"مَنْ يراهنون على أنّ قصيدة النثر هي الحدث الأساسيّ في السبعينيّات وما بعدها، لا ينتبهون إلى أنّ ذلك قد يكون نتيجةً بمقدار ما هو سببٌ. قد يكون الحدث الأساسيّ الفعليّ سلبيّا وغير مرئيّ، إذ يصعب أن نلاحظ أنّ المسألة هي في ما لم يقع أو توقّف عن الحصول، إلا أنّ الحدث الأول بالنسبة إليّ هو نضوب شعر التّفعيلة بعد السبعينيات وتوقّفه عند شعراء الجيلين الأولين أو الأجيال الثلاثة الأولى في حساب آخر".
ورد هذا الكلام في سياق محاضرة قدّمها عباس بيضون في الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الثاني عشر الموثّق من خلال الجزء الثاني من كتاب (الشعر العربي الحديث) الصادر عن المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب في الكويت عدد (تشرين الأول) 2009 (ص 68).. وهو قولٌ يقود إلى الوقوف مليّا أمام رؤية نقدية يلحّ عليها الكثيرون من المشتغلين في حقلي الكتابة الشعرية والنقدية في ثقاتنا العربية. وملخصه الرؤية أن قصيدة التفعيلة انتهى عصرها، تصحّرت، لم تنتج اسماً مهمّا منذ ثلاثين عاماً.. الخ هي ليست رؤية عباس بيضون وحده بل هو يغرف من ماء سائد ولا يأتي بجديد، مع أنه في ثنايا محاضرته يبدي مرونةً ربما كان سببها أخلاقيا لا نقدياً، حين يشير إلى أن ثقافتنا العربية برمتها أصابها النضوب والتصحر وليست قصيدة التفعيلة وحدها.
من الضروري أن نستدرج هذه الرؤية إلى المساءلة النقدية الحقيقية البحتة، ونتساءل من أين جاء أصحاب هذه الرؤية بموقفهم هذا؟ وينبغي أن تكون الإجابة: "من كونهم مشتغلين في حقلي النقد والشعر ، ولذلك هم متابعون جيدون لما يجري ويطرحون موقفهم عن علم ودراية". ولكن لا مهرب من السؤال التالي: لو كانوا متابعين حقيقيين وبصورة موضوعية ومنهجية وغير منطلقين من آراء مسبقة لتردّدوا في اتخاذ موقفهم ذاك. ولرأوا فيه شيئا من الارتجال.
إنّ واقع قصيدة التفعيلة لا يشيرُ إلى إمكانية الوصول إلى القناعة بانتهاء عصرها. ولكن ما حدث في وسطنا الثقافي وخاصة في جانبه الإعلاميّ غير النّزيه، أن تجربة قصيدة النثر عُمّمت وسًخّر لها إمكانيات ثقافية وإعلامية ونقدية مرعبةٌ، مصحوبة بمقولات متسرّعة وغريبة المعنى، تنال من أي شعر يمتّ بصلةٍ إلى الإيقاع العربيّ، من مثل: (ارتباط هذا الشّعر) بالتخلف والرّجعيّة. وعُومل شعر الإيقاع على أنه مرتبط بالنظام الرسمي والمؤسسة القائمة، وكأنّ دعاة قصيدة النثر وحماتها يعملون في جهات لا ينطبق عليها أنها مؤسّسات ثقافية، ولا تخضع لأنظمة سياسيّة ما.. ومن الطبيعي والحالة هي ما هي عليه، أن يدان كلّ من تقترف يداه إثم ارتكاب معصية شعر التّفعيلة، إلى درجة السّخرية منه والنفور منه كأنّه مصابٌ بجربٍ تاريخيّ.
إن هيمنة نموذج "قصيدة النثر" وتكريسه عبر وسائل إعلام ثقافية صحفا ومجلاّت وندوات ودورَ نشر ومراكزَ ثقافيّة أوروبيّة في الوسط العربيّ، كلّ ذلك أدّى إلى تشكيلِ موقفٍ مشحونٍ بالعدائية لكلّ من لا يتّفقُ مع هذا النّموذج
والمدقق في هذه الآراء بحثا عن حيثياتها يستطيع وضع يده على موقف أيديولوجيّ متشنّج منغلقٍ من مفهوم الشعر ومن مفهوم الهوية أيضاً، الذي بات هو الآخر مثار السخرية فقط في مجتمعاتنا العربية. نقول: موقفٌ أيديولوجيّ على الرغم من ادّعاء أصحابه أن عصر الأيديولوجيا قد انتهى.
إن هيمنة نموذج "قصيدة النثر" وتكريسه عبر وسائل إعلام ثقافية صحفا ومجلاّت وندوات ودورَ نشر ومراكزَ ثقافيّة أوروبيّة في الوسط العربيّ، كلّ ذلك أدّى إلى تشكيلِ موقفٍ مشحونٍ بالعدائية لكلّ من لا يتّفقُ مع هذا النّموذج، كتابةً وتنظيراً. وبالضّرورة فشعرُ الإيقاع يخرج عن هذا النموذج الّذي بات يشكّل مثالاً جاهزاً لكثيرٍ من الأجيال الجديدة التي تشعر بقلق الانتماء واضطراب الهويّة وضياع المثل الأعلى، فتجد فيه ملاذَها الجماليّ وبديلاً عن تاريخها (المتخلّف)! لأن نموذج "قصيدة النثر" متوفر على قدر هائل من الحرية والانفلات من المعايير والأدوات والتقاليد، كما يزعمون واهمين، ونحن لا نرى فيه تلك السهولة ولا ذلك الفضاء المتراخي والمهمل الذي يحق لكل من كتب مجموعة خواطر أن يدرجها تحت عنوان "قصيدة نثر".. أي أن أصحاب هذا النموذج أنفسهم يخونون تقاليد هذا النمط من الكتابة، لأنهم في معظمهم السّاحق مارسوه بلا ثقافة فيه، ولا قراءة لتاريخه ونشأته، بل أتوا عن وهمٍ محضٍ في أنّهم وجدوا الخلاص، حتى لو تعاطوا معه بهذه الصّورة المبتذلة والسّهلة.
في هذا المناخ ستحارَبُ قصيدةُ التّفعيلة وتُتّهمُ بالوقوف عائقاً أمام حراك التّاريخ، وسيكون الرّأي فيها وفيمن يتجرّأُ عليها من الأجيال الجدية واللاحقة، رأيا ناجزا شموليا تعميميّاً، غير تاريخيّ، أي لا يبحث في إمكانيات بروز أصوات مهمّة بعد الأجيال الأولى من الحداثة، لذلك فهو موقف أيديولوجيّ من حيث إن الأيديولوجية تتضمّنُ الإيمان بمجموعة معتقدات راسخة تأخذ طابعا يقينيّاً واثقاً، لا يقبل التّطوّر ولا التغيير. وهذا أمر مناهضٌ لطبيعة التّفكير التاريخي والمنهجي الموضوعيّ.
إن شعراء التفعيلة في الأجيال الجديدة هم كائنات منبوذة غير مرحّب بهم، مجرّد أتباع ومقلّدين لأدونيس ومحمود درويش وانتهى.. ولن يكلّف أصحابُ هذا الموقف أنفسهم عناء المتابعة المثابرة لما يجري حقا على الميدان، لا في رؤوسهم ومزاعمهم فقط. لأن البحث عندها سيوصلهم إلى حقائق تاريخيّة لا تتناسب واستنتاجاتِهم الجاهزة.. سيعثرون لا ريب، عند الانطلاق من ضرورات البحث النّقدي وحده، على أسماء مهمّة في سورية والعراق ولبنان ومصر وفلسطين والأردن والسّعودية واليمن وعُمان، أسماء تمارس إثمَ "قصيدةِ الإيقاع" بجدارةٍ وخصوصيّةٍ، مضيفة إلى المنجز الشّعريّ الإيقاعيّ العربيّ لمساتٍ واضحةً لا يمكن أن تخفى على عينٍ موضوعيّةٍ منفتحةٍ.. وكلّ ما نعرفه عن أصحاب هذه التجارب أنهم ليسوا عملاء للسلطة، ولا منظّرين للمؤسّسات الرّسمية ولا السّائدة، بل منهم من يعاني حتى على صعيد الموقف السياسيّ معاناةً لا يمكن أن تقع على أحدٍ من كتّاب "قصيدة النثر"، كما يُحرمون من التعبير عن تجاربهم في كثير من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية التي يسيطر عليها أصحاب ذلك الموقف المتشنّج المتعصّب لـ "قصيدة النثر". ولكنّ هذه التّجارب بحاجة إلى عقلٍ نقديّ في الوسط العربيّ يقوم بدوره الحرّ لا الموجّه ولا المنطلق من قناعاتٍ مسبقةِ الصّنع. إذ من المفيد حتى لمتعةِ هذا العقل النّقدي وفرحه بلذة الاكتشاف، أن يتنازل قليلاً عن نتائجه الموضوعة قبل البحث، المرسومة بألوان قاتمة، ليبصر حرّا فاعلا، فقد يرى وراء طبقات الظلام الكثيف أن هناك إضاءات فاعلة مهمّة في نموذج شعر التفعيلة، وأن الأمر ليس بهذا السوء الذي يتخيّلونه ويتلذّذون بالإصرار عليه، مع أنّهم معاصرون لمحمود درويش ولسعدي يوسف ولأدونيس في كتابته الإيقاعية، ومعاصرون لشوقي بزيع وجوزف حرب وطاهر رياض وزهير أبو شايب ويوسف رزّوقة.. وغيرهم. وهؤلاء كتاب قصيدة تفعيلة من مختلف الأجيال.. هذا إذا لم نذكر أسماء غير معروفة على الصعيد الإعلامي كثيرا لأنها معتم عليها بشكل أو بآخر.. ولدينا قائمةٌ وافيةٌ منها.
وكما نتابع ونبتهج لأسماء جديدة تكتب "قصيدة النثر" مثل جمانة حداد وصباح زوين ووديع سعادة وعقل العويط ولينا الطّيبي وآمال نوار، ننتظر أن يرى الطّرف الآخر فينا اختلافاً وإبداعا من نوع آخر، وأننا لسنا من مخلّفات التاريخ.