منذ عدة سنوات والجماهير والحاضنة الشعبية ومناطقها طالبت وما تزال تطالب وتدعو للعمل الجاد والمخلص والهادف للقضاء على حالة التشرذم والانقسامات التي تميّز الجسم العسكري للثورة، وتخطّي مرحلة المسميات والرايات الفصائلية المقيتة، وتجاوز قيادات الفصائل لعتبات المصالح الضيقة التي ووفقاً لكل المعطيات الميدانية والتقديرات كانت من أهم الأسباب التي أوصلت الثورة إلى المفترقات الخطيرة التي تعيشها وتعاني منها الآن.
وعليه فقد طالبت هذه الجماهير وقبل فوات الآوان بالعمل الحقيقي والهادف الذي يُفضي إلى انصهار الأجسام الفصائلية واندماجها اندماجاً حقيقياً لا صورياً بجسم عسكري وطني جامع واحد، يتبع لمؤسسة عسكرية انضباطية وأركان وعمليات يقودها ضباط أكاديميون مختصون يحضرون ويخططون ويقودون الأعمال العسكرية، للوصول إلى تحقيق الأهداف المنشودة التي خرج من أجلها الشعب السوري بجميع فئاته و مكوناته، وقدّم مئات الالآف من الضحايا لأجل ذلك.
عملياً وفي فترات خلت بل وخاصة خلال الأيام القليلة الماضية، فقد أصبح الشمال والشمال الشرقي السوري اعتباراً من منطقة اعزاز ووصولاً إلى جرابلس وتل أبيض ورأس العين، الشغل الشاغل والمقلق لكثير من المكونات، ومراكز الدراسات والبحوث والمتابعين والمهتمين بالملف السوري، وذلك بسبب ما عانته وتعانيه تلك المناطق وسكّانها من الفساد المستشري وفقدان الأمن والأمان، وطغيان الجرائم الجنائية والاغتيالات للكوادر الإعلامية والأصوات الحرة والناقدة، وتفشي الموبقات وتجارة المخدرات والانتشار الواسع للسلاح المنفلت، وسهولة الحصول عليه وحمله واستخدامه دون وجود أية محددات وضوابط قانونية.
وفوق هذا كله يأتي التعصب الأعمى للعشيرة والفصيل والتبعية والعبودية العمياء (للمعلم) وأوامره ونواهيه بحق أو بدونه، بل وفوق كل هذا، كثرة الاختراقات الأمنية والتفجيرات والملغّمات والاستهدافات الإجرامية التي تطول المناطق "المحرّرة" بين الحين والآخر، إن كان من قبل ميليشيات "قسد"، أو من بقايا قطعان جيش النظام والميليشيات الإيرانية الموجودة على خطوط الفصل والتماس المباشر مع جميع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
بالمتابعة وقبل عدة أيام تم استهداف الناشط الإعلامي محمد عبد اللطيف (أبو غنوم) مع زوجته الحامل، مما أدّى إلى مقتلهما، وهنا لا بد لنا أن نشير إلى أنّ "أبو غنوم" كان رحمه الله معروفاً في مدينته الباب، وفي الثورة أنه من الأشخاص الذين يتمتعون بالأخلاق الثورية الرفيعة، وقوة الموقف والكلمة والجرأة والموثوقية، إضافة إلى مشاركاته النشطة في جميع الفعاليات الثورية والوقفات الاحتجاجية، ونقل وتوثيق وانتقاد التجاوزات التي ترتكبها العديد من الفصائل وقياداتها في مدينة الباب ومحيطها ومدن وبلدات أخرى في ريف حلب، وهذا على ما يبدو أزعج الكثيرين من قيادات المجموعات العسكرية والأمنية، التي ما لبثت أن وضعت حداً لحياته بهذه الجريمة اللاإنسانية النكراء.
لاحقاً وفي اليومين التاليين لعملية الاغتيال ومن خلال متابعة الأجهزة المختصة لتسجيلات الكاميرات، تم تحديد السيارة التي نفذت الاستهداف الغادر بحق "أبو غنوم" وزوجته، وتم التعرف إلى المشتبه فيهم، وخلال التحقيق معهم تبيّن أنهم يتبعون لمجموعة المدعو "أبو سلطان الديري" في أمنية "فرقة الحمزة"، التي تتخذ من مدرسة الزراعة في مدينة الباب مقراً أمنياً لها ولتجاوزاتها، عندما نفّذ أهالي مدينة الباب إضراباً عاماً، احتجاجاً على الاغتيال مطالبين بالقصاص العادل من قاتليه ومحاسبة قيادات "فرقة الحمزة" على هذه الجريمة البشعة، وعلى كل المخالفات والجرائم والتصفيات السابقة المرتكبة والمقيدة ضد مجهولين، واحتجاجاً أيضاً على تردّي الحالة الأمنية والفوضى المنتشرة، وعلى تجاوزات القيادات المنشغلة بمصالحها وجيبها وحواجزها والمال وجبايته، وتفرغها واهتمامها في كل شيء، باستثناء الاهتمام بأمن وأمان المواطنين، واستقرار مناطقهم التي يسيطرون عليها عسكرياً بغير حول من أهلها ولا قوة.
حادثة اغتيال "أبو غنوم" كانت القشة التي ربما قصمت ظهر البعير، والشرارة التي أشعلت ورفعت العصا الغليظة على التجاوزات الفصائلية الكثيرة وحالات الفساد والفوضى الأمنية والجنائية التي أصبحت سائدة في مناطق الشمال السوري
لا شك أن حادثة اغتيال "أبو غنوم" كانت القشة التي ربما قصمت ظهر البعير، والشرارة التي أشعلت ورفعت العصا الغليظة على التجاوزات الفصائلية الكثيرة وحالات الفساد والفوضى الأمنية والجنائية التي أصبحت سائدة في مناطق الشمال، والتي وكما أثبتت الأحداث الدامية اللاحقة، كانت الفرصة التي تنتظرها "هيئة تحرير الشام" (المصنفة تنظيماً إرهابياً) بفارغ الصبر، وهنا لا بد لنا القول وبغض النظر عن التصنيف الدولي لـ"تحرير الشام" وأيديولوجيتها وتوجهاتها، لكنها شئنا أم أبينا هي الطرف الأقوى والأكثر وحدةً وتنظيماً وإدارة في المعادلة العسكرية السورية، فما كان من "الهيئة" إلا أن جيّرت حادثة الاغتيال لصالحها وغالباً ما حدث هذا بشكل أو بآخر وفقا لضوء أخضر وإرادة ورغبة تركية مبطنة، رغبةً منها بفرض واقع مستحدث جديد، ووضع تصوّر شامل لإدارة عسكرية وخدمية وأمنية جديدة واحدة وموحدة لمناطق شمالي سوريا، تكون "هيئة تحرير الشام" فيها على ما يبدو ودون سيطرة ميدانية حقيقية ومن وراء الحجب صاحبة اليد العسكرية والأمنية والإدارية الطولى وبيضة القبان فيها.
لذلك انطلقت أرتالها القتالية ودخلت مدينة عفرين وسيطرت عليها تقريباً من دون قتال، وانتقلت لحصار الفيلق الثالث في منطقة كفرجنة المعروفة بصعوبة تضاريسها والتي تعد بوابة حدود عفرين الإدارية مع مدينة اعزاز وعموم منطقة عملية "درع الفرات" في ريف حلب، لتدور اشتباكات دامية أدت إلى سقوط قتلى وجرحى من الطرفين وأطراف عديدة أخرى وانتهت بتوقيع اتفاقية.
ختاماً، في الواقع وخلال اليومين الماضيين تعددت الأقاويل والتأويلات والتحليلات بأن "الهيئة" دخلت عفرين وسيطرت عليها، ولن تخرج منها، وستدخل لاحقاً إلى مناطق درع الفرات في مدينة اعزاز وصولاً إلى جرابلس بهدف السيطرة على تلك المناطق وابتلاع فصائلها، ولكن وبنظرة موضوعية وبقراءة متأنية للواقع السياسي والميداني المحيط بالأحداث، سنجد أن هذه التأويلات والتحليلات بعيدة عن الواقع كلّياً، ولا يتمتع مروجوها ببعد النظر أو استقراء الأحداث والربط بينها بشكلها الصحيح، وعليه فإننا نستطيع القول أن سيطرة "هيئة تحرير الشام" المطلقة على المناطق "المحررة" في الشمال السوري مرفوضة شكلاً ربما لا مضموناً من الجانب التركي، ولن تحصل رغم عدم رضا أنقرة عن أداء وسلوك بعض الفصائل في منطقتي "غصن الزيتون ودرع الفرات"، ورغم حاجتها لقوة واحدة موحدة تتعامل معها في حال تم التوصل إلى أية تفاهمات وتسويات جديدة تخص الشمال السوري.
لن تسمح القيادة التركية بجعل "هيئة تحرير الشام" الذريعة والعذر لروسيا والنظام وقسد وغيرهم لاستهداف المناطق التي تقع تحت نفوذها، وبالتالي إضعاف مواقفها وأوراقها السياسية والعسكرية العديدة في الملف السوري
وبناءً عليه فلن تسمح القيادة التركية بجعل "هيئة تحرير الشام" الذريعة والعذر لروسيا والنظام وقسد وغيرهم لاستهداف المناطق التي تقع تحت نفوذها، وبالتالي إضعاف مواقفها وأوراقها السياسية والعسكرية العديدة في الملف السوري لصالح أطراف ونفوذ عديدة. وهذا فعلاً الذي حصل لاحقاً بعد أن دخلت القوات التركية إلى مدينة عفرين وانتشرت قواتها ومدرعاتها فيها، وجعلت "تحرير الشام" تغادرها باتجاه مناطق سيطرتها في إدلب، بعد أن عقدت اتفاقاً مع الفيلق الثالث برعاية وقبول وإشراف تركي الذي ولربما وضع البنود الأهم فيه وخاصة موضوع الإدارة الموحدة للشمال السوري.