نعت شخصيّاتٌ سوريّة كثيرة الشهر الماضي مكتبة نوبل التي أعلن صاحباها جميل وإدمون نزر في العاصمة دمشق إغلاقها، وامتدّ نعيهم ذاك ليشمل مكتباتٍ أخرى سبقت تلك المكتبة في الإغلاق، وتحوّلت إلى محلّات تجارية أو محلّات صرافة في أفضل الأحوال، كما أطلق سوريون كثر مناشدات وصرخات لحفظ ما تبقّى من ماء وجه الثقافة في العاصمة دمشق.
ربّما لم تُثر تلك النعوات حزنًا كبيرًا في نفوس شريحةٍ واسعةٍ من السوريين ممّن يشغلهم اليوم الحدّ الأدنى من متطلّبات البقاء على قيد الحياة في بلدٍ تجاوزت الحرب فيها عامها العاشر، الأمر ذاته ينطبق على أولئك الذين لم يمتلكوا يومًا ترف اقتناء الكتب من تلك المكتبة وأشباهها في أيام السّلم والرخاء، وإنّما رصفوا رفوف مكتباتهم الشخصية المتواضعة بكتب اقتناها معظمهم من بسطات الأرصفة المنتشرة في ساحاتِ المدن العامّة وشوارعها، تلك البسطات التي كانت تستقطب شريحةً واسعةً من السوريين؛ خصوصًا الطلّاب الجامعيين الذين يجدون فيها ضالّتهم والتي تتناسب مع مصروفهم.
لطالما أثار مشهد الكتب المصطفّة خلف زجاج مكتبات شارع بارون في حلب شهيّتي، وأغراني بارتيادها طمعًا باقتناء بعضٍ منها، لكنّ مصروفي المتواضع كطالبة جامعيّة لم يكن يسمح لي بالإقدام على خطوةٍ كهذه، وحين تشجّعت وقرّرت أن أغامر بجزء من مصروفي لأحصل على رواية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد) التي أصبح اقتناؤها صرعةً في تلك الأيام، كان عليّ أن أعدّ خطّة تقشفيّة تسهم في إنقاذ مصروفي لذلك الشهر؛ إلّا أن فرحي بها لم يدم طويلاً، فقد حدث أن قامت إحدى زميلاتي في السكن الجامعيّ باستعارتها، ثمّ قامت بإعارتها لحبيبها، وشاءت الأقدار أن تختلف وإيّاه في تلك الفترة تحديدًا؛ ليذهب هو وروايتي مع الرّيح، وبسبب إشفاقي عليها لم أستطع أن أطالبها بإعادة روايتي، ولم أفكّر حتّى في لومها لأنّها لم تحافظ عليها في الوقت الذي عجزت فيه عن المحافظة على حبيبها.
إن حالفني الحظّ أجد روايةً لنجيب محفوظ فُقد غلافها وبعض من صفحاتها، إضافةً إلى عددٍ من الدواوين الشعرية القديمة التي لم تكن من ضمن اهتماماتي في تلك الأيّام
لم أستطع تكرار مغامرتي مجدّدًا، لكنّني حاولت إيجاد طريقة أخرى أشبع بها نهمي للقراءة، فكانت بسطات الكتب المنتشرة في ساحة سعد الله الجابري هي الحلّ الأمثل، ثابرت على اقتناء أعداد من مجلة العربي الكويتية وعالم الفكر ومجلّة المعرفة السوريّة، وبعض من الروايات لكتّاب مغمورين، وإن حالفني الحظّ أجد روايةً لنجيب محفوظ فُقد غلافها وبعض من صفحاتها، إضافةً إلى عددٍ من الدواوين الشعرية القديمة التي لم تكن من ضمن اهتماماتي في تلك الأيّام.
حين انتهت مرحلة الدراسة الجامعيّة كان المركز الثقافي الناشئ حديثًا في بلدتنا هو البديل، لكنّني واجهت مشكلةً في إيجاد موظّف يسعفني بوثيقة معيّنة (كفالة) في حال فقدت الكتاب أو ألحقتُ ضررًا به، في عائلتنا لم يوجد ذاك الموظّف؛ إذ قاطعت العائلة الوظائف الحكوميّة التي لم تكن في تلك الأيّام تسدّ رمق صاحبها، مؤثرين عليها العمل في الزراعة والتجارة.
كانت المسؤولة عن إعارة الكتب تتذمّر في كلّ مرّة آتيها؛ تنزع نفسها بصعوبة من خلف شاشة الحاسوب وتترك لعبة "السوليتير" التي كانت ظاهرة شائعة جدًا بين موظفي الدوائر الحكومية نتيجة التحديث والتطوير وقتها، لتأتيني بالعناوين التي طلبتها، وحين أعود إليها مجدّدا بعد أيّامٍ قليلة لأعيد الكتابين وآخذ بدلًا منهما كتبًا أخرى جديدة، تنظر إلى الكتب السّميكة بين يديّ ثم ترمقني بنظرة مشككّة إذ كيف أنهيت قراءتها بهذه السرعة!
فيما بعد أصبحنا نتبادل بعض الأحاديث، وتوطّدت العلاقة بيننا إلى حدٍّ معيّن، لتقول لي في إحدى المرّات:
ـ "لا أعرف ما الفائدة التي تجنينها من قراءة الروايات والمسرحيّات، في النهاية سوف تتزوجين وتقضين نهارك كله بين المطبخ والأولاد... نهاية كل أنثى الزواج"!
تلقيت نصيحتها الذهبيّة تلك بصدر رحب، فقد اعتدت على ذلك النوع من النصائح في اجتماعات نساء العائلة، الصديقات، وحتّى المعلمات في المدرسة، كلّهن يسدينني النصيحة منطلقاتٍ من حرصهنّ على مصلحتي وخوفهنّ من أن يفوتني القطار.
أخبرتني صديقةٌ مقرّبة منّي تشاركني الشغف نفسه حين شكوتُ لها ضيقي من تلك النصائح التي يجود الآخرون بها عليّ؛ أنّها لم تنجُ من تلك الملاحظات حتّى عندما كانت تستعدّ للانتقال إلى بيت الزوجيّة؛ عندما رأى أحد إخوتها صناديق الكتب التي جهّزتها لتنقلها إلى بيتها الجديد؛ إذ أخبرها أنّها لن تستطيع القراءة كما كانت تفعل من قبل، لأنّ حياتها الجديدة لن تكون كالقديمة.
كانت ملاحظة أخيها صحيحة إلى حدّ ما، بالنسبة لي لم أستطع العودة إلى القراءة إلّا بعد سنواتٍ عديدةٍ من الزواج؛ كبر الأولاد فيها وبدؤوا يعتمدون على أنفسهم، وهنا اندلعت الحرب! وأصبحت مكتباتنا الصغيرة وبيوتنا وأرواحنا في مهبّ الخطر، نخرج من البلدة مع كل معركة وكل قصفٍ حاملين حقائب صغيرة وبعضًا من المؤونة التي نأمل أن تكفينا وألا تطول فترة نزوحنا، وأن نعود إلى بيوتنا ونجدها كما تركناها، استطاعت مكتبتي الصمود خلال معركتين، لكنّها لم تنجُ في المرّة الثالثة.
عندما كانت المعارك تنتهي في بلداتنا يختلط الحابل بالنابل، يدخل الجيش لتمشيط البلدة من مخلّفات الإرهاب كما ـ يزعمون ـ تمتدّ حملات التمشيط وتتّسع متحوّلةً إلى التعفيش الذي يطول بيوت المدنيين، وقد يستعينون في حملاتهم تلك بسيارات المدنيين في تلك المنطقة، ثمّ يحاول بعض المدنيين إنقاذ ما يمكنهم إنقاذه من بيوتهم؛ اتفقنا مع صاحب إحدى السيارات أن يحضر لنا بعض الأشياء المهمّة والضرورية من بيتنا، ثمّ حاولت منفردةً إقناع السائق أن يعود مرّة أخرى ويحضر لي كتبي لقاء مبلغ ماليّ لا بأس به، بقي يسوّف طويلًا، علمت فيما بعد أنّه تطوّر وارتقى من مرحلة نقل الأثاث لأصحابه الأصليين النازحين في بلداتٍ مجاورة، أو لأفراد من الجيش، إلى التعفيش لحسابه فذلك العمل أكثر ربحًا وجدوى بالنسبة إليه.
للكتب أرواحٌ، تاريخ مخبوءٌ بين دفّاتها، لمكتباتنا حكايات صغيرة، تلك الحكايات هي نحن؛ أعمارنا، أرواحنا، شغفنا الذي جمّلنا به حياةً لنا كانت تدور في جزءٍ كبيرٍ منها في فلك العاديّ وروتين متطلّبات الحياة
لم تكن محاولة إنقاذي لمكتبتي تندرج في خانة الترف وفذلكة المثقّفين، كما وصفها بعضٌ ممّن تناهت إلى مسامعه محاولة الإنقاذ تلك والتي بدت له غريبة ونافرة عن مساعي الآخرين في لحظاتٍ دقيقة وحرجة. بالنسبة لي كانت شبيهةً بمحاولة إنقاذ أرواح عديدة تخصّني وتربطني بها أواصر مختلفةٌ عن السائد والشائع بين الناس؛ لطالما انتابني ـ لحظة العثور على كتابٍ يندرج في قائمة اهتماماتي بين الكتب المفروشة على الأرصفة ـ شعورُ من وجد طفلًا مشرّدًا قد كساه الغبار والإهمال، ثمّ ساقني القدر إليه لأنفض الغبار عنه وأضعه في مكانٍ يليق به، يجعله بمنزلة الابن المُتبنّى.
نعم! للكتب أرواحٌ، تاريخ مخبوءٌ بين دفّاتها، لمكتباتنا حكايات صغيرة، تلك الحكايات هي نحن؛ أعمارنا، أرواحنا، شغفنا الذي جمّلنا به حياةً لنا كانت تدور في جزءٍ كبيرٍ منها في فلك العاديّ وروتين متطلّبات الحياة التي أصبحت أشدّ وطأةً في زمن الحرب.
قبل أن يوقظ خبر إغلاق مكتبة نوبل ضمائر من صمتوا عن مقتل وتهجير آلاف السوريين من بيوتهم، ويشحذ الهمم والقرائح لدى بعضهم لتدبيج نعواتهم الكبرى للفقد الفادح الذي مُنيت به الثقافة في زمن الحرب، كنّا نحن قد فرغنا من نعواتنا الصغيرة الصّامتة لأحبّتنا وبيوتنا وأسرارنا، وذكريات لنا كثيرة طويناها بين صفحات كُتبِنا، لعلمنا أنّها المكان الأكثر دفئًا وحميميّة لذاكرتنا الباحثة عن ملاذٍ آمنٍ لها؛ لكنّنا اليوم وقد فقدنا كلّ شيء وأصبحت المسافات التي تفصلنا عمّن نحبّهم وعمّا أحببناه شاسعة؛ نحاول أن نتقبّل خساراتنا ونتصالح معها، لنستطيع المضيّ قدمًا في هذه الحياة وقد تخفّفنا من الألم وتجاوزنا حالة النعي التي لا تنفكّ عن مرافقة السوريين أينما ذهبوا.