لطالما سعى المبعوث الأممي إلى سوريا "غير بيدرسن" لطرح مقاربات غريبة في الحل السياسي للملف السوري، ومن بينها ما سمّاه سياسة "خطوة بخطوة"، وتعني اتخاذ خطوات متبادلة بين النظام السوري والمجتمع الدولي لكسب الثقة بين الطرفين، والاتجاه بالتدريج نحو إتمام الحل السياسي من دون الاصطدام بعثرات الحل الشامل ونتيجته المعروفة مسبقاً من جهة النظام.
سياسة بيدرسن "خطوة بخطوة" لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، رغم الإشارات إلى أنها ستشمل المعتقلين على سبيل المثال من جانب النظام. ورغم أن بيدرسن ألمح إلى مباركة الروس والأوروبيين والأميركيين لمبادرته، إلا أن الأطراف المشاركة في اللجنة الدستورية لم تحقق أي تفاهم في المجمل، مع مماطلة النظام وتعطيله للاجتماعات، ورفض المعارضة لتلك السياسة.
بالتوازي مع هذه الأجواء "الإيجابية" في نظر من يراها كذلك، يستمر الانهيار المتسارع لليرة السورية، إذ تجاوزت قيمتها 7 آلاف ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد
إلا أن الاختراقات أو التطورات التي حصلت في الملف السوري مؤخراً، تعطي إشارات قد يُفهم منها أن سياسة خطوة بخطوة تنعكس على العديد من الملفات، كحلٍ من هنا ومبادرة هناك واستيعاب من طريق آخر، ومن ذلك الاجتماع الأخير الذي جمع وزيريْ دفاع النظام السوري وتركيا في موسكو، والذي كان الأول من نوعه منذ 11 عاماً، وبحضور مسؤوليْ المخابرات لدى الجانبين.
وبالتوازي مع هذه الأجواء "الإيجابية" في نظر من يراها كذلك، يستمر الانهيار المتسارع لليرة السورية، إذ تجاوزت قيمتها 7 آلاف ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد، وتطحن الأزمة المعيشية قاطني مناطق سيطرة النظام، مع غياب واضح للدعم من جانب حكومة النظام، وكأنها تركت ملايين السوريين يصارعون الجوع والمرض ويقتلعون شوكهم بأيديهم.
وكان الكونغرس الأميركي وافق على مشروع قرار يعتمد استراتيجية مشتركة بين الوكالات الأميركية لتفكيك تجارة المخدرات من جانب النظام السوري، ووقف إنتاجها وتهريبها إلى دول المنطقة، بعد حصول المشروع على دعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ورغم أن سياسة الولايات المتحدة لمعاقبة النظام السوري ما زالت تصر على تجنب معاقبة الشعب السوري، سواء من خلال قانون قيصر الصادر في منتصف كانون الأول عام 2019، الذي أشار بوضوح إلى تجنب قطاعات مرتبطة بقوت السوريين وحياتهم اليومية وطبابتهم، مع التركيز على قطاعات تدعم النظام السوري مباشرة وتدر أموالاً طائلة على مسؤوليه مثل الأسلحة والنفط وكل ما يساهم في تعذيب السوريين وقتلهم. وهنا يأتي مشروع قانون المخدرات ليشكل سهماً موجهاً إلى صميم تجارة النظام المزدهرة، والتي أغرق بها سوريا ودول المنطقة، وعادت عليه بأرباح طائلة وسمعة عالمية توازي دولاً في أميركا اللاتينية كانت تشتهر بإنتاج المخدرات.
وبينما تضغط دول عربية وإقليمية لعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، وتنفتح عليه أو تدعو للانفتاح معه أو تخفيف وطأة العزلة عنه، ما زالت دول ترفض وتتمسك بموقفها منه وتحرمه من العودة إلى الجامعة العربية على سبيل المثال لا الحصر، وهي سياسات بدت متسارعة ومتقلبة بشكل مستمر من معظم الفاعلين في الملف السوري، تقترب وتبتعد بحسب السياق والتطورات الكبرى، لكن جميعها يتفق على أن لا عودة سريعة للعلاقات مع النظام السوري ولا يوجد حل شامل للملف السوري دون أن يمر بمراحل.
يستشعر السوريون اليوم أي تطور باعتباره انعكاساً لتغيرات جديدة في الملف السوري، وكل ذلك قد يكون ضمن سياسة "خطوة بخطوة" لصاحبها بيدرسن، ولو كان حدثاً صغيراً أو هامشياً كالتعزية التي وجهها أعضاء في المجلس الإسلامي السوري بوفاة مؤسسة حركة القبيسيات "منيرة القبيسي" بدمشق، يُضاف إليها الحديث عن نقاشات داخل فصائل المعارضة بخصوص تطورات الموقف التركي، الذي يمضي يوماً بعد آخر باتجاه النظام السوري.
سياسة خطوة بخطوة تخلق علامات استفهام كثيرة بخصوص التطورات المقبلة، فلا أحد يدري أيها تندرج ضمن تلك السياسة الأممية
كذلك فإن التفاوض بين النظام وقسد على خلفية العملية التركية التي لوحت بها أنقرة مراراً، يشي بأن هناك سعياً من جانب الطرفين للدفع باتجاه صياغة جديدة للعلاقات بينهما، دون أن تتضح معالمها حتى الآن، لكن كل ذلك يعود مجدداً إلى النقطة ذاتها، والتي تتوقف عند سياسة "خطوة بخطوة" بعد أن زلّ بيدرسن سابقاً بمبادرة ماتت في مهدها وأطلق عليها "العدالة التصالحية"، لما في ذلك من إرباك بسبب مصطلح المصالحة أو التصالح، وانعكاساته على الرأي العام لجمهور الثورة السورية.
سياسة خطوة بخطوة تخلق علامات استفهام كثيرة بخصوص التطورات المقبلة، فلا أحد يدري أيها تندرج ضمن تلك السياسة الأممية، وما إذا كانت الاتفاقات الإقليمية والدولية تخضع للمزاج الأميركي وتتفاهم معه، أو تمضي باستقلالية دونه، وهي ميزة تُحسب لبيدرسن أنه قفز على كل العراقيل التقليدية التي كانت تعطل مسار عمله، وطرح مبادرته للحل كأسلوب للممارسة السياسية يعطي الدول الفاعلة مرونة أكبر وقدرة على التنازل أو التشدد متى شاءت، وفي ضوء ذلك يبحث السوريون عن أي فرصة للحل، وربما يحللون أي خطوة كبيرة جديدة باعتبارها "تآمرية" ستزيد من معاناتهم.