انطلق قطار التطبيع العربي مع النظام السوري بشكل مباشر عام 2019، إلا أن خطورته بدأت الآن مع إقبال دول عربية كبيرة ومؤثرة عليه مثل السعودية، لتعويم بشار الأسد من جديد وإعادة شرعنة نظامه رغم كل الجرائم التي ارتكبها.
وخلال السنوات الماضية فشلت كل جهود إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، بسبب عدم وجود إجماع عربي، وإصرار عدة دول على رأسها قطر والكويت والمغرب وحتى مصر و(السعودية سابقاً) على تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 الذي يعد مرجعية سياسية للتفاوض مع النظام بهدف التوصل إلى حل سياسي في سوريا برعاية أممية.
فاجأت المملكة العربية السعودية الجميع بخطوة التطبيع مع النظام السوري بعد قطيعة استمرت نحو 12 عاماً، وقفت الرياض خلالها إلى جانب المعارضة السورية ودعمتها ثم أوقفت كل ذلك بشكل كامل عام 2015، ودعمت نهاية العام نفسه جهود تأسيس هيئة عليا للتفاوض (مقرها الرياض) تضم جميع الفرقاء السوريين للتفاوض مع النظام في جنيف بغية الوصول إلى حل ينهي المأساة السورية.
الموقف الجديد للسعودية جاء بعد إعادة علاقاتها مع إيران برعاية صينية، في اتفاق يؤسس لمرحلة جديدة بين أكبر متنافسين إقليميين في المنطقة العربية والتي بدأت بالتطبيع مع النظام السوري ومفاوضات متقدمة بين الرياض وجماعة الحوثي في اليمن، إلى جانب ملفات عالقة مثل الملف اللبناني وما يخص الوضع العراقي والعلاقة التنافسية مع تركيا القوة الإقليمية الثالثة الصاعدة في المنطقة.
التطبيع لأجل التطبيع
وعلى الرغم من سعي دول عربية للتطبيع مع النظام السوري، إلا أن تلك الدول تريد ذلك مقابل العديد من الملفات العالقة مع النظام وفي مقدمتها الملف الأمني وضبط الحدود وإيقاف "تصدير الكبتاغون" الذي يغزو به النظام السوري وإيران دول الجوار والخليج العربي، وبالأخص السعودية، إضافة إلى فك ارتباط النظام مع إيران وعودته إلى الحضن العربي!
في حين أن التطبيع وتشابك المصالح واختلاف الرؤى بين الدول العربية المطبعة مع النظام فتحت خلافات حادة فيما بينهم، اتضحت معالمها عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عُقد في 16 نيسان في مدينة جدة السعودية، لمناقشة إعادة مقعد "سوريا" في جامعة الدول العربية للنظام.
وقالت مصادر لتلفزيون سوريا، إن التطبيع السعودي مع النظام السوري لم يأخذ وقتاً طويلاً مع الرياض، حيث يوجد توجه في المملكة لتحقيق ذلك، يشمل إعادة مقعد الجامعة العربية للنظام.
وأضافت المصادر أن السعودية تريد التطبيع حتى من دون وجود خطة عمل استراتيجية واضحة المعالم أو شرط خطوة مقابل خطوة، لكيفية التصرف مع النظام السوري بعد التطبيع بما يخص شحنات المخدرات وضبط الحدود، خصوصاً أنه تم الإعلان عن ضبط عمليات تهريب مخدرات جديدة إلى المملكة مصدرها مناطق سيطرة النظام السوري، في الوقت الذي كان فيصل المقداد وزير خارجية النظام يزور جدة، والحال نفسه خلال زيارة وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان إلى دمشق.
وأشارت المصادر إلى أن الأردن الذي سبق أن قاد التطبيع مع النظام السوري منذ عام 2019 غير مرتاح من الخطوة السعودية لإعادة النظام إلى الجامعة العربية دون أي مقابل يذكر يحقق للجارة الأردن بعضاً من مطالبها بما يخص أمن الحدود وإيقاف تصدير الكبتاغون.
ويرى مصدر مطلع أن التطبيع السعودي مع النظام السوري دون أي مقابل ملموس من النظام السوري الذي يتحكم به من قبل روسيا وإيران هو مكافأة لإيران التي لم تكن ستفضل أكثر من هكذا اتفاق يحفظ لها جميع مكتسباتها في سوريا ويقوي من موقفها أمام موسكو.
ويبدو أن ما ترغب به السعودية وتصر عليه عربياً، هو إعادة النظام إلى الجامعة العربية ثم بدء التفاهم معه، وهذا ما ترفضه دول عربية تقود التطبيع منذ سنوات وعلى رأسها الأردن.
ويأتي ذلك في ظل كشف صحيفة "البيان" الإماراتية عن لجنة رباعية تضم وزراء مجلس التعاون الخليجي وكل من الأردن والعراق ومصر لبحث حل سياسي حقيقي وشامل في سوريا من المرجح أن تلتقي في العاصمة الأردنية عمان خلال الأيام المقبلة.
وفي ظل الحديث عن مبادرات عربية منذ عدة أشهر لم تسرب أي وكالة استخبارية أو إعلامية حتى نصاً لمبادرة عربية تنهي الأزمة السورية، وهذا إن دل فهو يزيد من احتمالية الخلافات العربية في التعاطي مع ملف تعويم النظام السوري دون وجود رؤية استراتيجية توافقية.
تهميش المرجعية السياسية
والأخطر من ذلك، أن هناك حراكاً عربياً تقوده الدول المطبعة لتهميش الهيئة السورية للتفاوض التي من المفترض أن تتخذ من العاصمة السعودية الرياض مقراً لها بما يخدم التوجهات الجديدة.
ويعد إضعاف دور الهيئة العليا للتفاوض إلغاء لمرجعية الحل في سوريا، والعودة بالسوريين إلى المربع الأول، حيث يعد ذلك تجاوزاً لقرارات دولية تم التوافق عليها أممياً عبر القرار 2254 ومقررات مؤتمر جنيف 2.
وقالت مصادر مطلعة لموقع "تلفزيون سوريا" إن خطورة التطبيع دون مقابل مع النظام السوري قد يدفع بالدول المطبعة إلى الوقوف وجه عثرة أمام أي جولات تفاوضية مستقبلية مع النظام السوري واستبدالها بحل جديد يعطي للنظام وداعميه ما لم يكونوا يحلمون به بخلاف ما تسعى الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لتحقيق تقدم به قبل الانفتاح على نظام الأسد.
ضمن هذا السياق، يربط مراقبون دفع الولايات المتحدة ودول في المنطقة لإجراء لقاءات مع المعارضة السورية ممثلة في الهيئة العليا للتفاوض والائتلاف الوطني السوري، خصوصاً أن مقر هيئة التفاوض هو في الرياض ونشاطه معلق منذ عدة سنوات.
وترى المصادر أن الدول الغربية التي وضعت لاءاتها الثلاث - (لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات عن النظام) - في وجه النظام السوري لدفعه إلى طاولة مفاوضات جادة من غير المعقول أن تقبل بإلغاء قرار 2254.
ولفتت المصادر أن المعارضة السورية ستلتقي مع مساعدة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف، ومع ممثلين من الأمن القومي الأميركي ومع الكونغرس ومراكز أبحاث على صلة بدوائر القرار بالولايات المتحدة.
خلاف على التطبيع دون مقابل
وفي 16 نيسان الجاري، كشف تقرير أوردته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، أن الاجتماع الوزاري قد انتهى من دون اتفاق، لتبرز انقسامات عميقة في جميع أنحاء المنطقة.
وجاءت محادثات جدة بعد أيام من زيارة وزير خارجية النظام السوري للمملكة العربية السعودية التي تدرس دعوة بشار الأسد لحضور قمة جامعة الدول العربية الشهر المقبل.
وقالت وزارة الخارجية السعودية، إن الوزراء اتفقوا على مواصلة النقاش بشأن حل سياسي للصراع في سوريا وشروط للسماح بإعادة ملايين اللاجئين السوريين.
ونقل التقرير عن مسؤولَين مطلعَين على الاجتماع أن هناك معارضة حادة للتقارب السعودي من دول، من بينها قطر والكويت والأردن، التي تساءلت جميعها عن المقابل الذي يمكن أن يمنحه النظام السوري لقاء ذلك التقارب، بحسب أحد المسؤولَين.
مكافأة إيران
إحدى نقاط الخلاف كانت حبوب "الكبتاغون"، إذ أصبحت تجارته شريان الحياة الاقتصادي لنظام بشار الأسد، وفق المسؤول الذي قال: "لقد أصبحت (سوريا) دولة مخدرات، بتجارة تصل إلى أربعة أو خمسة مليارات (دولار) سنوياً.. لا يمكننا دفع (ثمن) ذلك".
أما المسؤول الثاني، فقد أفاد بدوره بأن إعادة قبول النظام السوري في الوقت الذي تنتشر فيه القوات الإيرانية وميليشياتها في البلاد، وتمارس نفوذاً على الأسد، من شأنه أن يكافئ طهران. وقال: "نحن نخلع الملابس للإيرانيين"، على حد وصفه.
من جهته، قال علي الشهابي، المعلّق والسياسي السعودي المقرّب من الديوان الملكي: "السعودية ترى بشار على أنه واقع مفروض الآن على الأرض، ويجب التعامل معه في العديد من القضايا، ليس أقلها مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في السعودية، والذين يريدون العودة إلى ديارهم، بالإضافة إلى المخدرات وقضايا أخرى".
مسؤولون مطلعون آخرون، قالوا إن مصر التي تضمّ مقر جامعة الدول العربية، تخلت بشروط عن معارضتها للأسد لكنها تريد على الأقل إظهار التقدم في حل سياسي.
وبحسب التقرير، فإن ذوبان الجليد في العلاقات العربية مع النظام السوري، قد يؤدي إلى إثارة غضب الولايات المتحدة، التي فرضت عقوبات على ذلك النظام، على الرغم من أن واشنطن لم تتخذ إجراءات ضد حليفتها الإمارات لاستضافتها بشار الأسد هذا العام وكذلك في عام 2022.