فقدت المناطق الحراجية في شمال غربي سوريا ما يزيد على 80% من مساحتها، على مدار السنوات الماضية، لأسباب مختلفة منها: قطع الأشجار بغرض التدفئة، والرعي الجائر، وقصف نظام الأسد وحلفائه للمناطق الزراعية والغابات، إضافة إلى الحرائق، ما هدد بانحسار المساحات الخضراء وانقراض أصناف معينة من الأشجار.
على الضفة الأخرى تسعى جهات حكومية ومنظمات خدمية لتدارك الموقف عبر مشاريع تهدف إلى غرس مئات الآلاف من الأشجار، لا سيما النادرة منها، والنباتات الطبية، للحفاظ مستقبلاً على رئة الشمال السوري والاستفادة من هذه الأشجار في الحفاظ على الأمن الغذائي وسلامة البيئة.
مشروع لغرس نصف مليون شجرة
أطلقت مؤسسة "تعليم بلا حدود / مداد" مخططاً بعنوان "المبادرة الوطنية لترميم الثروة البيئية السورية" لزراعة نصف مليون شجرة مثمرة وحراجية في شمال غربي سوريا، وذلك بالتعاون مع عدة شركاء، هم: جامعة حلب في المناطق المحرّرة، والدفاع المدني السوري، والمجالس المحلية، ودائرة الحراج والغابات في الداخل السوري، ومديرية الغابات في ولاية غازي عنتاب التركية.
ويهدف المشروع إلى غرس الأشجار خلال ثلاث سنوات، مع السعي لتصل وتيرة العمل إلى غرس 1000 شجرة يومياً للاستفادة من فترة الذروة الزراعية الحالية، في محاولة لتعويض ما استنزفته البيئة السورية خلال الأعوام الماضية، والوقاية من المضاعفات البيئية في المنطقة التي فقدت جزءاً كبيراً من غطائها النباتي الحراجي.
مؤسسة "مداد" تهتم بشكل رئيسي بالتعليم ودعم الطلاب لإكمال تحصيلهم العلمي، وكان لذلك دور في إطلاق المبادرة عبر الاستفادة من الإمكانيات والخبرات المحلية التي تم صقلها في المشتل البحثي التابع لها.
فكرة المبادرة ونقاط انتشارها
أفاد رئيس مجلس إدارة مؤسسة "تعليم بلا حدود / مداد" عزام خانجي بأن فكرة المبادرة ولدت لسببين: الأول وهو المرحلة الحرجة التي وصلت إليها الثروة البيئية بسبب قطع الأشجار، والثاني هو اعتماد معظم النازحين على السلل الغذائية المقدمة من المنظمات، فكانت الفكرة أن يستفيد الأهالي القاطنين في الخيام من هكذا مبادرات، ويأكلون مما يزرعون.
وأوضح "خانجي" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا أن المشروع يهدف في مرحلته الأولى إلى زراعة نصف مليون غرسة، منها مثمرة مثل التين والزيتون والفستق والعنب والرمان، وحراجية مثل البلوط والزنزلخت والخروب.
وبدأت الاستعدادات للمشروع قبل ثمانية أشهر من خلال تجهيز مشتل زراعي وتوفير الغراس، وزُرع 20 ألف غرسة حتى الآن، ويؤكد "خانجي" أنه مع الانتهاء من المرحلة الأولى وغرس نصف مليون شجرة، ستستمر المبادرة لزرع 5 ملايين شجرة، لتصبح المنطقة بالكامل خضراء.
وعندما أُعلن عن المبادرة، حدّدت ثلاث سنوات لإنهاء المرحلة الأولى (زرع نصف مليون شجرة)، لكن "خانجي" توقّع الانتهاء من غرس هذا العدد خلال عام ونصف فقط.
وتتركّز عمليات الغرس حالياً في جبل بافليون بمنطقة عفرين شمال غربي حلب، وسيتم الانتقال إلى جبل برصايا في اعزاز شمالي حلب، مع تنفيذ مشاريع صغيرة ضمن المبادرة في بعض المخيمات مثل: مخيم قطمة ومخيم احتيملات، وبالتزامن مع ذلك سيتم إنشاء آلية تمكين مستدامة في منطقة الزراعة الحالية (جبل بافليون) من خلال تجهيز بئر مياه وملحقاتها، وإنشاء مؤسسة وقفية خاصة بالمشروع.
خمسة أهداف للمشروع
يهدف المشروع إلى ترميم الغطاء الأخضر في شمال غربي سوريا بشكل مستدام، والاستفادة من المردود البيئي والاقتصادي (غذائي وصناعي ودوائي)، وتعزيز مساهمة الطلاب المختصين في المشروع بالدور البحثي والاستقصائي.
ومن الأهداف تحسين البيئة المحلية في مناطق التجمعات العشوائية عبر زراعتها، وإدخال مفاهيم حديثة للزراعة في المنطقة وتعزيز ثقافة الزراعة "النظيفة" وزيادة استخدام المواد العضوية، والمساهمة بتحسين الاقتصاد المحلي وتحقيق الأمن الغذائي للمنطقة.
مختصون يحددون النوع المناسب من النباتات
يشرف على المشروع كادر فني وإداري مختص بالتعاون مع مجموعة من طلاب كلية الهندسة الزراعية في جامعة حلب الحرة كباحثين متدربين، إضافة إلى الفرق التطوعية.
وأنشأت الجهات القائمة على المبادرة مشتلاً بين مدينتي اعزاز وعفرين بمساحة 22 دونماً، وجهزته بالبنية التحتية اللازمة، مثل الكهرباء وبئر مياه وبيوت بلاستيكية وبيوت طينية لتربية الديدان.
ووضع الفريق تصوراً للظروف المناخية للمنطقة، وبنك معلومات للنباتات المناسبة بما يضمن تحقيق الأهداف، ومن أبرز النباتات: الزيتون، والعنب، والفستق الحلبي، واللوز، والتين الشوكي، والمحلب، والبلوط، والكرز، والصنوبر الثمري، والبطم، والرمان، والسماق، والرقروق، واللوسينيا، والحلفا، والزعتر، وسرو، وخروب، وصبار.
ويؤكد "خانجي" أن هذه النباتات ذات مردود بيئي كبير، وأن كل منها لها مجموعة من الفوائد التي تصب في المصالح الاقتصادية للمجتمع المحلي بزوايا مختلفة، فهي غذائية (للإنسان والحيوان)، وطبية حيث تستخدم محلياً بشكل مباشر، ويمكن البناء عليها لمشاريع تصنيعية يمكن من خلالها تصدير بعض المواد والتركيبات الطبية الجاهزة.
تطوير واستثمار
يعتمد المشروع على تطوير الآلية الزراعية المتبعة في المنطقة عبر إدخال تقنيات جديدة للتسميد والتلقيح، حيث سينتج المشتل الأسمدة العضوية من خلال تربية الدودة الحمراء التي تساعد في إنتاج السماد العضوي وجعلها ثقافة عامة في المنطقة للتخفيف من السماد الكيماوي.
ومع مرور الوقت سيتم اعتماد آلية لتلقيح جذور الحراج والأشجار الموجودة بالكمأة الصحراوية البيضاء، لتحسين المردود من هذه الأشجار وإنتاج الكمأة والاستفادة من قيمتها الغذائية والاقتصادية.
الاستثمار في المبادرة سيكون عبر تأسيس منظومة اقتصادية من المشاريع التي يمكن أن تُبنى على المبادرة ليتم استثمارها والاستفادة من عوائدها بما ينعكس إيجابا على المجتمع المحلي.
وبحسب "خانجي" فإن عائد المشروع سيخصص للأرامل والأيتام وأسر الشهداء، حيث يمكن أن تقوم ربّات هذه الأسر على سبيل المثال في تجفيف وتعليب ثمار التين أو التوت، ويكون العائد لهن.
تأثير قطع الأشجار على البيئة
قال الصحفي المختص بقضايا البيئة زاهر هاشم إن الغابات تعد موطناً لنحو 80% من التنوع البيولوجي، لذلك فإن قطع الأشجار يهدد الكائنات الحية بفقدان موطنها، ويهددها بالانقراض نتيجة فقدان غذائها.
وأشار "هاشم" إلى أن الأشجار تسهم في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري، لذلك فإن قطعها يؤدي إلى زيادة الغازات الدفيئة المسببة لتغير المناخ.
فوائد زرع الأشجار
تحدث هاشم في إفادة لـ موقع تلفزيون سوريا عن أهمية زرع الأشجار وفوائدها، وهي:
- توفر الأشجار الهواء النقي وتسهم في الحد من تغير المناخ، حيث يمكن لشجرة واحدة امتصاص نحو 150 كغ من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.
- تسهم زراعة الأشجار في المدن في تنقية الهواء من الملوثات والجسيمات الدقيقة التي تضر بالجهاز التنفسي، وتوفر بعض أنواع الغذاء مثل الفواكه والمكسرات، كما تنظم الأشجار تدفق المياه وتحسن من نوعيتها.
- تساعد الأشجار على تماسك التربة ومنع انجرافها وتقليل العواصف الترابية.
- تسهم الأشجار في المدن وحول المباني في تلطيف الجو وتقليل الحاجة إلى المكيفات وبالتالي توفير الطاقة.
- تساعد الأشجار على تحسين الصحة الجسدية والنفسية.
- توفر الأشجار الأخشاب المستخدمة في الكثير من الصناعات وخصوصاً صناعة الأثاث المنزلي، وصناعة الورق، كما تعتبر مصدراً للحصول على الطاقة المستخدمة في الطبخ في المناطق الريفية والجبلية، شريطة قطعها بشكل مستدام غير جائر.
نصائح لضمان سلامة البيئة
وينصح الصحفي زاهر هاشم بما يلي للحفاظ على سلامة البيئة:
- زراعة الأشجار بشكل مستمر وخصوصاً في المناطق التي تعرضت لحرائق الغابات.
- إصدار تشريعات تمنع استخدام مناطق الغابات المحروقة لإنشاء مشاريع بناء أو مشاريع صناعية وذلك للحد من افتعال الحرائق فيها.
- تعزيز إجراءات الحماية من الحرائق في مناطق الغابات والمناطق السكنية القريبة منها.
- توعية السكان في مناطق الغابات حول الممارسات السليمة التي تمنع وقوع الحرائق، وخصوصاً في فصل الصيف.
- إنشاء أنظمة تكنولوجية متطورة للكشف المبكر عن الحرائق والإبلاغ عنها.
قرارات لمنع قطع الأشجار
أصدرت حكومة "الإنقاذ" قراراً، عام 2020، يقضي بمنع قلع أو قطع الأشجار في إدلب تحت طائلة المساءلة القانونية، وكذلك عدم قطع الأشجار المثمرة إلا بعد التنسيق مع المديرية العامة للزراعة، وأخذ الموافقة المسبقة بهذا الخصوص.
وفي ريف حلب الشمالي اتخذت بعض الفصائل قرارات بتشكيل مكاتب حراجية لحماية الثروة النباتية، ومنع قطع الأشجار من الأحراش وكروم الزيتون.
وكان "الفيلق الثالث" في الجيش الوطني السوري من بين الفصائل التي اتخذت قراراً كهذا، إذ شكّل المكتب الحراجي، مطلع العام 2020، ونشر دوريات ونقاطاً ثابتة ضمن المناطق الإدارية التي يوجد فيها، لملاحقة التجار، أو أصحاب السيارات والدراجات النارية الذين يقطعون الأشجار بغرض التجارة.
ونشر الفيلق نقاطاً ثابتة في أحراش "عرب ويران، وفيركان، والخالدية"، وسيّر دوريات جوالة في أحراش "كفرجنة وقطمة وبافليون والقسطل ومعرين والسنكرلي" شمال غربي حلب، وفي العام الأول لتشكيل المكتب نُظّم 152 ضبطاً وأوقف 294 شخصاً بسبب قطع الأشجار، في حين بلغت التعهدات الخطية بعدم تكرار القطع 218 تعهداً.
يحذّر مختصون من التهاون مع ظاهرة قطع الأشجار في الشمال السوري، وتأثير ذلك على البيئة والغذاء وكذلك الحيوانات على المدى البعيد، خاصة مع انحسار مساحة الأراضي الزراعية بفعل العمليات العسكرية الروسية في عام 2019، كما يوصون بإطلاق مشاريع تعنى بالزراعة والتشجير لزيادة المساحات الخضراء.