في الوقت الذي تنسحب فيه القوات الروسية من شمالي أوكرانيا لتركز عملياتها على شرقي البلاد وجنوبيها، يسعى الكرملين لتحصيل ما يكفي من أجل تجهيز التعزيزات للقتال حتى يشن جولة جديدة من الحرب، بحسب ما ذكره مسؤولون عسكريون واستخباراتيون أميركيون وأوروبيون.
فقد أرسلت موسكو في بداية الأمر 75% من قواتها المقاتلة البرية الأساسية لتخوض الحرب في شهر شباط بحسب ما أورده مسؤولون في البنتاغون، إلا أن معظم تعداد هذا الجيش الذي يتجاوز عدده 150 ألف جندي أصبح اليوم بمثابة قوة مهدورة، بعدما جابهته مشكلات لوجستية، فضلاً عن تراجع الروح المعنوية، والخسائر البشرية المدمرة التي مني بها على يد المقاومة الأوكرانية التي صمدت لفترة أطول مما توقع لها أي أحد، بحسب ما ذكره مسؤولون عسكريون واستخباراتيون.
نسبياً، هنالك قوات روسية جديدة لكنها قليلة من المقرر لها أن تسد تلك الفجوة، فقد سحبت روسيا قواتها، التي يصل تعدادها إلى نحو 40 ألف جندي، بعدما أخذت مواقعها حول كييف وتشيرنهيف الواقعتين شمالي البلاد، وذلك لتقوم بإعادة تسليحهم وإمدادهم في روسيا والجارة بيلاروسيا قبل إعادة نشرهم المرتقبة في شرقي أوكرانيا والتي يرجح أن تتم خلال الأسابيع القليلة القادمة، بحسب ما ذكره مسؤولون أميركيون.
كما دفع الكرملين نحو شرقي أوكرانيا بخليط من المرتزقة الروس والمقاتلين السوريين والمجندين الجدد وجنود نظاميين في الجيش الروسي بعدما أتى بهم من جورجيا وأقاصي الشرق في روسيا.
ولهذا يرى محللون ومسؤولون أميركيون رفيعون بأن السؤال مايزال مفتوحاً حول ما إذا ستقوم القوة الروسية التي ماتزال فتاكة جداً بالتغلب على أخطائها الفادحة التي ارتكبتها خلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب خلال عطلة نهاية هذا الأسبوع، وهل ستحقق قدراً محدوداً من أهداف الحرب التي وضعتها لنفسها ضمن مساحة ضئيلة من البلاد أم لا.
بوروديانكا القريبة من كييف من أوائل المناطق التي دكتها الغارات الجوية الروسية
روسيا ماتزال قوية
ذكر جيك سوليفان مستشار الأمن القومي لدى الرئيس بايدن، يوم الإثنين الماضي ما يلي: "ماتزال لدى روسيا قوات تفوق القوات الأوكرانية عدداً، ثم إن روسيا أصبحت تركز قوتها العسكرية اليوم على خطوط هجوم أقل، إلا أن هذا لا يعني بأن النجاح سيكون حليفاً لها في الشرق.. ولذلك فإن المرحلة الثانية من هذا النزاع قد تمتد لفترة طويلة جداً"، وأضاف بأن روسيا قد ترسل "آلاف الجنود إلى الجبهة الشرقية في أوكرانيا" وبأنها ستواصل القصف العنيف على كييف وأوديسا وخاركيف ولفيف وغيرها من المدن بالصواريخ والقذائف والهاون.
بنى المسؤولون الأميركيون تقديراتهم على الصور التي التقطت عبر الأقمار الصناعية وعلى عمليات اختراق إلكترونية، وتقارير أوكرانية من ساحة المعركة، وغير ذلك من المعلومات، وقد دعمت تلك التقديرات الاستخبارية بدراسة دقيقة أجراها محللون مستقلون من خلال معلومات متوفرة بطريقة تجارية، حيث أثبتت أولى التقديرات الاستخبارية الأميركية حول نية الحكومة الروسية بخصوص الهجوم على أوكرانيا بأنها دقيقة، بالرغم من أن بعض النواب أعلنوا بأن وكالات التجسس بالغت في تقدير قدرة الجيش الروسي على التقدم بشكل سريع.
ومع تعثر الغزو، أكد مسؤولون أميركيون وأوروبيون على أخطاء الجيش الروسي ومشكلاته اللوجستية، بالرغم من أنهم حذروا من عدم التقليل من قدرة موسكو على إعادة ترتيب الصفوف.
سلاح إلى أوكرانيا
نجح الجيش الأوكراني في استعادة المناطق المحيطة بكييف وتشيرنيهيف، فضلاً عن نجاحهم في شن الهجوم على الروس إلى أن انسحبوا، ودحر أي هجوم بري تتعرض له أوديسا في الجنوب، كما صمد ذلك الجيش في ماريوبول، تلك المدينة الواقعة على البحر الأسود التي تتعرض لقصف وحصار شديدين. واليوم ستحصل أوكرانيا من الدول الغربية على دبابات حربية من نوع تي-72، وعلى عربات مشاة وغيرها من الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى صواريخ جافيلين المضادة للدبابات وستينغار المضادة للطائرات.
ومع توقع هذه المرحلة الرئيسية التالية للحرب في شرقي أوكرانيا، أعلن البنتاغون مساء يوم الثلاثاء الماضي عن إرساله لصواريخ جافيلين المضادة للدبابات والتي تصل قيمتها إلى مئة مليون دولار، أما عددها فيبلغ بضعة مئات ضمن ترسانة البنتاغون، إلى أوكرانيا، بعدما أصبح للسلاح فعالية حقيقية هناك في تدمير الدبابات الروسية وغيرها من العربات المصفحة.
ويعتقد مسؤولون أميركيون وأوروبيون بأن تغير تركيز الجيش الروسي يهدف إلى تصحيح بعض الأخطاء التي تسببت بعدم قدرته على قهر الجيش الأوكراني الذي تبين بأنه أمضى وأقوى وأشد دهاء مما توقعته موسكو في البداية.
حطام عربات مصفحة روسية مبعثرة في أوكرانيا
إلا أن المسؤولين يعتقدون بأننا سنشهد كيف ستقوم روسيا بإعادة ترتيب قواتها بشكل فعال حتى تجدد هجومها على أوكرانيا، إذ ثمة مؤشرات مبكرة توحي بأن سحب الجنود والمرتزقة الروس من جورجيا وسوريا وليبيا قد يعقد أولويات الكرملين في تلك البلاد.
حيث يرى بعض المسؤولين بأن روسيا ستحاول المضي في هذا النزاع عبر المزيد من المدفعية الثقيلة، إذ من خلال تركيز قواتها ضمن مساحة جغرافية أصغر، ثم نقلهم إلى مناطق أقرب لخطوط الإمداد في روسيا، يعتقد مسؤولون استخباراتيون غربيون بأن روسيا تطمح إلى تجنب وقوع المشكلات اللوجستية التي عانى منها جنودها خلال هجومهم الفاشل على كييف.
تاريخ لانتصار حاسم
في حين توقع مسؤولون استخباراتيون غربيون آخرون بأن القوات الروسية ستحتاج إلى أسبوع أو اثنين لتعيد ترتيب صفوفها ونشرهم بشكل مركز وذلك قبل أن يتمكنوا من شن هجوم كبير جديد في شرقي أوكرانيا، حيث بقي الانفصاليون المدعومون من قبل روسيا يقاتلون طوال ثماني سنوات. كما يعتقد مسؤولون غربيون بأن الرئيس فلاديمير بوتين يسعى جاهداً لتحقيق بعض المكاسب قبل حلول يوم 9 من أيار، الذي تحتفل فيه روسيا عادة بنهاية الحرب العالمية الثانية، وتعتبر هذا اليوم يوم نصر كبير بالنسبة لها ولهذا يقام عرض عسكري مهم في الساحة الحمراء.
يعلق على ذلك ميك ماران، وهو المدير العام لمصلحة الاستخبارات الأجنبية في أستونيا، فيقول: "ما نشهده اليوم هو محاولة الكرملين تحقيق بعض النجاحات على الأرض لتتظاهر بأنها حققت نصراً أمام جمهورها في الداخل قبل حلول يوم 9 من أيار".
كما قد يرغب بوتين بتشديد سيطرته على الدونيتسك ولوهانسك الواقعتين شرقي أوكرانيا، مع إقامة جسر بري يصل إلى شبه جزيرة القرم قبل حلول شهر أيار، بحسب رأي مسؤول غربي يعمل في مجال الاستخبارات.
يذكر أن روسيا نقلت عتادها الجوي إلى الشرق استعداداً لهجوم جديد يستهدف الجيش الأوكراني في وسط البلاد، بما أنها زادت من قصفها الجوي في تلك المنطقة خلال الأيام الماضية، بحسب ما يراه أحد الدبلوماسيين وغيره من المسؤولين الأوروبيين.
عاملون في مجال الاستجابة الطارئة وهم يزيلون الركام في خاركيف
يقول ألكساندر إس. فيندمان، وهو خبير بالشأن الأوكراني، كان من أهم الشهود في أول محاكمة أقيمت لعزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "إن هذا السيناريو خطير جداً على الأوكرانيين اليوم، حتى لو بقي حبراً على ورق، أما في الواقع، فلم يبل الروس بلاء حسناً، إلا أننا سنراقب لنشهد ما إذا كان بوسع الروس جلب دروعهم ومشاتهم ومدفعيتهم وقوتهم الجوية وتنسيق الأمور فيما بينها، بهدف تدمير تشكيلات أوكرانية أكبر".
أهم درس: تركيز الجنود
قاتل الجنود الروس ضمن قطعات تضم بضع مئات من الجنود بدلاً من خوض الحرب بتشكيلات أكبر وأشد تأثيراً كونها تضم آلاف الجنود، بما أن الجيش الروسي كان يستعين بتلك التشكيلات في الماضي.
وتعليقاً على ذلك يقول مايك مولروي، وهو مسؤول رفيع سابق في البنتاغون وضابط متقاعد من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: "لم نشهد ما يشير إلى أن لديهم القدرة على التكيف".
إذ حتى الآن، ماتزال أعداد الخسائر الروسية في الحرب غير معروفة، بالرغم من أن وكالات استخبارات غربية تقدر أن الخسائر تتراوح ما بين سبعة إلى عشرة آلاف قتيل إلى جانب 20-30 ألف جريح، فضلاً عن بضعة آلاف أخرى من الجنود الذين أسروا أو فقدوا خلال الحرب.
ولهذا يعتقد مسؤولون غربيون وأوروبيون بأن الجيش الروسي تعلم على الأقل أحد أهم الدروس من حالات الفشل التي مني بها، وهذا الدرس هو الحاجة لتركيز القوات، بدلاً من تشتيتها.
بيد أن موسكو تحاول البحث عن قوات رديفة بحسب ما ذكره مسؤولون في الاستخبارات.
فلقد تعرضت أفضل القوات الروسية والتي تشمل فرقتين محمولتين جواً وجيش حرس الدبابات الأول لخسائر فادحة واستنزاف لقوتها القتالية، ولهذا أخذت القوات الروسية تطالب الجيش بإرسال تعزيزات.
وهذا ما دفع وزارة الدفاع البريطانية ومعهد دراسات الحرب في واشنطن، بما أن هاتين الجهتين تقومان بتحليل الحرب في أوكرانيا، لتناقشا يوم الثلاثاء الماضي أمر انسحاب القوات الروسية من كييف وتشيرنيهيف والذي قد لا يتناسب مع عمليات إعادة نشر الجنود التي ستتم قريباً.
إذ ذكر اللواء مايكل ريباس وهو قائد عسكري سابق لدى قوات العمليات الخاصة الأميركية في أوروبا ومتخصص بشؤون الدفاع الأوكرانية منذ عام 2016، ما يلي: "لا قبل للروس بإعادة بناء المركبات ونظم الأسلحة التي دمرت بسبب وجود قطع أجنبية فيها لم يعد بوسعهم الحصول عليها".
المرتزقة الشيشان
كما أن القوات الروسية التي وصلت من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، تلك الدويلتين الانفصاليتين اللتين استقلتا عن جورجيا في تسعينيات القرن الماضي ثم توسعتا في عام 2008، اعتادت على مهام حفظ السلام، لذا فهي ليست على استعداد للقتال بحسب رأي الجنرال ريباس.
إن المشكلات التي تواجه روسيا من حيث العثور على قوات رديفة تمثل السبب الأكبر الذي دفعها نحو دعوة المقاتلين السوريين والمرتزقة الشيشانيين والروس للانضمام لتلك التعزيزات، إلا أن تعداد تلك القوات الرديفة لم يصل إلى الألوف كونه مايزال ضمن المئات بحسب ما ذكره مسؤولون أوروبيون يعملون في مجال الاستخبارات، ويخبرنا أحدهم بأن القوة الشيشانية "استخدمت كما هو واضح لزرع الخوف"، بالرغم من أن مقاتلي القطعات الشيشانية لم يبلوا أفضل من المقاتلين الروس، إذ تعرضوا هم أيضاً لخسائر فادحة، ولكن تتم الاستعانة بهم في حالات قتال المدن وللقيام "بأقذر أنواع العمليات" بحسب وصف ذلك المسؤول.
مرتزقة فاغنر
في حين يستعد المرتزقة الروس الذين يتمتعون بخبرة قتالية اكتسبوها في كل من سوريا وليبيا للعب دور فاعل في إحدى مراحل هذه الحرب حيث ترى موسكو بأن القتال في شرقي أوكرانيا بات من أهم أولوياتها اليوم.
لذا من المتوقع أن يزيد تعداد المرتزقة الذين تم نشرهم في أوكرانيا من مجموعة فاغنر التي تمثل قوة عسكرية خاصة مرتبطة ببوتين، عن ثلاثة أضعاف عددهم خلال الأيام الأولى للغزو، والذي لم يتجاوز ألف مرتزق بحسب ما ذكره أحد المسؤولين الأميركيين.
هذا وتقوم فاغنر أيضاً بنقل المدفعية والدفاعات الجوية والرادارات التي استخدمتها في ليبيا إلى أوكرانيا، وفقاً لما ذكره المسؤول السابق.
إلا أن إيفلين إن. فاركاس وهي من كبار المسؤولين في البنتاغون المختصين بشؤون روسيا وأوكرانيا خلال فترة إدارة أوباما، ترى بأن نقل المرتزقة ستكون له: "نتائج عكسية، نظراً لعدم قدرة هذه القطعات على الاندماج ضمن الجيش النظامي، وجميعنا يعرف بأنهم منتهكون متوحشون لحقوق الإنسان، وهذا ما سيقلب الرأي العام في أوكرانيا وفي العالم بأسره ضد روسيا".
المقاتلون السوريون
قد يكون المئات من المقاتلين السوريين في طريقهم إلى أوكرانيا، إذ يعتبر ذلك بمثابة رد الجميل لموسكو على مساعدتها لبشار الأسد في سحق الثوار خلال الحرب السورية التي امتدت لأحد عشر عاماً.
إذ ثمة فرقة مؤلفة مما لا يزيد على 300 جندي سوري قد وصلت إلى روسيا لتحصل على تدريب نظامي، لكنه لم يتضح بعد ما إذا كانت تلك الفرقة سترسل إلى أوكرانيا ومتى سيحين ذلك بحسب ما ذكره مسؤولون.
تقول كوري شيك وهي مديرة دراسات سياسات الدفاع والسياسات الخارجية لدى معهد إنتربرايز الأميركي: "إنهم يأتون بمقاتلين معروفين بوحشيتهم على أمل كسر إرادة الأوكرانيين على القتال"، لكنها تضيف بأن أية مكاسب عسكرية يمكن لروسيا أن تحققها لابد وأن تعتمد على إرادة هؤلاء المقاتلين الأجانب ورغبتهم بالقتال، ولهذا تضيف: "من الأمور الصعبة التي تتصل بتشكيل حالة تآلف لمصالح متباينة هي تلك المسألة التي تتصل بصعوبة تحويل هؤلاء المقاتلين إلى قوة مقاتلة فعالة".
مرتزقة روسيا
في الختام لابد لنا أن نذكر بأن بوتين وقع مؤخراً على مرسوم استدعى بموجبه 134 ألف شخص للاحتياط، إلا أن عملية تدريب جنود الاحتياط تحتاج إلى شهور، بالرغم من أن موسكو قد تزج بهم على الجبهات قبل أن يحظوا بما يكفي من التعليم والتوجيهات بحسب رأي بعض المسؤولين.
إذ يقول مايكل كوفمان وهو مدير الدراسات الروسية لدى معهد أبحاث في آرلينغتون: "تعاني روسيا من نقص في الجند، ولذا فهي تبحث عن أي وسيلة للحصول على مقاتلين أينما وجدوا، إلا أن هؤلاء لن يكونوا على استعداد لخوض حرب طويلة الأمد ضد أوكرانيا".
المصدر: نيويورك تايمز