في مؤتمر جنيف 2 الذي انعقد في مدينة مونترو السويسرية فاجأ وزير الخارجية السوري وليد المعلم العالم والسوريين على حد سواء حينما هدّد أثناء خطبته بحذف أوروبا والغرب من خارطة العالم، قاصداً أن سوريا تستطيع العيش في عالم لا تتعامل فيه مع الغرب، ويمكنها الاتجاه شرقاً على حد تعبيره حينها. المفاجئ أن وليد المعلم ليس سياسياً عابراً، بل هو دبلوماسي مخضرم تدرّج في السلك الدبلوماسي لعشرات السنين التي اختبر فيها سنوات من العمل في الغرب، إذ سبق له أن عمل مندوبًا لسوريا في الأمم المتحدة وسفيرًا لبلاده في واشنطن عاصمة القرار الدولي وصاحبة أكبر تجربة سياسية ديمقراطية في العالم بما تملكه أروقتها من مجالس نواب وسيناتورات، ولوبيات ضاغطة، وحراك دولي صاخب تدور رحاه في نيويورك حيث مقر الأمم المتحدة التي تضم جميع دول العالم.
كما أنه لم يكن نشازاً في سياق الدبلوماسية السورية، بل استمراراً لنهج سياسي سوري استثنى الولايات المتحدة من حساباته على الدوام، حتى أن الصحافة السورية الرسمية كانت تتغنى بعدم زيارة أي رئيس سوري للبيت الأبيض، وكأن مقر الرئاسة الأميركية وكر من أوكار العبث، على عكس نظرائهم العرب، من مصر حتى فلسطين، وعلى عكس حلفائهم، من روسيا حتى الصين.
لكن التاريخ السوري يذكر أن الرئيس السوري الوحيد الذي زار الولايات المتحدة الأميركية هو الرئيس نور الدين الأتاسي. دون أن يكون له سابق أو لاحق.
في الثامن عشر من شهر حزيران 1967، وصل الرئيس السوري نور الدين الأتاسي إلى الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً إلى مطار جي إف كيه، الذي أعيدت تسميته على اسم الرئيس الأميركي جون فيتزجيرالد كينيدي قبل أربعة أعوام فقط، غداة الاغتيال الشهير الذي لحق به في مدينة دالاس.
وصل الأتاسي إلى نيويورك، ليلقي خطاباً يشرح فيه موقف بلاده بعد الهزيمة الكبرى التي مني بها العرب في الحرب التي انتهت قبل أيام فقط من هذه الزيارة، والتي شنتها إسرائيل في الخامس من حزيران أي قبل 13 يوماً فقط من الزيارة، وانتهت بهزيمة ساحقة للعرب خسروا فيها الجولان وشبه جزيرة سيناء والضفة الغربية ومدينة القدس.
بعدها أصر الدبلوماسيون السوريون المخضرمون في السلك الدبلوماسي، على القيادة السورية الجديدة التي أمسكت بزمام الحكم في عام 1963 غداة ما عرف بانقلاب الثامن من آذار، أو ما سمي بثورة الثامن من آذار، والذي قام به البعثيون على ما عرف بحكومة الانفصال، على ضرورة قيام رئيس الدولة بحضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في نيويورك، كي يخاطب العالم وقادة الدول الغربية ليشرح موقف سوريا وأشقائها العرب من الاعتداءات والاحتلال الاسرائيلي لأراض عربية.
الدبلوماسيون السوريون الذين أصرّوا هم الذين نجوا من حملة التطهير التي قادها زعماء الثامن من آذار في الجيش والحكومة ضد الكفاءات التي أطلقوا عليها كفاءات بورجوازية مرتبطة بالغرب، لكن قيادة الثورة الجديدة قررت، ولأسباب غامضة، إبقاء السلك الدبلوماسي دون تطهير، ربما لمعرفتهم بكفاءات هؤلاء الدبلوماسيين، وحاجة الثورة إلى من ينافح عنها دون عنتريات واستعراض للقوة. لم يخب أمل قيادة الثورة الجديدة التي أمسكت بالبلاد، فهؤلاء الدبلوماسيون وعلى رأسهم وزير الخارجية ابراهيم ماخوس ومندوب سوريا في الأمم المتحدة جورج طعمة، هم الذين أصروا على قيادة الثورة، وهكذا وصل نور الدين الأتاسي الرئيس السوري برفقة وزير خارجيته إلى نيويورك وألقى في يوم 20 حزيران كلمة الرئيس السوري الوحيد في التاريخ الحديث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي كلمته طالب الأتاسي الدول الغربية ودول العالم بشجب احتلال الجولان، وتعهد بضرورة الاستمرار في النضال من أجل تحرير الأراضي العربية من الاحتلال.
غادر نور الدين الأتاسي نيويورك عائداً إلى دمشق في اليوم التالي، بعد سلسلة من اللقاءات الدبلوماسية دون أن يقوم بزيارة البيت الأبيض في واشنطن الذي لم يزره أي رئيس سوري أبداً حتى يومنا هذا.
من الجدير بالذكر أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد ألقى كلمة باسم الجمهورية العربية المتحدة التي تضم سوريا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1960.
لكن لم هذا الجفاء الدبلوماسي بين سوريا والبيت الأبيض، والذي يسير عكس تيار جميع الدول العربية والدول الحليفة مثل الاتحاد السوفييتي والصين كما ذكرنا.
أدرك القوتلي أن الزمان يتغير وأن عدم تحالفه مع الحلفاء الذين قد أثبتوا قوتهم وانتصارهم على قوات المحور، قد يكلف سوريا الكثير، فعاجل وفي خطوة تاريخية إلى التوجه إلى القاهرة عام 1945 للقاء الزعيميْن تشرشل وروزفلت للتباحث في شكل الكيان السوري الجديد بعد الحرب، لكن روزفلت لم يحضر لأسباب تتعلق بصحته، وهكذا حضر القوتلي بوساطة من الملك عبد العزيز آل سعود وحضور الملك فاروق والامبراطور هيلاسيلاسي اللقاء مع تشرشل، وافق فيها القوتلي على بدأ علاقات دبلوماسية قوية مع واشنطن موفداً ناظم القدسي سفيراً لسوريا هناك، وفارس الخوري مندوباً سورياً أولاً في الأمم المتحدة، مقابل إعلان سوريا الحرب الرمزية على دول المحور، والذي يعني في مضمونه قبولها الانتساب إلى المجموعة الدولية الجديدة بكامل قيمها وثوابتها التي تعادي الفاشية والنازية والدكتاتورية.
فمع خضوع سوريا للاحتلال الفرنسي، أدرك الساسة السوريون أن واشنطن ولندن قد تكونا المفتاح للحل السياسي، فعمل شكري القوتلي على الاتصال بونستون تشرشل والتفاوض معه بل وعلى تقديم تنازلات حاسمة للحلفاء في الحرب العالمية الثانية مقابل تعهد الحلفاء باستقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي. وهذا ما كان خصوصاً بعد إعلان القوتلي الحرب على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) أمام البرلمان السوري رغم أن سوريا لم لكن تملك جيشاً يخولها دخول حروب ضد أحد لسبب بسيط وهو أن الجيش السوري قد حل بأوامر من سلطات الانتداب الفرنسي عام 1920، واستشهاد وزير الحربية يوسف العظمة محاولاً الوقوف في وجه قوات الاحتلال في ميسلون.
وفي ذلك اللقاء الشهير، طلب القوتلي من تشرشل عقد المؤتمر الثاني للحلفاء المنتصرين في دمشق، بعد المؤتمر الأول الذي أقامه ستالين وروزفلت وتشرشل في طهران واتفقوا خلاله على رسم خطوط النفوذ والمصالح فيما بينهم هناك، وعلى أدراج السفارة السوفييتية في طهران التقط المؤتمرون صورة تاريخية معلنين أن العالم الجديد سيبدأ من تلك اللحظة، خصوصاً أن تلك الصورة لم تشمل ديغول مندوب فرنسا لدى الحلفاء، فرنسا التي كانت تحتل سوريا. لكن الزعيم السوفييتي ستالين أصر على عقد المؤتمر الثاني في يالطا/ أوكرانيا على البحر الأسود. وهذا ما كان.
إن استيعاب القوتلي لدور الغرب المحوري في العالم الجديد كان مؤثراً وملهماً في الدبلوماسية السورية، ولو أن مؤتمر الحلفاء الثاني قد عقد في دمشق، لكان تأثير دمشق ودورانها في فلك الحلفاء الغربيين أقوى بكثير فيما بعد، فمن مهمة الساسة أن يقودوا بلدانهم إلى أنسب الصفقات السياسية وأفضلها، وخصوصاً تلك التي تجلب الرخاء على الشعوب. فمن هو السياسي الذي قد يتحالف مع قوى مهزومة في عالم لا يؤمن إلا بالقوة؟
بعد الاستقلال لم يتمكن القوتلي من زيارة واشنطن، بسبب تداعيات القضية الفلسطينية وقرار التقسيم، وفي عام 1948، اعتذر بسبب الحرب، وبسبب التوتر الذي نشأ بعد رفضه لتوقيع اتفاقيات التابلاين التي طلبها الغرب. في عام 1949 لم يتمكن القوتلي من الحضور بسبب انقلاب حسني الزعيم الذي وقع الاتفاقية التي تسمح لأنابيب النفط بالمرور من سوريا، لكنه لم يتمكن من حضور جلسات الجمعية العامة بسبب انقلاب سامي الحناوي، الذي انتهى بعودة الرئيس هاشم الأتاسي إلى السلطة عام 1950، ولكن الطبقة السياسية السورية كانت في حالة صدمة من الانقلابات المتتالية وكانت بحاجة إلى ترتيب أوراق البيت الداخلي وكتابة دستور عصري حاسم يعيد القانون إلى البلاد وهو ما كان مع دستور 1950 الشهير. بعد ذلك توالت الاضطرابات بانقلاب أديب الشيشكلي، الذي انتهى في شباط 1954، أي قبل انعقاد الجمعية العامة في أيلول من السنة نفسها، فخلفه القوتلي في عام 1955في فترة عاشت فيها القومية العربية ذروتها وذروة نشاطها وتحريضها على الغرب نتيجة الحروب وتكرار العدوان وصعود الظاهرة الناصرية التي اقترب منها القوتلي دون خوف أو حذر، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي والتضامن السوري مع مصر بكامل قوتها، حتى انتهى العهد الديمقراطي بحصول الوحدة مع مصر عبد الناصر عام 1958.
عام 1960 كما ذكرنا مثل عبد الناصر سوريا ومصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد الانفصال ازداد الاضطراب السياسي والانقلابات في البلاد، فما بين انقلاب ومحاولة انقلاب فاشل، سجلت البلاد في فترة الانفصال وحتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة ما لا يقل عن عشرة محاولات تحرك فيها الجيش للاستيلاء على السلطة. ومع وصول الأسد الأب إلى الحكم بعد انقلاب 16 تشرين، أعلن موقفه الحاسم من العداء مع واشنطن والغرب، الذي استمر حتى يومنا هذا، رغم أن العلاقات بين واشنطن ودمشق لم تنقطع أبداً في عهده، بل أن رؤساء أميركيين زاروا دمشق، ومنهم نيكسون في حزيران 1974، للحديث عن تبعات حرب تشرين واتفاق وقف النار، وكلينتون الذي زارها في العام 1997. محاولاً دفع عملية السلام التي انطلقت في مدريد 1991. بحضور الوفد السوري والوفد الإسرائيلي. بينما زار دمشق جميع وزراء الخارجية الأميركية.