انتهت دولة الغنيمة، كان اسمها دولة الأمن والاستقرار، وليس الأمن والطعام. والاستقرار شعبةٌ من الأمن، فهو شعار لا يخلو من لغو، وقد أفلتْ تلك الطوبى.
يحاول إعلام سيادة الرئيس المنتصر على بضع وثمانين دولة، الغادي إلى الجامعة العربية، الرائح إلى جامعتي الاتحاد الروسي والإمبراطورية الفارسية، جاهدًا، رفع الروح المعنوية للشعب المتجانس، التي سقطت تحت أنقاض الحرب، والفساد حرب صامتة، وقد اجتمع الفسادان، ولم يعد فيها ما يسرق أو هو قليل، وتحتاج إلى انتشال بالشبع والري والنور، وليس بصور الرئيس، وليس بالفنانين، ولا بالدعوات الإعلامية إلى التكافل، والتكافل وصف لا يليق بخطاب العلمانية، وأولى منه وصف التضامن، لكن هذا لا يهم الخطاب البعثي، فقد اختفت شعارات البعث كلها في ظروف غير غامضة.
يبحث إعلام الأسد في عرينه عن عظام، فلا تزال فيه عظمة وهي صور الرئيس السلفي، وزياراته الميدانية المستجدة، وهي زيارات خطب لا تطعم من جوع ولا تؤمن من خوف.
إن الإعلام كله شؤون معنوية. ترفع الشؤون المعنوية معنويات العساكر في الجيش، والرفاق في الحزب، كما يرفع السكر في الدم
الروح المعنوية وصف من أدبيات البعث للمناصرة والمصابرة، وزاد القلوب، وحلية النفوس، ولها مديريات في الجيش وفروع الحزب، بل إن الإعلام كله شؤون معنوية. ترفع الشؤون المعنوية معنويات العساكر في الجيش، والرفاق في الحزب، كما يرفع السكر في الدم، وتلك الدولة بالدعوة إلى اجتماعات تشبه العبادة الدينية، ويعاقب الغائبون عقوبات مسلكية، ويظنُّ أن معنى العقوبة المسلكية هو التبكيت الحزبي، والسيرة الذاتية للمرفوعة معنوياته بالضمة المقدرة على آخره قد تهبط في حال تغيبه عن الاجتماع، أما البعثي التقي، الذي يحضر خاشعًا مستمعًا لخطبة الضابط أو الرفيق المختار من القيادة، فيجازى على سماع الألفاظ الخشبية مثل الصمود والقرارات والجهات المختصة والقيادة الحكيمة والوطن المعطاء والإمبريالية الأميركية، التي سمعها مئات المرات، بحسن الولاء.
لن يفيد استعراض إعلام النظام صور بارجة بحرية اسمها الأسد، وصور ضباط من البحرية ببزة بيضاء ناصعة، جالسين في الاستوديو صفًا مثل أبطال أفلام الصيف المصرية، أو ضابطة سورية تتدلى منها أشرطة الزينة وأوسمة العسكر. أما بقع الضوء التلفزيونية الشجاعة، فقد استبدلت ببقع ضوء حية من الواقع هذه المرة، لأبطال شجعان مثل لمى عباس التي تطالب رئيس الدورية الأمنية بمذكرة قضائية، أو بشار برهوم الذي ينتقد نصف القيادة علنًا عبر وسائل التواصل، باستثناء الجيش وسيادة الرئيس، ووسيم الأسد الذي يدعو الناس إلى تدبير الحال والعمل كما يفعل هو ويعيش في رغد ورخاء.
هناك عظمة الأسد الرئيس، وهي صورته وخطبته، أن يزور الرئيس معملًا للكهرباء، أو تزور السيدة الأولى، مشغلًا للخياطة، فالرئيس منتخب مع زوجته، وكلاهما يتقاسمان الحكم؛ الرئيس للممانعة وزوجته للمناعمة، فيتفضلان على العمال والفلاحين بصور تذكارية، وقد أجبرت الثورة الفيسبوكية التي قادها أحفاد صالح العلي، بشار برهوم ولمى عباس ووسيم الأسد الرئيس على أن ينزل من برجه العاجي، ويزور إحدى شركات الكهرباء. وأن تزور زوجته ست الكل معملًا للخياطة. بل وأن يرفع الرواتب مئة بالمئة، وهي زيادة لم تحصل في دولة على كوكب الأرض.
كانت المعنويات ترتفع بحرارة زيارة وزير الخارجية الروسية، أو زيارة رئيس جمهورية أبخازيا للرئيس الأسد فبحثا (العناصر المشتركة التي تجمعهما من حيث تمسكهما بقرارهما المستقل، ومقاومتهما للهيمنة الاستعمارية رغم تعرضهما للحصار والحروب، والإرهاب العسكري والاقتصادي والسياسي، ومن حيث التنوع في النسيج الاجتماعي، والروابط المشتركة بين الشعبين الصديقين)، لكن سرعة ارتفاع الأسعار أشد من احتراق هشيم المعنويات، ويظنُّ إعلام النظام أنه قادر على رفعها بالديمقراطية التلفزيونية، وإجراء نقاشات بين أعضاء المجالس المحلية ورؤساء البلديات، وبين بعض الحاضرين البواسل، ويبدو أن النظام قد كف عن بث أغنية أنا سوري آه يا نيالي التي كانت ترفع المعنويات إلى قمة إفرست. فلن يجترئ على بثها.
هناك دولة عربية تمنح الإقامة الذهبية للموهوبين والمشاهير هي الإمارات، أما المنحة الذهبية التي يطمح إليها كل سوري، فهي جواز السفر الذهبي، وهو ثمين، مكلف، وإن كان ضعيفًا
يزداد ذكر اسم الوطن والمؤامرة، بدلًا من اسم الرئيس، لكن الشعب المتجانس جائع، وهو الوثن الذي غدا أنقاضا، وكان بعض أوثان الجاهلية من تمر، ويؤكل. هناك دولة عربية تمنح الإقامة الذهبية للموهوبين والمشاهير هي الإمارات، أما المنحة الذهبية التي يطمح إليها كل سوري، فهي جواز السفر الذهبي، وهو ثمين، مكلف، وإن كان ضعيفًا، مهما كان فهو رخصة محتملة للانعتاق من جرعات رفع المعنويات.
انتهت طوبى الأمن والاستقرار، وهناك عظمة وحيدة وهي حسكة تخويف الشعب بالتفجيرات حتى يحنَّ إلى أمه الدولة. حتى المسلسلات الجريئة لا يمكن متابعتها، فليس في البلاد كهرباء يستمتع الشعب بواسطتها، برؤية الديمقراطية الشعبية، ونظريات الفلاسفة الثلاثة؛ نظرية بشار وبرهوم في النصف الذين حول الرئيس، ونظرية لمى عباس القانونية في المذكّرة القضائية وإشارة المرور، ونظرية وسيم الأسد في التدبير المعيشي وفلاحة الأرض. بعد إشراف نظرية المربعات للفيلسوف خالد العبود على الذبول.
قلّت الغنائم في دولة الغنيمة بنزوح نصف الشعب المنتج، وقلة الإقبال على تصوير الأفلام بين الأنقاض، وفقدان أغنى المحافظات السورية، لكن دولة القبيلة والعقيدة، وهما دولة واحدة في سوريا، ما زالت بعد.