في اليوم الثالث بعد انتهاء تمرد يفغيني بريغوجين ودعوته قواته من المرتزقة إلى الزحف نحو موسكو العاصمة، قبل أن يعود الرجل ويطلب من قواته العودة إلى ثكناتها بعد إتمام صفقة مع رئيس بيلاروسيا.. خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ليقول بأن الأحداث في روسيا لم تنته والوضع هناك ينتظر تطورات كبيرة.
أثار تصريح بلينكين الكثير من التحليلات حول دور أو معرفة سابقة للإدارة الأميركية فيما جرى في روسيا في ذلك اليوم. وهل استخبارات الناتو أو الدول الغربية على صلة ببريغوجين نفسه، لكن هذه التكهنات سرعان ما تلاشت بعد صمت روسي حكومي كبير في هذا الخصوص، ونحن نعلم جميعاً أن الحكومات التي تشبه نظام بوتين تسعى على الدوام إلى رمي المسؤولية عن أية فوضى داخل البلاد عادة على الخارج وتعليلها بعوامل مؤامراتية دوماً مما يسهل عليها تجنب أية مسؤولية أمام شعبها، وتعزز في ذات الوقت متانة فكرة أن (الوطن) مستهدف وبالتالي يمكن لتلك الحكومة فعل ما تريد من أجل حماية هذا الوطن.
في كل الأحوال تبدو المؤشرات على انتهاء الأزمة سابقة لأوانها، فزعيم عصابة فاغنر الذي انتقل بشكل غامض إلى الأراضي البيلاروسية، خرج من البلاد بعد أن قاد تمرداً على القوات المسلحة أودى بحياة عشرات الجنود والطيارين الروس، مضى دون مساءلة أو محاسبة، بل أسقطت جميع التهم الجنائية بحقه كذلك، وتتحدث الصحف الغربية عن تأمين ثروته في مكان طلبه سابقاً.. تقدر ثروة بريغوجين بمليارات الدولارات جناها من حراسة حقول النفط في سوريا وعقد صفقات مع "حكومة دمشق" بخصوص التنقيب عن الغاز في المتوسط، ومن حيازة وحراسة مناجم الذهب في السودان وإفريقيا. ضمن سلسلة نشاطات مشبوهة يقوم بها الرجل لحساب شخصيات متنفذة في موسكو.
أي محاولة لحل أو تفكيك فاغنر أو قطع الموارد عنها سيؤدي حتماً إلى خروج تلك الدول من السيطرة الروسية غير المباشرة وخسارة نفوذ عانى بوتين من أجل الحصول عليه
تنتشر عصابات فاغنر في عدد كبير من الدول الإفريقية بشكل منفصل عن الحكومة الروسية، وفي سوريا كذلك. وبالتالي أي محاولة لحل أو تفكيك فاغنر أو قطع الموارد عنها سيؤدي حتماً إلى خروج تلك الدول من السيطرة الروسية غير المباشرة وخسارة نفوذ عانى بوتين من أجل الحصول عليه.
فضلا عن حوالي خمسين ألف عسكري مرتزق يعمل على الجبهات الأوكرانية والسورية وهم في جاهزية كاملة للقتال الميداني، وتفكيكهم أو الخلخلة بهيكلية الأوامر الهرمية لديهم المرتبطة ببريغوجين ستؤدي إلى اهتزاز الواقع غير المستقر في جبهات القتال هناك.
من جهة أخرى تبدو تصريحات رئيس بولندا أنجي دودا، العدائية تجاه انتقال رئيس فاغنر إلى بيلاروسيا غير مبشرة، فهو يعتبر أن ما جرى في روسيا في ذلك اليوم، هو مؤامرة بين بوتين وفاغنر، من أجل إرسال المرتزقة من جبهات أوكرانيا ونشرهم في حدود بيلاروسيا قرب بولندا.. ودعا من أجل هذا إلى نشر قوات خاصة وكتيبة دبابات ألمانية على الحدود مع بيلاروسيا.
أما على الصعيد الداخلي الروسي، حيث انتهكت السيادة الروسية من داخلها، وظهرت روسيا أمام العالم كدولة راعية للميليشيات التي تنقض على بعضها البعض، في مشهد يعكس ضعف وانهيار الجيش الروسي الأساسي، حيث يؤيد جزء من الشعب قوات فاغنر عبر فيديوهات مسجلة، وجزء آخر يؤيد فيلق روسيا الحرة المتمرد الذي يقوم بعمليات تخريبية في فترات متباعدة، في مواجهة ميليشيات أحمدوف الشيشانية التي تنتقل من القوقاز إلى روستوف وحدود أوكرانيا بسلاسة وتحت ضوء الشمس. بينما يظهر فلاديمير بوتين الذي كان حريصاً مذ توليه الحكم على تقديم نفسه في صورة الرجل الحاسم، الصارم، القوي، من يصارع الدببة ويغطس في ثلوج سيبيريا. والذي ينعت كل من يهدده أو يهدد حلفاءه بالإرهابي. بدا متسامحاً وهادئاً بل وحتى جزيلاً في شكر رئيس بيلاروسيا على وساطته التي أدت إلى إيقاف قوات فاغنر دون الدخول إلى موسكو.
التركيبة التي يعيش العالم فيها اليوم تعوم على بحر من القوات المرتزقة التي تقاتل بالنيابة عن الجيوش النظامية، وما الشرق الأوسط إلا نموذج لما يجري
من المؤكد أن التمرد الذي قاده زعيم ميليشيا فاغنر لم ينته، وبأن ارتداداته ستظهر على المدى المتوسط في عموم المنطقة، ومن المعروف بأن من يربي الوحش حري به أن يتوقع انقضاضه عليه حينما يجوع، وهذا حال الولايات المتحدة مع مجاهدي أفغانستان وأسامة بن لادن. فالتركيبة التي يعيش العالم فيها اليوم تعوم على بحر من القوات المرتزقة التي تقاتل بالنيابة عن الجيوش النظامية، وما الشرق الأوسط إلا نموذج لما يجري، ميليشيات في كل مكان من اليمن إلى العراق ولبنان وسوريا، في روسيا ووسط آسيا وإفريقيا وحتى حدود الصين. فهل سيجد بوتين الطريقة لإعادة المارد إلى القمقم. وهل ستقبل الصين بانفلات يؤثر على استقرار طرق التجارة الدولية، وما هو مصير الدول المركزية من كل هذه الفوضى.