عاشت الأسواق الدولية للطاقة في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا أزمة طاقة وهمية، بمعنى أن السوق الدولية لم تشهد أي نقص بالمعروض، على العكس تماماً كانت السوق في حالة توازن منضبط للعرض والطلب، لكن خوف دول العالم من إيقاف روسيا تصدير إنتاجها إلى السوق الدولية أدى إلى رفع الأسعار بشكل لا يصدق. ومع اشتداد الحرب الروسية الأوكرانية في شهر حزيران، وتطبيق دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول العالم عقوبات شاملة على روسيا، قرر بوتين بيع الغاز لدول الاتحاد الأوروبي بالروبل، مما انعكس على ارتفاع أسعار الغاز ليتجاوز سعر المليون وحدة حرارية البريطانية 100 دولار في الأسواق الأوروبية.
وتعاني دول الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن من أزمة عميقة في تأمين المخزون الاستراتيجي لفصل الشتاء القادم الذي من المتوقع أن يكون بارداً جداً، في حين وصلت نسبة التخزين إلى 85٪، وتقوم موسكو في الوقت ذاته بإحراق كميات من الغاز، وإيقاف تصدير الغاز إلى ألمانيا، بحجة تعطل خط أنابيب نورد ستريم 1، ومن المعروف أن ألمانيا هي أكبر مستهلك ومستورد للغاز الروسي في أوروبا.
نسلط الضوء في هذه المقالة على مجموعة من الأحداث المتوقعة والتي قد تجر العالم لأزمة طاقة عالمية، ستكون بدايتها دول الاتحاد الأوروبي، لأنها تعيش حالة متدنية في مستوى تحقيق أمن الطاقة، مما سينعكس مستقبلاً على كل دول العالم، لذلك سيتم التركيز بشكل كبير على أوروبا.
جنوح الدول الصناعية الكبرى نحو الطاقة المتجددة حيدها عن تطوير البنية التحتية الخاصة للاستثمار في النفط والغاز
الحياد الكربوني: تسعى الدول الصناعية الكبرى وفي مقدمتهم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية والصين والهند منذ سنوات لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط، والغاز، والفحم الحجري)، ورصدت غالبية الدول ميزانيات مالية ضخمة، ووضعت الخطط المستقبلية بهدف الانتقال إلى الطاقة النظيفة وهي مصادر الطاقة المتجددة (الرياح، والشمس، والسدود، والحرارة الباطنية… الخ)، وبهدف الوصول إلى الحياد الكربوني، ومواجهة التغيرات المناخية الناتجة عن الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري. عملية الانتقال إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة تحتاج إلى بناء منظومات وبنية تحتية ضخمة ومكلفة جداً. كما أن دول الاتحاد الأوروبي هي من أكثر الدول التي سعت للتخلص من استخدام الوقود الأحفوري، وكانت في طور بناء منظومة متكاملة لإنتاج الطاقات المتجددة، لاسيما ألمانيا التي تستهلك في الوقت الراهن 30٪ من مجموع إنتاجها للطاقة. جنوح الدول الصناعية الكبرى نحو الطاقة المتجددة حيدها عن تطوير البنية التحتية الخاصة للاستثمار في النفط والغاز، فعلى سبيل المثال دول الاتحاد الأوروبي أحد أبرز مشكلاتها في الوقت الحالي عدم وجود بنية تحتية قادرة على استخراج الغاز المسال، أيضاً الولايات المتحدة الأميركية توقفت في وقت سابق عن دعم تطوير إنتاج حقول النفط والغاز مقابل دعم مشاريع للطاقة المتجددة.
توقف روسيا عن تصدير النفط والغاز: مع اشتداد حدة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وعدم توقع نهايتها، وتراجع ضئيل للقوات الروسية، وخنق الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي الاقتصاد الروسي بعقوبات شاملة الذي سينعكس على الواقع المعيشي للسكان، هذه الأحداث قد تغري بوتين لاتخاذ قرار وقف كامل لصادرات الغاز عن دول الاتحاد الأوروبي، ومن المعلوم أن الغاز الروسي يشكل 40٪ من استهلاك أوروبا، وبوادر هذا التوقف يمكن ملامسته بوقف ضخ الغاز عبر خط أنابيب نورد ستريم 1 في الوقت الحالي، وقد تذهب موسكو مستقبلا لوقف كل صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب التي تمتد عبر أوكرانيا، وتكون بذلك قد أوقفت أكثر من ثلثي صادراتها إلى أوروبا. وفي حال تم تطبيق هذا السيناريو سيشهد العالم أزمة طاقة عميقة، بسبب قلة المعروض في السوق الدولية، مما سيرفع الأسعار بشكل جنوني وسينعكس على كل دول العالم.
ظاهرة الجفاف: تعيش العديد من دول العالم حالة من الجفاف الناتجة عن ارتفاع غير متوقع لدرجات الحرارة، وانخفاض في كميات الأمطار. وفي الفترة الأخيرة ظهرت صور الجفاف في العديد من الأنهار والبحيرات في بعض مواقع الصين والولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي. حيث إن ظاهرة الجفاف ستنعكس بشكل مباشر على انخفاض إنتاج الطاقة الكهربائية المنتجة عبر السدود المبنية على الأنهار، مما سيزيد الضغط على المحطات التي تنتج الكهرباء بواسطة الغاز والنفط، بدوره سيرتفع الطلب عليهما وعلى الأسعار بطبيعة الحال.
صعوبة إيجاد البدائل في الوقت الراهن عن أي توقف للغاز الروسي سيؤدي لنتائج كارثية على سوق الطاقة الأوروبية والدولية
صعوبة التعويض في الوقت الراهن: في خضم سيناريو توقف صادرات الغاز الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي، من الصعب إيجاد البديل في الوقت الراهن، لأسباب تقنية تتعلق بالدول المصدرة والمستوردة. من جانب الدول المصدرة على سبيل المثال قطر تنتج سنوياً ما يقارب 175 مليار متر مكعب من الغاز، وتسعى لزيادة إنتاجها، لكن للوصول للزيادة المطلوبة لابد من تطوير البنية التحتية لآبار الغاز التي قد تحتاج لفترة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات. ومن جانب الدول المستوردة لاسيما دول الاتحاد الأوروبي فإنها لا تملك ما يكفي من محطات تسييل الغاز، وتحتاج لفترات زمنية لبنائها. وبالتالي صعوبة إيجاد البدائل في الوقت الراهن عن أي توقف للغاز الروسي سيؤدي لنتائج كارثية على سوق الطاقة الأوروبية والدولية.
تجاوز مؤشرات الركود العالمي: الاقتصاد العالمي مهدد في دخول فترة ركود، وتراجع في نسب النمو، بعد ارتفاع معدلات التضخم التي واجهتها غالبية دول العالم برفع أسعار الفائدة وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية. وقدرة اقتصادات الدول الكبرى في تجاوز الركود سيزيد من الطلب على موارد الطاقة ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها.
الدخول في أزمة طاقة عالمية سينعكس بشكل مباشر على كل نواحي الحياة، فقد نشهد ارتفاعاً حاداً في أسعار الكهرباء، وأسعار كل السلع والمنتجات والخدمات، والتي بدورها قد تدفع الشعوب للخروج ضد الحكومات لتحسين الأوضاع المعيشية. كما أن أزمة الطاقة العالمية المتوقعة ستؤخر من عملية قيام الدول الصناعية بالانتقال من تطوير وإنتاج الطاقة الأحفورية إلى إنتاج الطاقة المتجددة. وسيكون الخاسر الأكبر من الأزمة المتوقعة هم دول الاتحاد الأوروبي، وسيكون الرابح بدرجة لا يمكن في الوقت الحالي مقاربتها هي دول أوبك التي ستبيع منتجاتها بأسعار مرتفعة جدا.