كشفت صحيفة وول ستريت جورنال عن تسريبات لأبحاث داخلية أجرتها شركة فيس بوك تثبت نقاط ضعفها فضلاً عن قيامها بأمور شائنة، وعن ذلك كتب الصحفي كيفن روز مقالة في نيويورك تايمز وترجمها موقع تلفزيون سوريا، هذا نصها:
ثمة طريقة ممكنة لقراءة "ملفات فيس بوك"، وهذا عنوان للسلسلة المتميزة التي تقدمها صحيفة وول ستريت جورنال حول التقارير القائمة على بحث داخلي مسرب من فيس بوك، وفي تلك الطريقة الممكنة تنكشف قصة تدور حول مجتمع يقوم على قوة ساحقة ماحقة لا يستطيع أن يقف في وجهها أحد.
فقد قدمت تلك السلسلة أدلة دامغة حول وجود نظام عدالة مؤلف من مستويين لدى فيس بوك، وبأنه يعرف بأن تطبيق إنستغرام يفاقم المشكلات التي تتصل بصور الأجساد بين أوساط الفتيات، وبأنه يعاني من مشكلة أكبر مما اعترف به بالنسبة للمعلومات المضللة حول اللقاح أكثر، إلى جانب مشكلات أخرى. وهنا يصبح من السهل علينا أن نصل بتفكيرنا إلى نتيجة مفادها بأن فيس بوك قوي بشكل مرعب، ولا يمكن لأحد أن يركعه، اللهم إلا عبر تدخل عدواني من قبل إحدى الدول.
ولكن هنالك طريقة أخرى لقراءة هذه السلسلة، وهذا التفسير هو الذي ترددت أصداؤه بصوت أعلى داخل تلافيف دماغي مع ظهور كل قسم جديد من تلك السلسلة، كان من بينها القسم المعنون: فيس بوك في ورطة.
لم تكن الورطة مالية، ولا قانونية، ولا تلك التي رأيناها عندما أخذ أعضاء مجلس الشيوخ يصرخون في وجه مارك زوكربيرغ، بل إن ما أتحدث عنه هو نوع من التراجع البطيء والمستمر يمكن أن يلاحظه أي شخص سبق له أن شاهد شركة وهي تحتضر عن قرب، إذ هنالك سحابة من خوف وجودي تغطي تلك المؤسسة التي أصبحت أجمل أيامها خلف ظهرها، وتؤثر على كل أولوية إدارية وقرار يخص أي منتج، وتتجه نحو المزيد من المحاولات اليائسة لإيجاد مخرج لتلك الورطة. وهذا النوع من التراجع لا يمكن رؤيته من الخارج بالضرورة، بيد أن الموجودين في قلب الحدث يرون مئة مؤشر صغير ومزعج يدل على وجود تلك الورطة كل يوم، إذ هنالك تزايد في عمليات القرصنة المعادية للمستخدم، والأقطاب المسعورة، وجنون الارتياب لدى الإدارة التنفيذية، والاستنزاف التدريجي للزملاء الموهوبين.
وهكذا أصبح من الشائع بين منتقدي فيس بوك التركيز على حجم الشركة وهيمنتها، في الوقت الذي يقومون فيه بتقريع زلاتها والتهجم عليها بشدة. ففي جلسة استماع عقدها مجلس الشيوخ الأميركي يوم الخميس الماضي، استجوب النواب أنتيغون ديفيس، الرئيس العام لقسم السلامة لفيس بوك في كل الدول، حيث طرحوا عليها أسئلة حول تصميم منتج الشركة الذي يدفع نحو الإدمان، وتأثير ذلك على مليارات المستخدمين. إلا أن الكثير من الأسئلة التي وجهت للسيدة ديفس كانت عدائية، ولكن كما هي الحال في جلسات الاستماع التي تعقد للشركات التقنية الكبرى، كان هنالك نوع غريب من الاحترام والإذعان يخيم على الأجواء، وكأن النواب كانوا يسألون: مرحباً يا وحش غودزيلا! هل بوسعك الكف عن الدوس على طوكيو؟
ولكن في حال أثبتت تلك الوثائق المسربة أي شيء، فلابد أن يكون حول شكل فيس بوك عندما لا يشبه وحش غودزيلا. فقد كشفت الوثائق التي نشرتها وول ستريت جورنال عبر فرانسيس أوجين، وهو مدير سابق لمنتجات فيس بوك، بأن الشركة قلقة حيال خسارتها للقوة والنفوذ، وليس كسبها لهما، وذلك بعدما كشف البحث الذي أجرته تلك الشركة بأن الكثير من منتجاتها لم تنجح وتزدهر من تلقاء نفسها، بل على العكس، نجد الشركة تمر بفترات طويلة للغاية لتحسن من صورتها السامة، ولمنع المستخدمين من هجر تطبيقاتها والانتقال لبدائل تعجبهم أكثر.
وبوسعك عزيزي القارئ أن ترى نقطة الضعف هذه بكل جلاء في الحلقة التي نشرت خلال الأسبوع الماضي من تلك السلسلة، وهي عبارة عن مقالة استشهدت ببحث داخلي أجرته شركة فيس بوك وكشف بأن الشركة تخطط لتسويق نفسها بين صفوف الأطفال، وتشير إلى من لم يصل لسن المراهقة بأنه جزء من "جمهور مهم لم يستغله أحد". وتشتمل تلك المقالة على الكثير من الأمور التي تثير الغضب العارم، من بينها محاضرة سأل فيها باحثون من فيس بوك إن كانت هنالك "طريقة للاستفادة من أوقات اللعب لزيادة ما يتناقله الناس عبر الشابكة بين صفوف الأطفال؟"
قد يبدو هذا السؤال غاية في الجنون، لكنه يكشف لنا الكثير عن تلك الشركة، إذ هل يتعين على تطبيق مزدهر وواثق من نفسه على مستوى التواصل الاجتماعي أن يدرس طرق "الاستفادة من أوقات اللعب"، أو أن يقوم بإعداد خطط نمو موسعة تستهدف أطفالاً بعمر العاشرة؟ ولو كان فيس بوك تطبيقاً لا يمكن لأي تطبيق آخر أن يوقفه، فهل سيروج لنفسه بين صفوف المراهقين- وهنا يرجى قراءة هذا السطر بصوت ستيف بوشيمي وهو يقول مقلداً: "كيف حالكم يا أطفالي؟ إنني مدرب حياة يعلمكم كيف بوسعكم أن تتصرفوا كالكبار".
في الحقيقة إن تعطش فيس بوك للمستخدمين الصغار ليست له علاقة بالهيمنة على سوق جديدة بقدر ما يتصل بتجنب تحوله إلى منصة لا تهم أحداً، فقد تراجع استخدام فيس بوك بين صفوف المراهقين في الولايات المتحدة على مدار سنوات، ومن المتوقع أن يهبط أكثر خلال فترة قريبة، وذلك وفقاً لتوقعات الباحثين التابعين لفيس بوك الذين رأوا بأن الاستخدام اليومي لهذا التطبيق قد يهبط بنسبة 45% بحلول عام 2023. كما كشف الباحثون أيضاً بأن إنستغرام، الذي عوض نموه عن تراجع الاهتمام بالتطبيق الأساسي لفيس بوك طيلة سنوات، صار يخسر حصته في السوق لصالح منافسين أسرع نمواً منه، مثل تيك توك، ولهذا لم يعد المستخدمون الشباب ينشرون محتوى عليه بالقدر الذي كانوا ينشرونه في الماضي.
إن "فيس بوك للناس الكبار بالسن"، كان ذلك هو الحكم القاسي الذي أصدره فتى في الحادية عشرة من عمره أمام الباحثين من شركة فيس بوك، وذلك بحسب ما ورد في الوثائق الداخلية للشركة.
ثمة طريقة مناسبة لنفكر بمشكلات فيس بوك وهي أن تلك المشكلات تأتي بنكهتين أساسيتين وهما: مشكلات يعود سببها لوجود الكثير من المستخدمين، ومشكلات يعود سببها لوجود القليل من ذلك النوع من المستخدمين الذي تريده الشركة، من الأميركيين الشباب الذين يخلقون ثقافة ويحددون توجهات ويتمناهم كل معلن.
وتحتوي ملفات فيس بوك على أدلة تظهر كلا النوعين، ففي إحدى الحلقات مثلاً التي تدور حول المحاولات الفاشلة للشركة التي سعت لمنع النشاط الإجرامي وانتهاكات حقوق الإنسان في الدول النامية، نجد بأن هذه المشكلة قد تفاقمت بسبب عادة فيس بوك المتمثلة بالتوسع في دول ليس لها فيها سوى عدد قليل من الموظفين لديهم خبرة ضعيفة بالسوق المحلية.
إلا أن هذا النوع من المشكلات يمكن إصلاحه، أو تحسينه على الأقل، من خلال تقديم ما يكفي من الموارد والتركيز. أما النوع الثاني من المشكلات، وذلك عندما يتخلى صانعو القرار والأذواق عن المنصات بصورة جماعية، فهو النوع الذي يصيبك في مقتل. ويبدو بأن هذا النوع من المشكلات هو الذي يقلق المدراء التنفيذيين لدى شركة فيس بوك.
وهنا سنتطرق للمقالة الثالثة التي نشرت ضمن تلك السلسلة التي قدمتها وول ستريت جورنال، حيث تكشف تلك المقالة قراراً أصدرته شركة فيس بوك في عام 2018 يقضي بتغيير خوارزمية آخر الأخبار لتعزيز "التفاعل الاجتماعي المفيد" بدلاً من الوصول إلى ذروة الغضب والحنق.
وقد تم تصوير ذلك التغيير في الخوارزمية على أنه لفتة نبيلة تعزز الحوارات القائمة على أسس صحية. بيد أن التقارير الداخلية للشركة كشفت بأنها كانت محاولة لتغيير حالة التراجع التي امتدت لسنوات طويلة بالنسبة لتفاعل المستخدمين، فقد هبط عدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات على تلك المنصة، وذلك بوجود مقياس يعرف باسم: "المنشورات الأصيلة"، ولهذا حاول المدراء التنفيذيون أن يحيلوا ذلك التراجع إلى زيادة وذلك عبر تعديل خوارزمية آخر الأخبار وتنظيمها بشكل مختلف لتروج للمحتوى الذي يحصل على الكثير من التعليقات والتفاعل، وهذا ما تحول بدوره ليصبح بكل صراحة: "محتوى مستفز".
يقول الناطق باسم شركة فيس بوك، جو أوزبورن: "إن حماية مجتمعنا أهم من زيادة أرباحنا، ثم إن من يقول بأننا نغض الطرف عما يردنا من تعليقات حول ذلك لابد أنه يتجاهل كل تلك الاستثمارات، والتي تشمل 40 ألف شخص يعملون على سلامة وأمان فيس بوك إلى جانب استثماراتنا التي بلغت قيمتها 13 مليار دولار منذ عام 2016".
غير أن الوقت ما يزال مبكراً للإعلان عن نهاية شركة فيس بوك، وذلك لأن سعر سهم الشركة قد ارتفع بنسبة 30% تقريباً خلال السنة الماضية بفضل عوائد الإعلانات القوية وارتفاع نسبة استخدام بعض منتجات الشركة خلال فترة الجائحة. كما أن شركة فيس بوك ما تزال في طور النمو في الدول الأخرى، خارج الولايات المتحدة، لذا بوسعها أن تنجح هناك حتى لو تعثرت في بلدها. ولقد استثمرت الشركة بشكل كبير في مشاريع حديثة، مثل منتجات الواقع المعزز والافتراضي، والتي يمكن أن تقلب الموازين في حال نجاحها.
بيد أن البحث الذي أجرته شركة فيس بوك يخبرنا بقصة واضحة المعالم، وهي ليست بقصة سعيدة، وذلك لأن مستخدمي فيس بوك من الشباب يتقاطرون للنشر على سناب شات وتيك توك، أما مستخدميها الأكبر سناً فيقومون بنشر محتوى مناهض للقاح، ويتناقشون حول السياسة. ولهذا بدأت بعض منتجات فيس بوك تتقلص بشكل فعلي، في حين أصبح بعضها الآخر يثير غضب المستخدمين أو خجلهم من أنفسهم.
ثم إن تراجع أهمية فيس بوك بين أوساط الشباب يجب ألا يجعل النقاد متفائلين بالضرورة، فقد علمنا التاريخ بأن شبكات التواصل الاجتماعي نادراً ما تُعمّر، وبأن شركات التقانة يمكن أن تخلف الكثير من الضرر خلال فترات تراجعها وانحسارها، (وهنا يخطر ببالي تطبيق ماي سبيس، الذي كبر بشكل عشوائي للغاية ثم أصبح مليئاً بالمحتوى التطفلي إلى أن تحول إلى مدينة أشباح، وبلغت به الأمور لأن يقوم ببيع بيانات المستخدمين للشركات الإعلانية. ولكن بوسعكم أن تكتشفوا قصصاً خسيسة مشابهة موجودة في سجلات معظم التطبيقات التي منيت بالفشل)، إلا أن السنوات المقبلة التي تنتظر فيس بوك قد تكون أبشع من السنوات القليلة الماضية، لاسيما في حال قررت الشركة أن تقلص من أبحاثها الداخلية والجهود التي تبذلها على صعيد النزاهة عقب هذه التسريبات.
إلا أن كل ذلك لا يعني بأن فيس بوك ليست بشركة قوية، وبأنه لا ينبغي عليها أن تخضع لضوابط معينة وبأن ما تقوم به لا يستدعي المراقبة والتمحيص. صحيح أن فيس بوك في حالة تراجع ولكنها ماتزال واحدة من أقوى الشركات وأشدها تأثيراً على مر التاريخ، كونها تتميز بقدرتها على رسم السياسة وتحديد شكل الثقافة في مختلف بقاع العالم.
ولكن علينا ألا نخلط بين حالة الدفاع عن جنون الارتياب الذي يصل إلى نسب صحية، وسعي تلك المنصة الحثيث لاستعراض قوتها، إذ في ختام القصة الخيالية التي يعرفها الجميع مات وحش غودزيلا، وهذا ما سيحدث لفيس بوك بحسب ما أوضحته ملفات تلك الشركة بكل جلاء.
المصدر: نيويورك تايمز