معظم الدول الغربية في دعم أوكرانيا ضد الاعتداء الروسي، إذ فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها في دول أوروبا وشمال شرقي آسيا وأستراليا عقوبات موسعة على روسيا، وقلصت علاقاتها الدبلوماسية مع موسكو، وبدأت بتزويد كييف بكميات هائلة من المساعدات الاقتصادية والإنسانية والعسكرية، ومع ذلك، لم تَحذُ إسرائيل حذوَ معظم الدول الديمقراطية الغربية في دعمها لكييف.
في أثناء كتابة هذه السطور، قلصت إسرائيل من مساعداتها لأوكرانيا لتقتصر على الكلام والمساعدات الإنسانية وبعض المعلومات الاستخبارية، كونها أحجمت عن تزويد كييف بالأسلحة، ورفضت المشاركة في العقوبات الدولية المفروضة على روسيا. وبما أن إسرائيل منحازة للتكتل الغربي الذي تترأسه أميركا في الحرب الباردة الجديدة ضد التكتل الأوراسي الصيني-الروسي-الإيراني، لذا قد يبدو هذا الموقف مفاجئاً، بيد أن حسابات إسرائيل تصبح أوضح عندما نفكر بحاجتها لحرية التصرف عند ضرب مواقع إيرانية في سوريا، ورغبتها في إضعاف التحالف الروسي مع إيران، ألد أعداء إسرائيل.
سوريا: الجبهة الإيرانية الثانية
تعود أصول التحالف الروسي - الإيراني الحديث إلى تعاون الدولتين على دعم نظام بشار الأسد في سوريا، إذ بعد اندلاع النزاع هناك بفترة قصيرة، بدأت إيران من خلال الحرس الثوري وحليفها اللبناني حزب الله بإرسال العدة والعتاد إلى سوريا لدعم نظام الأسد، وبمرور الوقت، أصبح لإيران نفوذ في هذا البلد، فاتخذت من سوريا جبهة ثانية إلى جانب لبنان لتهديد إسرائيل. كما بدأت طهران بنقل الجنود والأسلحة المتطورة من إيران إلى سوريا لتحصين معقلها الشامي الجديد، وبما أن إسرائيل أقلقها ظهور موطئ قدم جديد لإيران، لذا بدأت بتنفيذ غارات جوية على أهداف إيرانية وتابعة لإيران في سوريا منذ عام 2013.
بعد استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي بهدف قتل المدنيين في سوريا في عام 2013، تقدمت روسيا بحل دبلوماسي للأزمة منع تنفيذ ضربات أميركية على سوريا، وبعد عامين على ذلك، وتحديداً في عام 2015، ومع اقتراب نظام الأسد من مرحلة الانهيار، زادت روسيا تدخلها العسكري وذلك لتنقذ الأسد ولتحافظ على موطئ القدم الذي أسسته في سوريا. وهكذا أنقذت روسيا مع إيران حكومة الأسد من الهزيمة، وأقامتا شراكة عسكرية وثيقة، بما أن وكلاء إيران حاربوا الثوار السوريين على الأرض، في حين كان الطيران الروسي يقصفهم من السماء.
تسببت عملية إنقاذ نظام الأسد بتوسيع الوجود العسكري الروسي في سوريا، إذ لم تكتف روسيا بتحديث وتوسيع قاعدتها في طرطوس التي استأثرت بها منذ عام 1967، بل أيضاً استحوذت على قاعدة جوية جديدة في حميميم، ونشرت قطعات برية وشرطة عسكرية في مختلف أرجاء سوريا، كما شرعت طائراتها بالسيطرة على الأجواء السورية في المناطق الغربية والواقعة وسط البلد، والأهم من كل ذلك نشرها لنظم دفاع جوي من طراز إس-300 وإس-400 في سوريا.
تسوية مؤقتة
في ظل هذه الظروف، أقامت إسرائيل وروسيا قناة لخفض التصعيد، وذلك لضمان عدم اشتباك الجنود الإسرائيليين والروس داخل سوريا أو فوق أراضيها. وبموجب هذه الترتيبات، تنحت روسيا جانباً في الوقت الذي تكررت فيه الغارات الإسرائيلية على أصول إيرانية أو تابعة لإيران. أي أن روسيا وإسرائيل توصلتا إلى تسوية مؤقتة استفاد منها كلاهما، بمعنى أن روسيا ستحافظ من خلال هذه التسوية على موقعها المسيطر في سوريا، في حين ستعمل إسرائيل على الحد من إمكانات إيران. وعلى الرغم من وجود روسيا وإيران في الخندق ذاته خلال الحرب السورية، قبلت روسيا بهجوم إسرائيل على مواقع إيرانية وتدميرها.
غير أن اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية أصبح يهدد هذا الترتيب بين روسيا وإسرائيل في سوريا، إذ في الوقت الذي تعرضت فيه روسيا لخسائر فادحة في أوكرانيا، أخذت تسحب قطعاتها التي نشرتها في سوريا وذلك لتعزز من قوتها في أوروبا، التي نشرت فيها منظومة إس-300 واحدة على الأقل. ومما أثار حفيظة المسؤولين الإسرائيلين هو أن تقليص الوجود الروسي في سوريا قد يؤدي إلى تعزيز الوجود الإيراني فيها، ومع ذلك حافظت إسرائيل على وجود قناة للتواصل مع روسيا لضمان عدم حدوث أي اشتباك بين قوات الدولتين، كما كمّت إسرائيل أصوات كل من ينتقدون الغزو الروسي لأوكرانيا وذلك خشية أن تعاقبها موسكو على الساحة السورية.
وهذا الاتفاق المؤقت بين روسيا وإسرائيل، والذي أصبح هشاً عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، انهار مع بداية الحرب بين إسرائيل وحماس في تشرين الأول 2023، إذ بما أن إسرائيل استشاطت غضباً من الدعم الروسي لحماس، لذا لم تعد تُخطر روسيا بشكل مسبق عن أي غارة لها على أي موقع إيراني في سوريا، وهذه السياسة الجديدة تعني أنه على الرغم من عدم هجوم إسرائيل على الأصول الروسية في سوريا فإنها لن تسمح لروسيا بالتحضير للطلعات الجوية الإسرائيلية بشكل دائم، أي أن كلاً من إسرائيل وروسيا أصبحتا تراقبان بعضهما بعضاً بعين الريبة على الحدود بين إسرائيل وسوريا، كما أن الوضع في سوريا أصبح بالنسبة لإسرائيل أشد قتامة.
تحدي النظام العالمي
في تلك الأثناء، توسعت الشراكة الروسية-الإيرانية التي بدأت في سوريا لتصل إلى أوكرانيا وما بعد أوكرانيا، إذ خلال أول عقد ونيف من الألفية الثالثة، وعلى الرغم من أن إيران وروسيا كانتا تشعران بالمظالم نفسها حيال أطر وملامح النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، اتخذت كل منهما نهجاً مختلفاً لتصحيح ذلك الوضع، إذ اعتمدت إيران على خلق البلبلة، في حين لجأت روسيا إلى أسلوب التسوية. ولكن بعدما عانت روسيا من العزلة عقب غزوها للقرم وتدخلها في الدونباس في عام 2014، أضحى نهج موسكو يعتمد على المواجهة بصورة أكبر، ما جعلها تنحاز لاستراتيجية إيران الكبرى بصورة أكبر، وبذلك ألفت كل من روسيا وإيران نفسيهما متوحدتين في تحدٍّ شامل للنظام العالمي.
وقد اتضحت تلك الشراكة في حالات كثيرة، إذ في أوكرانيا، ظهرت طهران كأهم مزود لروسيا بالسلاح، إذ قدمت لها المسيرات والصواريخ والذخائر وأرسلت إلى القرم الذي احتلته روسيا مستشاريها. وفي آب 2022، أطلقت روسيا قمراً صناعياً إيرانياً إلى الفضاء، كما حققت روسيا وإيران تقدماً كبيراً في ممر النقل الدولي الذي يصل الشمال بالجنوب وهو عبارة عن شبكة مواصلات دولية تمتد بين بحر البلطيق لتصل إلى خليج فارس وذلك لقطع الطريق على خط المتوسط الذي يهيمن عليه الغرب. هذا وقد أصبحت إيران أهم جهة تشتري القمح الروسي، وصدّقت على شراكة استراتيجية بين شركتها النفطية التابعة للدولة ومجموعة غازبروم الروسية. وحتى تحدَّ روسيا من اعتمادها على منصات الدفع المالي التي تعرف باسم سويفت والتي يهيمن عليها الغرب، وللوقوف ضد سيطرة الدولار الأميركي على السوق، ربطت روسيا نظام الدفع لديها بنظام الدفع الإيراني، والآن بعدما أصبح احتمال حدوث تصعيد أكبر للحرب في الشرق الأوسط يلوح بشكل واضح، عملت روسيا على إرسال نظم دفاع جوي ورادارات متطورة إلى طهران.
بيد أن إسرائيل أصبحت تنظر اليوم بعين الخوف تجاه العلاقات التي تربط بين موسكو وطهران مع تطور الشراكة الاستراتيجية بينهما على المستوى العسكري والدبلوماسي والاقتصادي والتقني، إذ تواصل إيران اقترابها من تطوير أسلحة نووية، كما تواصل شن الحرب على إسرائيل مع خلال حماس وحزب الله وغيره من أذرعها. وفي هذه الأثناء، أصبحت روسيا التي تحالفت بشكل أكبر مع إيران وحماس تنظر إلى الحدود من خلال سوريا، إذ على الرغم من أن إسرائيل سعت لكسب ودّ روسيا عند بداية غزوها لأوكرانيا، لم يحقق هذا النهج السلبي نسبياً أي شيء يذكر سوى أن أبقى إسرائيل مكتوفة الأيدي في الوقت الذي عززت فيه روسيا وإيران من تحالفهما على أوسع نطاق، كما انحازت روسيا لإيران ضد إسرائيل في النزاع الدائر في الشرق الأوسط.
ضرورة تغيير النهج
وبناء على هذه الهندسة الجيوسياسية، يجب على إسرائيل أن تفكر في خوض هذا المأزق الصعب إن لم تفكر بعبوره على الفور والبدء بتقديم دعم أكبر لأوكرانيا ضد روسيا على المدى المتوسط. إذ من الواضح أن إسرائيل لديها أولويات ملحّة أخرى غير تلك المتعلقة بالشرق الأوسط على الرغم من وصوله إلى شفير نزاع أكبر. ولكن في حال انحسار التوتر الإقليمي، فهذا يعني أن الوقت قد حان لتصحيح المسار في الاستراتيجية الإسرائيلية المتعلقة بالنزاع الروسي-الأوكراني، وهنا ينبغي لإسرائيل أن تزيد من دعمها لكييف بشكل تدريجي وهادئ، بحيث تركز على الدعم الاستخباري وزيادته لصالح أوكرانيا، كما عليها أن ترسل لكييف عدداً محدوداً من النظم الدفاعية والذخائر قدر الإمكان، لأن القيام بذلك سيترتب عليه مزايا عديدة مهمة، أولها، زيادة فرص أوكرانيا بالنصر في ساحة المعركة، مع تقويض القوة الروسية، وثانياً: يمكن لزيادة الدعم الإسرائيلي الموجه لكييف أن يربط قضية إسرائيل بقضية أوكرانيا في الخيال الغربي، إذ في الوقت الذي تراجع فيه الدعم الغربي لإسرائيل، قد يؤدي ربط إسرائيل بأوكرانيا التي استحوذ نضالها على القلوب قبل العقول في أغلب الدول الغربية، إلى كسب مزايا مهمة، كما قد يوحي ذلك بأن إسرائيل تعترف بدورها في حال وقع صراع أكبر يبن الكتلتين الغربية والأوراسية، بحيث يظهر ذلك إسرائيل أمام حلفائها وخصومها على حد سواء بمظهر العنصر الفاعل القادر على مساعدة شركائه وإضعاف أعدائه، وهذا ما من شأنه أن ينبّه روسيا وإيران إلى أن إسرائيل سوف تردّ على تحالفهما المعادي لها ليس فقط في صحارى الشرق الأوسط بل في سهول أوروبا الشرقية أيضاً.
المصدر: The National Interest