استغلت الفصائل العسكرية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا اتفاق التهدئة "التركي - الروسي" عام 2020 لإعادة ترميم قواتها وتعويض الخسائر التي تعرضت لها خلال معارك استمرت لنحو عام مع روسيا وقوات النظام السوري، وبعد مرور أكثر من عامين على اتفاق وقف إطلاق النار، ما زالت الفصائل تركز بشكل رئيسي على المعسكرات والتدرب على أساليب القتال الحديث، والتأقلم مع المتغيرات التي طرأت على خطط القوات الروسية في الهجوم وخرق الخطوط الدفاعية بطرق غير مألوفة خلال المعارك السابقة.
تعمل غالب الفصائل في محافظة إدلب نظرياً ضمن "المجلس العسكري"، الذي تشكل بالتوافق بين هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، كخطوة يراها القائمون على المشروع أنها تطوير لغرفة عمليات "الفتح المبين".
في إطار الترتيبات التي وضعها المجلس العسكري، تم تقسيم المحاور القتالية وخطوط التماس بين الفصائل حسب إمكانيات وقدرة كل فصيل، ويكون الفصيل مسؤولاً عن تدشيم وتحصين قطاعه العسكري، وضمان التواصل السليم مع القطاعات المجاورة، بما يسهل العمل عند أي طارئ.
تعرضت الفصائل لخسائر بشرية وعسكرية كبيرة في عام 2019 خلال المعارك المفتوحة على أكثر من محور مع القوات الروسية، إذ فقدت ما يزيد عن 70 في المئة من قوات النخبة ما بين قتلى وجرحى، بحسب تقديرات قادة عسكريين، وكاد سيناريو المعركة أن يكون كارثياً على الفصائل، لولا تدخل الجانب التركي واتفاقه على تهدئة مع الروس.
تلك التهدئة أعطت فرصة للفصائل لإعادة ترتيب أوراقها، ورغم سوء التنسيق فيما بينها وغياب الرؤية الموحدة لما هو قادم، تؤكد مصادر عسكرية لموقع تلفزيون سوريا أن عدة فصائل وحدت بوصلتها من خلال التركيز على بناء "قوة ضاربة"، تشمل الوحدات الخاصة والسرايا المختصة بنوع معين من السلاح، كالصواريخ المضادة للدروع، أو سلاح المدفعية والقنص، من باب الاستعداد لأي استحقاق عسكري قادم يمكن أن تفرضه الخلافات الدولية.
القوات الخاصة.. "العمود الفقري" للفصائل
تركيز الفصائل في الغالب ينصبّ على بناء قوات خاصة لما لها من تأثير في أرض المعركة، ودور في قلب المعادلة، وكان ملاحظاً في العمليات العسكرية التي سبقت وقف إطلاق النار، أن تلك القوات تفوقت على نظيرتها الروسية في أكثر من موضع، مع الأخذ في عين الاعتبار تفوق الروس على الفصائل من ناحية طيران الاستطلاع والطيران الحربي، والمعدات الحديثة، مثل المناظير الليلية التي تكون برفقة كل عنصر روسي.
مصادر عسكرية متطابقة أكدت لموقع تلفزيون سوريا، أن "هيئة تحرير الشام" والجبهة الوطنية للتحرير، إضافة لفصائل في الجيش الوطني السوري موجودة في إدلب، تعمل على تدعيم صفوفها بالقوات الخاصة، والتركيز على وحدات عسكرية تختص بالصنوف، وتكون مستقلة عن قوات المشاة.
وباتت فصائل في الجبهة الوطنية تقيم معسكراتها بشكل مشترك، ضمن نقاط معينة في ريف حلب الشمالي، ومنها ما يكون خاصاً بسلاح الرشاش، ومنها المدفعية، أو القاذف (RBG) والقنص، لكن الاعتماد الأكبر على قوات المشاة التي تتلقى تدريبات على المناورة في أرض المعركة وعمليات الاقتحام الميدانية، وتنفيذ الإغارات باستخدام العربات المدرعة.
وقال مدرب ميداني في معسكرات التدريب لموقع تلفزيون سوريا إنهم عملوا في الفترة الماضية على وضع معايير خاصة يجب أن تتوافر في المقاتل حتى يتمكن من اجتياز الاختبار، ويكون جاهزاً لمختلف المعارك الهجومية والدفاعية.
وأضاف المدرب الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "تخريج المقاتل من المعسكر يتوقف على تقييم المدربين له، فلو كان المقاتل مختصاً بسلاح الرشاش، يجب أن يتمتع بقوة بدنية، والقدرة على التحكم بالسلاح والسيطرة عليه في أرض المعركة، وأن يكون قد خاض في السلاح نفسه معركة أو اثنتين على الأقل، لنضمن أنه قادر فعلاً على التخصص به".
وأشار إلى أن المقاتل عانى من أخطاء فادحة في المعارك الأخيرة، مثل الانتشار العشوائي وعدم القدرة على التخفي، وسوء التقدير في التقدم والانسحاب، وهي بالتالي أخطاء لا يلام المقاتل فقط عليها، كذلك غرفة العمليات والميدانيون، مضيفاً أنه تم تسجيل كل هذه الملاحظات، كما أن هناك زيارات دورية للمدربين إلى خطوط التماس لتدوين الملاحظات والأخطاء التي يمكن أن تُحدث خللاً عسكرياً في المستقبل.
وتتنوع المعسكرات ومدتها حسب كل اختصاص، حيث تبلغ مدة معسكر القوات الخاصة 30 يوماً، والقاذف 15 يوماً، والرشاش 12 يوماً، أما دورة الانتساب فتبلغ 35 يوماً.
لماذا تركز الفصائل على القوات الخاصة؟
يعتقد القائد العسكري والناطق باسم فصيل "جيش العزة" العامل في إدلب، العقيد مصطفى بكور، أن الفصائل أصبحت تركز على القوات الخاصة في معسكراتها، لأنها أثبتت فاعلية في الهجوم والدفاع من خلال ما تتمتع به من إمكانيات قتالية متميزة.
وأوضح "بكور" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن المعسكرات بشكل عام تضم كل الصنوف المستخدمة في الفصائل، والتي تحتاجها المعركة مثل المشاة والدبابات والمدفعية والـ م/د والهندسة العسكرية والمضادات والقناصات والاتصالات والقوات الخاصة، ويتم اختيار العناصر وفق شروط محددة أهمها "الإيمان بمبادئ وأهداف الثورة والمستوى العلمي واللياقة البدنية والأخلاق والسيرة الحسنة".
وحتى ينجح المقاتل في الدورة يجب أن يُتّم الدروس والتدريبات المقررة ويخضع للاختبارات المحددة وينجح بها نظرياً وعملياً، ويضيف "بكور" أن الدورات الاختصاصية موجودة منذ زمن، وقد اعتمدت الفصائل في السنوات الأخيرة على تخريج القوات الخاصة بسبب تعقد ظروف المعارك خاصة بعد التدخل الروسي في سوريا.
ويرى العقيد أن القوات الخاصة تعتبر "القوة الضاربة الأساسية في الاقتحامات والعمليات الخاصة والمهام الصعبة بسبب قدرتها على المناورة، والتدريبات التي خضع لها عناصرها".
دور القوات الخاصة ومهامها
ذكر المسؤول في الجناح العسكري التابع لـ"هيئة تحرير الشام"، أبو مصعب السوري، أن الفصائل تركز على القوات الخاصة لعدة أسباب، ومنها أن تلك القوات تقوم بمهام متعددة بالمعركة في آن واحد بخلاف القوات العادية، وتستطيع الصمود وتحمل الضغط في أرض المعركة أكثر من غيرها، والقتال في الهجوم والدفاع وبمختلف البيئات، كما تمتلك سرعة وقدرة على المناورة مقارنة بنظيرتها من القوات الأخرى، وتنفيذ ما يطلب منها من مهام قتالية بكفاءة أكبر من غيرها، إضافة إلى أن القوات الخاصة تعتبر من الأدوات الفعالة بيد أي قائد عسكري.
وأوضح "السوري" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن للقوات الخاصة عدة مهام، تتمثل في الجاهزية القتالية الدائمة، والتدخل السريع على خطوط الجبهات، وسد الثغرات التي تنتج عن تقدم قوات العدو، وتنفيذ العمليات الهجومية، والإغارات والكمائن، واستنزاف العدو من خلال تنفيذ عمليات بشكل مستمر.
تقسيم المحاور العسكرية في إدلب
علم موقع تلفزيون سوريا من مصادر عسكرية خاصة، أن المحاور العسكرية بإدلب تم تقسيمها على الفصائل بعد أن توقفت الهجمات الروسية وسرى وقف إطلاق النار، ويتكفل الفصيل بتحصين المحور المكلف به كاملاً، ويكون مسؤولاً عن أي خرق يحصل من طرفه".
وتابعت المصادر: "هناك فصائل يقع على عاتقها القسم الأكبر من المحاور، مثل هيئة تحرير الشام وفيلق الشام وأحرار الشام، لكن بالمجمل يجب على الفصيل حفر أنفاق وخنادق في محوره، وتأمين وسائل التخفي من طائرات الاستطلاع التي باتت ترصد كل شيء وترسل الإحداثيات لسلاح المدفعية لدى العدو".
وانتقدت المصادر وجود تقصير وخلل من جانب بعض الفصائل، وقالت: "هناك فصائل لا تريد أن تقتنع بأن طبيعة المعركة تغيرت، فترى نقاط رباطها غير محصنة ولا تحتوي على أنفاق تحمي المقاتلين، نحن نقدم النصح لهم، لكن لا بد من آليات صارمة لإجبار الجميع على العمل، لأن خرق محور واحد غير محصّن سينعكس سلباً على منطقة إدلب بشكل عام، وحينذاك لن تنفع التحصينات المتينة إذا التف عليها العدو من نقطة ضعيفة، وقد حصل ذلك كثيراً في معارك 2019، لذا يجب التدارك والتعلم من أخطاء الماضي".
وحول هذه الجزئية، يؤكد العقيد "بكور" أن المحاور مقسمة على الفصائل منذ بداية توزيع الرباط عام 2020، وعادة يتم تقسيم المحاور بين الفصائل حسب إمكانية كل فصيل، وأيضاً لتحديد المسؤولية في حال حصل أي خرق.
بدوره ذكر المتحدث باسم الجبهة الوطنية للتحرير، النقيب ناجي مصطفى، أن غرف العمليات وقيادة العمليات العسكرية تضع تقسيمات للمحاور وتحدد القطاعات لسهولة قيادة القوات في كل منطقة والتنسيق معها، مضيفاً في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الفصائل أجرت تقييماً للمعارك الأخيرة وضبطت الأخطاء، ووضعت خططاً لتلافيها.
من جهته لفت القيادي في هيئة تحرير الشام "أبو مصعب" إلى أن تقسيم المحاور والجبهات على الفصائل يهدف لإشراك الجميع بواجب الدفاع عن "المناطق المحررة"، والاستفادة من خبرات وإمكانيات الفصائل في الأعمال العسكرية.
ويؤدي هذا التقسيم للاقتصاد بالقوة لجميع الفصائل مما يتيح لقوات كل الفصائل القيام بدورات وتطوير مستمر، فضلاً عن فوائد الإجراء في إدارة أفضل لكل محور، وتقسيم الأعمال والمهام بما يناسب إمكانيات كل فصيل، وسهولة القيادة والسيطرة، والتوزيع الصحيح للمقدرات، بحسب القيادي.
الواقع العسكري في إدلب منذ بدء عام 2022
تراجعت وتيرة التصعيد الروسي على محافظة إدلب مع مطلع العام الجاري، لاعتبارات ربما تتعلق في انشغال موسكو بالعمليات العسكرية ضد أوكرانيا، بينما يلحظ أن الفصائل كذلك تتجنب التصعيد، وتعتمد على سلاح القنص والهاون في الرد على الخروقات، بما يضمن عدم التصعيد وإبقاء حال الجبهات ضمن واقعها المعتاد.
وخلال الأسابيع الماضية أجرت مجموعات الإنزال الجوي في ميليشيا "الفرقة 25/ مهام خاصة" التي يقودها العميد "سهيل الحسن" الملقّب بـ"النمر"، تدريبات حيّة على عمليات الإنزال خلف "خطوط العدو" بريف إدلب، دون رصد مؤشرات تنذر بعمليات عسكرية قريبة في المنطقة.
بدوره عزز الجيش التركي قواعده في جبل الزاوية جنوبي إدلب، وأجرى تغييراً في تموضع بعضها، إذ يعمل على إفراغ عدد من القواعد الفرعية في عمق جبل الزاوية، ودمجها مع القواعد الكبرى الرئيسية القريبة من خط التماس مع نظام الأسد.
ويأتي تغيير تموضع القوات التركية في إطار تعزيز بعض النقاط في المنطقة، بحسب العقيد "بكور"، الذي شدد في الوقت نفسه، على أن غرف العمليات لم ترصد تحركات للنظام توحي بعمليات برية قريبة.
ولفت إلى أن الفصائل أعلنت في أكثر من مناسبة جاهزيتها للتصدي لأي عمل عسكري للعدو، وهذا يدل على أنها عززت قوتها من خلال المعسكرات التدريبية التي تنفذها، حيث زادت أعداد عناصرها وعوضت الخسائر التي تعرضت لها في المعارك الأخيرة.
وأعلنت "هيئة تحرير الشام" في وقت سابق عن قتل 15 عنصراً من قوات النظام السوري، وجرح 30 آخرين، خلال شهر آذار/مارس الماضي، من جراء عمليات الاستهداف لمواقع وعناصر النظام بأسلحة مختلفة، كالقناصات والقذائف والصواريخ والرشاشات الثقيلة.
وخلال الربع الأول من العام الجاري، استجابت فرق الدفاع المدني السوري لـ 130 هجوماً جوياً ومدفعياً من جانب روسيا والنظام، تركزت على منازل المدنيين والمباني العامة والمنشآت الحيوية والخدمية في شمال غربي سوريا.
ووثقت فرق الدفاع المدني 80 هجوماً صاروخياً ومدفعياً شنته قوات النظام وروسيا على مناطق متفرقة في أرياف إدلب وريف حلب الغربي، كما استجابت لـ 29 هجوماً جوياً من الطائرات الروسية على منشآت خدمية ومراكز حيوية في ريفي إدلب وحلب، ووثقت 16 هجوماً مدفعياً وبالصواريخ من المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وأدت تلك الهجمات لمقتل 47 شخصاً بينهم نساء وأطفال.
وما تزال تركيا وروسيا غير قادرتين على تحويل التفاهم حول إدلب إلى اتفاق مُستدام بسبب استمرار الخلافات الثنائية حول العديد من القضايا، كالانتشار العسكري ومكافحة الإرهاب وحركة التجارة والنقل، ومع ذلك يرجح مركز "جسور" للدراسات أن فرص استمرار وقف إطلاق النار في إدلب ما تزال قائمة ومستمرة، لا سيما مع انشغال روسيا في الصراع مع أوكرانيا وحلف الناتو، كما أن تركيا لا يبدو أنها ستلجأ خلال هذه الفترة إلى شنّ عمليات عسكرية برية جديدة شرق الفرات تؤدي إلى الإخلال بالتهدئة في غربه.