خلال مرحلة ما بعد الشاه، بدأ موقف الولايات المتحدة من نظام الملالي، بالتشكّل، مباشرة مع وصول الخميني إلى طهران، وبدء تصفيته لمعارضيه. وهو الموقف الذي سيستمر لعقود. شهدت إيران ما بعد الثورة، شهوراً من الأزمة العميقة، تخللتها مظاهرات سياسية وانتفاضات عرقية وقبلية، وحدوث تفجيرات. قوبلت تلك الاضطرابات بردود قاسية ووحشية في العديد من المرّات. في أميركا، ظهرت تعبيرات الغضب من عدة جهات رسمية، ضد المعاملة القاسية للمواطنين الإيرانيين من قبل السلطات الثورية الجديدة في إيران. اعتبر الإيرانيون مثل تلك التصريحات (وهي رمزية بالواقع) دليلاً على استمرار نيّة واشنطن التدخل في شؤون البلاد.
من المفارقات أن إدارة الرئيس كارتر كانت تعمل بجد ليس فقط لتطوير علاقات جيدة مع حكومة مهدي بازركان، وهو ليبرالي إلى حدٍّ ما، ولكن أيضاً في محاولة الوصول إلى شخصيات دينية رئيسية بهدف الحوار معها، بعد إدراكها متأخرة بأهمية هذه الشخصيات، لكن غالبية تلك المحاولات قوبلت بالرفض. خصوصاً بعد قرار صدر من مجلس الشيوخ الأميركي يدين سلسلة الإعدامات التي أمرت بها المحاكم الثورية الإيرانية، ما جعل الخميني بنفسه يقود ردة فعل حادة بمواجهة القرار الأميركي.
يعتقد كثيرون أن الإيرانيين بدؤوا التخطيط لاقتحام السفارة الأميركية بعد أن سمحت إدارة كارتر للشاه بدخول الولايات المتحدة للعلاج، وكان خبراء السياسة الأميركية الخارجية قد حذروا الإدارة مراراً من هذا القرار، لما سيخلّفه من مشاكل كبيرة، وربما يعرض الدبلوماسيين في إيران للخطر. لكن لحظة تنفيذ الخطة الإيرانية، جاءت بعد لقاء مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجينسكي مع مهدي بازركان، رمز الثورة الديموقراطية الإيرانية، الذي دخل في صراع مع القادة الدينيين بمن فيهم الخميني نفسه.
استباقاً لأي فعل أميركي وبهدف قطع الطريق عليه، تم اقتحام السفارة واحتجاز الدبلوماسيين (الجواسيس) بحسب الوصف الإيراني
حدث اللقاء في الجزائر بمناسبة الاحتفال بذكرى الثورة الجزائرية يوم 3 تشرين ثاني/نوفمبر 1979. تصدر الاجتماع عناوين الصحف العالمية، مما أوصل الإيرانيين إلى استنتاجات فورية مُبالغ بها بشدّة، بأن الولايات المتحدة على وشك البدء بعملية لتغيير النظام في طهران، على غرار ما فعلت عام 1953. فانطلقوا لاحتلال السفارة في اليوم التالي. على الفور استقال بازركان، احتجاجاً على احتجاز الرهائن.
إذاً، استباقاً لأي فعل أميركي وبهدف قطع الطريق عليه، تم اقتحام السفارة واحتجاز الدبلوماسيين (الجواسيس) بحسب الوصف الإيراني. أما بحسب الوثائق الأميركية، وباستثناء نصيحة سابقة من بريجنسكسي بتغيير الخميني بعد وصوله إلى طهران بأسابيع، تم رفضها من إدارة كارتر على الفور، فالمؤكد أن أميركا لم تكن بوارد أي انقلاب حينها، فعالم 1979 مختلف تماماً عن عالم 1953، إضافة إلى أن كارتر لم يكن أيزنهاور، ولم يشاركه خوفه المفرط من الشيوعية، على الأقل إلى ما قبل الغزو السوفييتي لأفغانستان في كانون الأول/ديسمبر عام 1979.
سيترسخ الموقف الأميركي، ومن خلفه الموقف الدولي، من النظام الإيراني بعد اقتحام السفارة. فإلى جانب المأساة الإنسانية التي عانى منها العشرات من الموظفين المحتجزين، كان للحادثة عواقب سياسية بالغة الخطورة، مما أضرَّ بصورة إيران عالمياً. أصبحت الحكومة الإيرانية تحت الضوء، وبأبشع صورة ممكن أن تُسلَّط على نظام غير جدير بالثقة، بسبب أنه همجي وبربريّ وغير عقلاني، بحسب التعابير التي انطلقت في تلك الفترة، مما زاد من عزلته عن العالم. الأمر الذي سهَّلَ على العديد من الفاعلين السياسيين في الغرب رفض النظام، بل ومهّد بيسر لدعم صدام حسين في حربه التالية ضد إيران.
كل ما تلا ذلك من صعود وهبوط في العلاقات الأميركية الإيرانية حتى اليوم، كان يرتكز على ما ترسخ في تلك الفترة. حواراتٌ تجري من تحت الطاولة وعبر وسطاء، تفضي إلى نتائج، سيتم تدميرها لاحقاً، كما حدث في الاتفاق النووي الذي وقّعه الرئيس الديموقراطي أوباما وحلفاؤه الأوروبيون مع طهران، ثم جاء الجمهوري ترامب لينسفه. خلال كل تلك السنوات، التي تخللها احتجاز رهائن أميركيين آخرين في طهران ولبنان، كانت هناك على الدوام، تواصلات لحل المسائل العالقة بين البلدين. مسائل ستبقى عالقة مستقبلاً، وإلى أمد لا يحدده سوى تغيير النظام الإيراني.
أما بالنسبة لنا في المنطقة، وبما يخص العلاقات العربية الإيرانية، حيث يذهب بنا الظن غالباً، بأنها علاقات مرسومة بدقّة من تحت الطاولة، فعلى الأرجح أننا أيضاً سنبقى عالقين في نفس النقطة، دون أن نأخذ بعين الاعتبار بأن احترام القوّة في عالم السياسة، أمر حاسمٌ ومفصليّ، إضافة لحقيقةٍ تاريخية أخرى، تبدو غائبة عنا كليّاً. في الذهن الغربي الجمعي عموماً، فإن عمق الحضارة والثقافة الفارسية يحظى بالكثير من التقدير والاحترام في مجتمعات النخبة، بينما هناك على الدوام ذاك التبخيس الغربي للحضارة العربية الإسلامية.
حين يستحكم العداء بين إيران ودول الخليج العربية، فإن التفسير الأسهل بالنسبة لنا، هو أن الأمر يتم بدفعٍ من أميركا، خصوصاً من أجل تسويق السلاح كمصلحة أميركية، وهذا مفهوم بالطبع. لكن الغريب أنه حين تقترب دول الخليج، بما لديها من ثروات، من إيران فإننا لا نتردد أيضاً بأن نعزو الأمر لغضِّ نظرٍ أميركي، بهدف تمكين إيران في المنطقة أكثر. هل هذا يعني أن السياسة الأميركية بريئة، ولا تتحرك تحت الطاولات مع الإيرانيين؟ بالطبع لا، ولكننا لا نجيد قراءتها، بصفتها سياسة ليست كلّية القدرة كما هو راسخ في أعماقنا، وليست ثابتة على الدوام. بل وحتى لا نجيد قراءة ركام التفاصيل المعروفة، التي حكمت علاقة أميركا وإيران تاريخياً. والأهم أننا لا نكف عن الاعتقاد بأن أميركا بإمكانها حتى "السير فوق الماء"، وأنها قادرة على إحداث التغيير في أي مكان من العالم الثالث بيسر وسهولة كلما شاءت ومتى شاءت. هذا لا يعني بالطبع أنها لا تحاول، لكنها لا تنجح بالضرورة، حين لا تجد من يمد لها يده.
اليوم، نراقب نحن السوريين موقف الرئيس الأميركي الديموقراطي الضعيف بايدن، من الوجود الإيراني المستشري في سوريا، وما تتعرض له القوات الأميركية من إذلال أحياناً في مناطق شرقي سوريا بسبب هذا الوجود، ونعتقد أنه موقف مدروس ومخطط له، بينما قد ينقلب هذا الموقف مع إدارة أميركية جديدة رأساً على عقب، وعلى الأغلب أننا سنراه حينها مدروساً ومخططاً أيضاً، دون أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ المأزقي للعلاقة الأميركية الإيرانية. ودون أن نلاحظ أن ما يجري هو في السياق الطبيعي للفشل السياسي المتبادل بين البلدين.
ليس هناك من شك، أن لَيّ عنق التطور الطبيعي للتاريخ اليوم، والأحلام الإمبراطورية الإيرانية سوف تتكسر لاحقاً، كما حدث مع تجارب مماثلة
الأمة الفارسية مثلنا، تعتز بتاريخها الحضاري والثقافي، لكنها مثلنا أيضاً، لم يتح لها أن تعثر على مفاتيح مستقبلها، ولا على الأدوات السياسية اللازمة لبناء أمة متطورة قابلة للاستمرار، فبقيت تنتمي لماضيها مع حكم ديني استبدادي، ينتمي لزمن مضى لن يعود، بينما يعتقد حكامها، كحال كل نظام ثيوقراطي، أنه قابل للديمومة.
ليس هناك من شك، أن لَيّ عنق التطور الطبيعي للتاريخ اليوم، والأحلام الإمبراطورية الإيرانية سوف تتكسر لاحقاً، كما حدث مع تجارب مماثلة، فالتاريخ لا يتسامح مع الغباء عموماً، أما مع الغباء السياسي بشكل خاص، فإنه يصفعه بشدّةٍ على وجهه، في لحظة سوف تأتي حتماً. إن نظام حكمٍ يحتاج لحراسة دائمة ومشددة بمواجهة مواطنيه، وهذا لا يخص إيران وحدها، هو نظام لا يمتلك آليات وعناصر الاستمرار والتطوّر الذاتي، ولا حتى إمكانيّات البقاء. هكذا نظام سيسقط عند أول تراخٍ في الحراسة، أو عندما تتلاقى مصالح الفاعلين الدوليين مع انتظام المواطنين، في قوة ليس بالإمكان دحرها.