في أواخر شهر كانون الثاني، عندما خرج الناس في أكثر من 100 مدينة وقرية في مختلف أنحاء روسيا للاحتجاج على اعتقال زعيم المعارضة أليكسي نافالني، شارك زميلي في فورين بوليسي مذكرة تم تداولها عبر تويتر، وتظهر صفاً من الألواح الخشبية التي رصفت مثل أحجار الدومينو، وعنون هذا الشيء المثير للانتباه بـ" إليوت هيجينز عاطل عن العمل ويشعر بالملل"، وفي نهاية الصف ظهر العنوان: "نظام بوتين في خطر".
وهيجينز هذا الذي ترك الدراسة في الكلية قبل عقد من الزمان وأبدى شهية نهمة تجاه الأخبار، لم يكن عاطلاً عن العمل تماماً، لكنه كان يحس بالملل، فقد بقي يراوح مكانه في وظيفة إدارية مملة بليستر في إنجلترا، ولهذا شرع بالقيام بما لم تقم به وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية برأيه، وهو الوصول إلى قلب ما يجري بالفعل مع اندلاع الربيع العربي، إذ أخذ يبحث عن مصادر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك في المنتديات الموجودة على الشابكة ليصل إلى شذرات من المعلومات حول الأزمة التي أخذت تتصاعد بسرعة في سوريا واليمن وليبيا. بعد ذلك حول أنظاره نحو روسيا، فبلغ الذروة معها عندما فجر قنبلة من العيار الثقيل خلال هذا العام وذلك حول محاولات موسكو الفاشلة لاغتيال أكثر شخص يزعجها بالسم، ألا وهو نافالني.
فضح أكاذيب روسيا
هذا ولقد قدمت: (نحن بيلينغكات) أول رواية حول الطريقة التي تم ترتيب أحجار الدومينو فيها، وكيف تساقطت حتى الآن، فلقد كان هيجينز أول من روى كيف قام فريقه المؤلف من جواسيس رقميين بنشر النتائج المفصلة التي توصلوا إليها عبر الشابكة، ليفضح بذلك من جديد أكاذيب الكرملين، وليكشف أمر فرقة التسميم الروسية التي تقفت أثر نافالني، وأثبتت استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي، فكانت تلك قصة أشبه بقصة داوود وجالوت ولكن في العصر الرقمي، غير أنها اعتمدت على أساليب البحث والتنقيب المتطورة عبر معلومات قدمتها مصادر مفتوحة بدلاً من اعتمادها على المقلاع البدائي.
وكما أشار هيجينز الذي أصبح اليوم المدير التنفيذي لبيلينغكات في افتتاحية أحد الكتب، فإن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قلب العمل الاستقصائي رأساً على عقب. إذ بعدما احتكر الصحفيون والدبلوماسيون، ووكالات الاستخبارات التي تتعامل مع مصادر سرية عملية الحصول على المعلومات المتعلقة بالشأن الدولي في زمن من الأزمان، مكن الإنترنت المواطنين الصحفيين من نقل الأخبار العاجلة بشأن أهم الأحداث من دون الحاجة إلى ترك مواقعهم. وقد أصبح التحدي في العصر الرقمي يتمثل في التحقق من الإبرة التي تتصل بالموضوع ضمن كومة القش الهائلة من المعلومات المتوافرة على الشابكة.
وفي عام 2011 مع اندلاع الاحتجاجات في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شرع هيجينز في فرز الأخبار الملفقة وإخراجها من تلك الكومة، إذ سعى للحصول على معلومات جديدة بشأن المعارك والأسلحة ومن ثم التحقق منها بالاعتماد على مفاتيح السياق والمصادر المفتوحة. وفي أول تقدم كبير أحرزه، تمكن هيجينز من التحقق من خطوط الجبهة المتقلبة بشكل سريع في المعركة التي قامت بين قوات معمر القذافي وجماعات الثوار في مدينة بريقة بليبيا، حيث انطلق من فيديو على يوتيوب، ثم رسم خريطة أولية لتحركات الثوار طبعت على قطعة ورق وهو جالس في مكتب فارغ بإنجلترا، بعد ذلك قام بتحديد المواقع بدقة على خرائط غوغل، وكتب عن ذلك قائلاً: "كانت تلك فورة نشاط، لكنها اشتملت على اكتشاف، إذ بوجود شيء من التحول الذهني، بوسعك أن تفسر الفيديوهات من منظور يتجه من الأعلى إلى الأسفل، وهكذا تتم تسوية الأبعاد الثلاثة مع بعضها، وتحويل الفيديو الذي هو عبارة عن مقطع متذبذب إلى شيء دقيق ومحدد كالخريطة، ومن هناك تبدأ لعبة المطابقة والربط".
القطة والجرس
وبعد مرور ثلاث سنوات، أسس هيجينز وفريقه من المتطوعين بيلينغكات، وهو اسم يجسد الحكاية التقليدية التي تصف الفئران التي ربطت جرساً بالقطة التي تقوم بتعذيبهم، وبذلك تحول هذا المشروع إلى مشروع جدي. إذ في 17 تموز من عام 2014، بعد مرور ثلاثة أيام على تأسيس بيلينغكات، أصاب صاروخ بوك المصنوع في روسيا طائرة مدنية ماليزية فوق شرقي أوكرانيا، فقتل كل من وجد على متنها. وفي الوقت الذي بدأ فيه الإعلام الرسمي الروسي بالعمل على إطلاق وابتداع نظريات المؤامرة بشأن حادثة التحطم تلك، تحولت القصة التي تدور حول شرذمة من الانفصاليين الأوكرانيين واستحواذهم على صاروخ روسي فتاك أول تقدم كبير في التحقيقات التي قدمتها بيلينغكات وأريك تولار، إذ تابع هؤلاء تحقيقاتهم حول تلك المجموعة في أوروبا الشرقية. وهكذا قامت بيلينغكات بالتحقق من مصادر ومراجع الصور التي نشرت في الإعلام، ومقاطعتها مع مقاطع الفيديو المتاحة للعموم، والمنشورات التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بهدف تعقب رحلة صاروخ بوك من روسيا وصولاً إلى أوكرانيا. كان توجيه إصبع الاتهام إلى موسكو خطوة محفوفة بالمخاطر، وكان هيجينز يعلم ذلك علم اليقين، لكن كان لديه كل شيء يثبت ذلك، وحول هذا كتب ليخبرنا: "عندما نشرنا ذلك على بيلينغكات، كنا عبر ذلك نقوم بتوجيه اتهامات خطيرة ضد روسيا، التي تعد إحدى القوى العظمى الدولية التي أظهرت قيادتها الحالية نزعة نحو شن حرب إعلامية، فضلاً عن ميلها للعنف".
ومنذ انطلاقتها، تحدت بيلينغكات التعريف الذي وصفها بأنها تمثل شيئاً من الصحافة وشيئاً من التحقيق الجنائي، وذلك عندما وصفها هيجينز بأنها وكالة استخباراتية مخصصة للشعوب، كما سمح استخدام المحققين للمصادر المفتوحة واتباعهم لمناهج وأساليب دقيقة رافقت كل عملية تحقيق، بتعقب خطواتهم من قبل أي جهة، في الوقت الذي ضعفت فيه ثقة الجمهور بوسائل الإعلام التقليدية التي تعتمد على مصادر مجهولة.
شراء البيانات
إلا أن بيلينغكات مضت إلى حيث لم تمض أي جهة إعلامية على أكثر من مستوى، وذلك عندما قطعت هي وشريكتها الروسية: إنسايدر خلال السنوات الماضية الخط الأحمر المتعارف عليه منذ أمد بعيد بين صفوف الصحفيين، ألا وهو دفع المال من أجل الحصول على قواعد بيانات من السوق السوداء المزدهرة في روسيا والمتخصصة بالمعلومات المسربة، فقد فتح ذلك حدوداً وآفاقاً جديدة في تحقيقات بيلينغكات، ومكنها من تحديد هوية من قاموا بتسميم نافالني وسيرغي سكريبال، وهو جاسوس سابق لروسيا تم تسميمه في سالزبيري بإنكلترا، كما فتح ذلك أيضاً الباب أمام ظهور معضلات أخلاقية جديدة، تعرض هيجينز لها في كتابه.
ففي يوم الإثنين، نقل الإعلام الروسي بأن المحققين في سانت بطرسبرغ نظروا في المزاعم حول قيام أحد ضباط حفظ النظام في البلاد ببيع بيانات الركاب على الطائرة التي كان نافالني على متنها عندما أغمي عليه في بداية الأمر وذلك في أواخر شهر آب الماضي، وكان أول دليل على ذلك هو حملة القمع التي قامت بعد ذلك وشملت عملية انتقال المعلومات لكنها مكنت بيلينغكات من تحقيق حالات التقدم التي توصلت إليها أخيراً.
هذا وتقوم نيويورك تايمز والمنظمات الحقوقية حالياً بمحاكاة مهارات المصادر المفتوحة التي تبنتها بيلينغكات، إذ تعقد هذه المنظمة ورشات عمل دورية لتقوم بتدريب المزيد من الأشخاص على مهارات التحقيق بناء على المصادر المفتوحة. ولكن مثل الكثير من الرواد في المجال الرقمي الذين سبقوه، لم يتحدث هيجينز في كتابه عن طريقة منع استخدام تلك الأدوات في الشر. إذ لو حشدت جماعات اليمين المتطرف والحكومات المستبدة المهارات مع التصميم والعزيمة التي أبداها القائمون على بيلينغكات، فلن تكون الصورة جميلة.
مناهج عمل
بيد أن هيجينز لم يفرغ من عمله بعد، إذ إنه ما فتئ يفضح أعمال الشر، ولهذا لا بد أن تشتمل خطواته المقبلة على إقامة مخطط أساسي لمناهج المصادر المفتوحة بالنسبة لأي أزمة ستظهر مستقبلاً، بدءاً من النزاع في اليمن، حيث تسبب الاقتتال بين المتمردين الحوثيين الذين تدعمهم إيران وقوات الحكومة الذين يتلقون الدعم من التحالف الذي تقوده السعودية بظهور أسوأ أزمة إنسانية في العالم. وهنا اعتمدت بيلينغكات على تقنيات وأساليب متطورة مثل برنامج هانتشلي الذي يقوم بتسجيل كل نقرة يقوم بها المحققون، مما يساعد النيابة في دراسة الجرائم مستقبلاً عبر تعقب خطواتهم بكل سهولة. وبالتعاون مع الشبكة العالمية للإجراءات القانونية، أصبح الهدف يتلخص بفرز مقاطع الفيديو التي تصور النزاع والتحقق من صحتها، إلى جانب إنشاء مصدر واف من المعلومات من أجل أي تحقيقات ستجري مستقبلاً، ويشمل ذلك التحقيقات في لاهاي، بعدما أصبح هيجينز عضواً في المجلس الاستشاري التقاني لدى المحكمة الجنائية الدولية.
وبذلك يمكن للنيابة التي تقوم بإعداد ملفات القضايا بشأن جرائم الحرب أن تقوم باستخراج الأدلة التي تم جمعها وحفظها بموجب المعايير القضائية، وهكذا وبنقرة على زر، يمكنهم أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث سنين طويلة بحسب رأي هيجينز.
وتماماً كالعمل الذي تقوم به بيلينغكات، يتجه هذا الكتاب مباشرة نحو صلب الموضوع بطريقة مثيرة، وفيه سلوى لأي امرئ أقلقته فوضى وسائل التواصل الاجتماعي، كما أنه ظهر في الوقت المناسب ليذكرنا بأنه يمكن للإنترنت أن يبقى بأيد أمينة وأن يتحول إلى قوة رائعة من أجل عمل الخير.
المصدر: فورين بوليسي