على الرغمِ من حالة التوافق بين قوات النظام السوري و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، في عموم مناطق شرقي وشمال شرقي سوريا، إلا أن طبيعة العلاقة بين الطرفين في دير الزور مختلفة تماماً، فهي تشهد حالة من التصعيد المستمر، منذ أن أصبحت قوات الطرفين على خطِ تماسٍ واحد يفصل بينهما نهر الفرات، باستثناء القرى السبع التي تقع على الضفة التي تسيطر عليها "قسد".
ويرجع عدم وجود توافق بين الضفتين في دير الزور، لأسباب عدة من أبرزها: أن أكثر من نصف حمَلةِ السلاح المنضوين في صفوف "قسد"، والمدنيين، هم من العساكر المنشقين عن قوات النظام، أو من العناصر السابقين في الجيش السوري الحر، وخاضوا معارك ضد النظام.
ولعل التوترات العسكرية بين الضفتين أخذت أشكالًا عِدّة من أبرزها وأولها كانت في 7-8 شباط 2018، عندما كان الطرفان يسيران في خطٍ متوازٍ على ضفتيّ نهر الفرات، وهما يقضمان مناطق سيطرة تنظيم الدولة (داعش).
وبقي الأمر كذلك إلى حين محاولة القوات الروسية العبور إلى الضفة اليسرى من نهر الفرات، عبر ميليشيا "فاغنر"، وذلك بهدف السيطرة على حقل "كونيكو" للغاز، فكان الرد واضحاً حينذاك من التحالف الدولي (على رأسه الولايات المتحدة)، مع اصطدام قوات النظام وروسيا مع مقاتلين من "مجلس دير الزور العسكري" التابع لـ"قسد" في منطقة "الطابية جزيرة/ خشام" المحاذية لحقل "كونيكو".
ومنذ ذلك الحين عزفت روسيا عن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية على أرض دير الزور، فلم تحدث أيّة مواجهات مباشرة، منذ تلك الحادثة، باستثناء ما حدث في 21-22 تشرين الأول 2021، حين أرادت روسيا تمرير رتل عسكري روسي من ريف دير الزور الغربي الذي تسيطر عليه "قسد" بموافقة التحالف الدولي، لكنّه واجه رفضاً شعبياً.
أمّا الشكل الثاني للمواجهة فعندما بدأت طائرات حربية أميركية وإسرائيلية باستهداف قادة الميليشيات الإيرانية ومواقعهم وخطوط إمدادهم ومواردهم، لضمان عدم وصولها إلى جبهة الجنوب السوري مع إسرائيل.
وكانت إيران ترد على تلك الاستهدافات، عن طريق ميليشياتها الموجودة على أرض دير الزور، عبر استهداف القواعد الأميركية الأهم (حقل العمر النفطي، حقل كونيكو للغاز)، وفي بعض الأحيان تستهدف القواعد الأميركية في أرياف الحسكة كـ"خراب الجير، الشدادي، رميلان، تل بيدر، قسرك..."، أو قاعدة التنف عند المثلث الحدودي (سوريا، العراق، الأردن) شرقي حمص، وكل تلك الاستهدافات على مدى السنوات الفائتة، خلّفت ما لا يتجاوز 10 عناصر من القوات العسكرية الأمريكية، بين قتيلٍ وجريح.
والشكل الثالث كان عندما حاولت "قسد" القضاء على قيادة "مجلس دير الزور العسكري" التابع لها، والذي يضم أكثر من 15 ألف عنصر من أبناء دير الزور، على رأسهم قائد المجلس (أحمد الخبيل/ أبو خولة)، في حادثة اعتقاله المشهورة، عندما استدرجتهم إلى "محطة الوزير" (مركز إقامة قائد "قسد" مظلوم عبدي) في الحسكة، وحاصرتهم واعتقلتهم جميعاً، في 27 آب 2023.
وهذا ما دفع عناصر "مجلس دير الزور" آنذاك، لطرد كل حواجز "قسد" والأمن الداخلي (الأسايش)، ثم السيطرة بشكل شبه كامل على ريف دير الزور، حيث تعاضد مع عناصر المجلس نسبة كبيرة من المدنيين المناهضين لـ"قسد" وسياستها، والذين كانوا ينتظرون تلك اللحظة.
لكن سرعان ما انسحب معظم عناصر المجلس، تاركين المدنيين يواجهون "قسد" بمفردهم وبأسلحةٍ خفيفة، تجمعوا تحت قيادة شيخ قبيلة العقيدات (إبراهيم خليل الهفل)، مع تلويح المتربصين -قوات النظام وإيران- بورقة تقديم الدعم العسكري واللوجستي لـ"مقاتلي العشائر"، وإرسال مجموعات عسكرية تتبع لميليشيات عشائرية تعمل جنباً إلى جنب مع النظام.
وتزامن ذلك مع عودة "قسد" بأرتال ضخمة جلبتها من مختلف مناطق سيطرتها إلى ريف دير الزور المشتعل، وبدأت عمليات استعادة السيطرة، وحُوصر "مقاتلو العشائر" في بلدة ذيبان، مسقط رأس شيخ العقيدات (إبراهيم الهفل)، وتُرك ممرّ واحد أمامهم، وهو نهر الفرات، الذي يفصلهم عن اللقاء مع قوات النظام وميليشيات إيران، وهذا ما حدث.
وفي المنعطف الرابع، احتضنت قوات النظام وميليشيات إيران، مقاتلي العشائر الناقمين على "قسد"، وموّلتهم ومدّتهم بالسلاح والذخائر، وأعادت هيكلة بعض مجموعاتهم، كما أقامت المعسكرات لهم، استعداداً لمعارك العودة، بدعمٍ إيرانيٍ صريح، عبر إغارات هنا وهناك، تنتهي بسقوط عناصر من الطرفين بين قتيل وجريح، فضلاً عن المدنيين، الذين كانوا الخاسر الأكبر خلال عامٍ من المواجهات.
لم يكن الشارع الديري راضياً عن المنعطف الأخير، والذي انشقّ إلى داعم لمقاتلي العشائر ومناهض لهم، وذلك بسبب مموّلهم، ورجحت كفّة المناهضين، بعد العملية الأخيرة، التي بدأت بارتكاب مجزرة في بلدة الدحلة شرقي دير الزور، راح ضحيتها 11 قتيلًا و5 جرحى، جلهم من الأطفال والنساء، إثر سقوط قذائف هاون وصواريخ مصدرها مواقع قوات النظام في بلدة البوليل، التي لم تسلم بدورها من قذائف "قسد"، حيث قُتلت سيدة وطفلة، وأصيب 17 آخرون.
كذلك استهدف مقاتلو العشائر عدداً من عناصر "قسد" في مواقع عدّة بريف دير الزور الشرقي، تزامناً مع قنص مدنيين برصاص قناصة "قسد"، ما تسبّب بنزوح مئات العائلات الواقعة منازلهم على شواطئ نهر الفرات في الضفتين.
"لأوّل مرة تهاجم قسد مناطق النظام بجنود مشاة"
في ليلةٍ كانت هي الأسخن منذ أشهر، سقطت على أرض ريف دير الزور أكثر من 60 قذيفة متبادلة بين قوات النظام و"قسد"، أدّت إلى مقتل سيدة وإصابة عشرة مدنيين آخرين، فضلاً عن نفوق مواشٍ ودمار في المنازل وخروج عدد من محطات المياه في عدد من البلدات عن الخدمة، مع نزوح أهالي المنازل الواقعة على الشريط النهري إلى البوادي.
وكانت وحدات خاصة من "قسد" هاجمت، فجر أمس الإثنين، مواقع لقوات النظام والميليشيات الرديفة في عددٍ من المواقع، متسللين بعبّارات نهرية مرفقة بتغطية جوية من طائرات مسيّرة، حيث انطلقت من بلدتي أبو حمام والكشكية إلى بلدتي صبيخان والكشمة، ومن بلدات الصبحة والدحلة وجديد بقارة إلى بلدتي البوليل والطوب، ومن الصعوة إلى الشميطية.
وسقط خلال تلك الهجمات المتزامنة أكثر من 25 عنصراً من قوات النظام وميليشياته، بين قتيلٍ وجريح، بينهم: القتيل مزهر عمار محمود (19 عاماً) والمصاب زكريا تميم الغدير (17 عاماً)، وهما من المنضوين في "ميليشيا القاطرجي"، وينحدران من مدينة موحسن.
وفي إعلان "قسد" عن العملية قالت: إنّ مجموعات من "مجلس دير الزور العسكري" هم مَن نفّذوا العملية، وقتلوا 18 عنصراً من قوات النظام وميليشياته، لكن مصادر عدّة مختصة أكّدت أن جنود "قسد"، الذين تسلّلوا وانغمسوا في صفوف قوات النظام، بعملية خطرة، هم من "جهاز مكافحة الإرهاب" (YAT)، وأنّهم مدرّبون على مثل هذه العمليات، دون أي مشاركة من المجلس العسكري.
وعلّلت المصادر إلصاق "قسد" العملية بـ"مجلس دير الزور العسكري"، للتأكيد على أن المعارك ليست بين عرب وكرد، وأن مَن يقاتل النظام ومقاتلي العشائر، هم أبناء المنطقة أنفسهم، ولتزيد التوتر بين المجلس العسكري ومقاتلي العشائر (أصدقاء الأمس، أعداء اليوم).
ومن الممكن ألّا تهدأ أحداث ريف دير الزور، إلا في لقاءات القامشلي، التي جمعت لمرتين خلال الأسبوع الفائت، جنرالات روس وضباطاً من النظام السوري مع قيادة "قسد"، حيث نوقش في اللقاءين ضرورة أن تفكّ "قسد" حصارها عن المربعات الأمنيّة في مدينتيّ الحسكة والقامشلي، في حين تصرّ "قسد" على وقف الهجمات التي تنطلق من مناطق سيطرة النظام في دير الزور، وإقصاء "إبراهيم الهفل" عن المشهد، إلّا أنّ اللقاءين فشلا في الوصول إلى حلٍّ يُرضي الطرفين.