لطالما تميز المجتمع السوري قبل العام 2011 بأنه مجتمع فتي، إذ كانت فئة الشباب تشكل النسبة الأكبر من إجمالي عدد السكان، إلا أن هذه النسبة بدأت تتراجع منذ ذلك الوقت، بفعل أسباب كثيرة أوجدتها ظروف الحرب الطويلة وتبعاتها، وهو ما سيترك آثاره السلبية على مستقبل البلاد التي بدأت تعاني خللاً ديموغرافياً يتفاقم يوماً بعد يوم.
كشف تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA في الشهر الأول من العام الجاري أنه من المتوقع أن يزداد عدد الأشخاص في سوريا الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً بنحو خمسة أضعاف بين 2020 – 2050، أي سترتفع النسبة من نحو 1.3 مليون (7.5% من إجمالي السكان) إلى 6.5 مليون (19.8%).
تسلل الشيخوخة إلى المجتمع السوري نوّه إليه مدير المكتب المركزي للإحصاء سابقاً شفيق عربش بالقول: إن الشيخوخة تغزو أوساط المجتمع السوري، وحذر من خطورة هذه الظاهرة مستقبلا، وأوضح أن السبب الرئيسي الذي أدى لشيخوخة المجتمع هي الهجرة الكبيرة لشريحة واسعة من الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 16 و36 عاماً.
الهجرة حلم الشباب
بالإضافة إلى العمليات العسكرية التي شنتها قوات النظام السوري وحلفائه منذ بداية الثورة السورية، والتي أدت إلى تشريد ملايين السكان، وتحويلهم إلى لاجئين خارج الحدود، ونازحين داخلها، مازلت الظروف الاقتصادية، وما يترتب عليها من غياب أبسط متطلبات الحياة، وانعدام فرص العمل، وتراجع مستوى الدخل، وغياب أي مستقبلٍ واضح، إضافة إلى الحالة الأمنية والهروب من الخدمة العسكرية في جيش النظام، هذه العوامل ما زالت تدفع آلاف الشباب للهجرة سواء من مناطق النظام أو من باقي مناطق الجغرافيا السورية.
وبحسب مصادر متابعة في دمشق، فإن غالبية الشباب المغادرين للبلاد خلال العام الماضي كانوا من مواليد 2004، أي سن الخدمة الإلزامية، وقد مثلت أربيل في كردستان العراق الوجهة الرئيسية لهم بحكم سهولة الحصول على تأشيرة دخول، وحذرت المصادر من أن تصبح سوريا قريباً بلد الكهول والعجزة والمعدمين ممن لا إمكانية لديهم للهجرة.
ولفتت المصادر إلى معاناة سوريا من "نزف حاد" في الكوادر والكفاءات الفنية بمختلف القطاعات، وقالت: إن النزف تفاقم في العام الأخير مع تزايد الهجرة نحو الدول التي تقدم تسهيلات للحصول على تأشيرة.
وتتوقع الكثير من الدراسات هجرة مئات آلاف الشباب في السنوات القادمة إذا ما بقي الواقع على حاله، حيث أصبح خيار السفر الحديث الشاغل بين الشباب والحلم الأول عند الكثير منهم، وقد باتت كثير من الأسر تُجهِّز أبناءها للسفر، فور انتهائهم من الدراسة، أو حتى لإكمال دراستهم في الخارج.
ووفق تقديرات منظمات الأمم المتحدة والمنظمات السورية المعنية، بلغ عدد اللاجئين السوريين حول العالم نحو 6.5 ملايين سوري، في حين يبلغ عدد النازحين داخل البلاد نحو 6 ملايين نازح، ثلثهم من الأطفال، فيما لجأ نحو مليون إلى بلدان أوروبا، هذا إلى جانب هجرة مئات الآلاف إلى أماكن مختلفة من العالم، حيث صُنفت سوريا ضمن الدول الأكثر تصديراً للاجئين في العالم. ومن المعروف أن النسبة الأكبر من المهاجرين كانت من فئة الشباب، ومن الأُسر التي كان أبناؤها في عمر الطفولة أو المراهقة.
تراجع معدلات الزواج والإنجاب
الخلل الديمغرافي الذي أحدثته هجرة الشباب، ومعاناة القسم المتبقي منهم في سوريا من الوضع المعيشي الصعب، وارتفاع تكاليف تأمين المسكن والشروط المعيشية التي يحتاجها بناء الأسرة، أدى لانخفاض معدلات الزواج بشكلٍ غير مسبوق، فبينما تم تسجيل نحو 228 ألف عقد زواج في عام 2010، لم يُسَجل في عام 2017 سوى 100 ألف عقد.
وبحسب ما نشرته صحيفة البعث الحكومية، قبل ثلاثة أعوام، فإن نسبة العنوسة وصلت إلى نحو 70%، وهو رقم يزداد يوماً بعد يوم، هذه النسبة دفعت القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي لكي يُشجع – عبر تصريحٍ له عام 2017- على خيار تعدد الزوجات، كحلٍ وحيد للحد من تفشي ظاهرة العنوسة.
عادت الصحيفة وتحدثت عن ذات الموضوع لكن قدمت نسباً صادمة، حيث سجلت مختلف المحافظات 46 ألفاً و827 شهادة طلاق عام 2022، بمعدل ارتفاع بلغ 11 في المئة مقارنة بعام 2021 الذي شهد 41 ألفاً و957 شهادة طلاق، وخاصة في محافظة حلب التي تحتل المرتبة الأولى ودمشق الثانية وريفها بالمرتبة الثالثة، بينما حلت حمص بالمرتبة الرابعة.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، كان مقابل كل 29 ألف حالة زواج، هناك 11 ألف حالة طلاق، بحسب الصحيفة التي تقدم إحصائيات عن مناطق سيطرة النظام فقط.
ويقدر أستاذ كلية الآداب في قسم علم الاجتماع، أحمد الأصفري، نسبة الشباب العازفين عن الزواج في سوريا بأكثر من 60 في المئة، بسبب المستقبل المجهول.
من جانب آخر دفعت الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع تكاليف الولادة وتربية الأطفال، إضافة إلى الخوف من المستقبل الكثير من السوريين إلى تقليل عدد الأطفال، أو الاكتفاء بطفل واحد فقط، وهناك من رفض فكرة الإنجاب من أصلها.
وبحسب دراسة نشرتها صحيفة قاسيون السورية المحلية منتصف عام 2019، فإن نسبة إنجاب الأطفال عام 2010 كانت بمعدل 17 طفل لكل 100 امرأة في عمر الخصوبة، خلال العام الواحد، فيما تراجعت تلك النسبة لتصل إلى 6،6 طفل لكل 100 امرأة، وبالتالي فقد خسرت كل 100 امرأة أكثر من عشرة أطفال، كان من الممكن إنجابهم فيما لو بقي معدل الإنجاب كما كان قبل الحرب.
وفق التقديرات الدولية فإن سوريا تقترب سريعاً من معدل الخصوبة الاستبدالي، أي: المعدل الذي وفقه يمكن القول: إنّ المجتمع لن يتوسع في جيل لاحق، بل يبقى عند حدوده الحالية، وهي خسارة بشرية وخسارة فرص نمو وتنمية لمجتمعٍ لم يستطع أن يقطف ثمرة قواه الشابة.
وتنوه هذه التقديرات إلى أنه إذا ما استمرت الحرب والتدهور الاقتصادي، أو إذا ما دخلنا في مرحلة طويلة أخرى من تراجع التنمية وتوسع الفقر، فإن المعدل سيزداد تراجعاً وسنصل إلى حد عدم قدرة المجتمع على تجديد نفسه سكانياً.
لا بناء ولا نهوض دون الشباب
لطالما كان الشباب عامة حوامل مشاريع التغيير والإصلاح والتغيير الاجتماعي، وفي الحالة السورية بشكل خاص تمثل الثورة السورية التي أطلقها وقادها الشباب شاهداً حياً على ذلك. لذا من الطبيعي أن يؤدي نقص العنصر الشبابي، وارتفاع نسبة الشيخوخة إلى تباطؤ عجلة البناء والإصلاح في المجتمع بشكل عام وفي الحالة السورية بشكل خاص، بعد أن أنهكت سنوات الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه ضد المجتمع السوري على كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويكمل هذا التدمير سلطات الأمر الواقع في مختلف مناطق السيطرة.
وعن الآثار السلبية للتناقص الحاد والمتزايد في المكون الشبابي داخل المجتمع السوري يوضح الباحث الاجتماعي محمد ديرانية أن ذلك يؤدي إلى إضعاف القوة الدافعة للتغيير والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإضعاف الروح الإصلاحية في المجتمع، وبالتالي جعل المجتمع أكثر مقاومة للتغيير.
ويضيف ديرانية في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بما أن الشباب هم دعامة حركات الإصلاح السياسي والاجتماعي ويشكلون عمودها الفقري بالقيادة والتنظيم والتخطيط والتضحية، فإن ترهّل وتضاؤل شريحة الشباب في المجتمع السوري سيُفقد أي محاولات إصلاحية زخمها ودعمها وعزيمتها وعقولها المخططة وتصبح أكثر عرضة للركود والجمود.
وقال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا دان ستوينيسكو في حزيران من العام الفائت: 9 من كل 10 شباب يرغبون في مغادرة سوريا ما يعادل نسبة 90 بالمئة من الشباب في البلاد.. هؤلاء الشباب هم في الغالب أناس لامعون مثقفون ولسوء الحظ لن يبقوا ويساعدوا وطنهم.
آثار خطيرة على بنية المجتمع
في ظل استمرار العوامل التي أدت إلى هجرة الشباب، وتراجع معدلات الولادة، يحذر الباحثون الاجتماعيون من تغييرات خطيرة في تركيبة المجتمع السوري باختلاف مناطق السيطرة على الجغرافية السورية.
فشريحة الشباب تمثل القوة الديناميكية الأكثر فاعلية في تنشيط التواصل الفعال بين فئات المجتمع من خلال مشاركتهم النشطة في الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتطوعية، لذا فإن هجرة الشباب السوري المتزايدة إلى الخارج أدت إلى تآكل قناة الوصل هذه لحد كبير، وبالتالي إلى تقليل الترابط الاجتماعي وخلق فجوة في النسيج الاجتماعي السوري، وذلك بحسب الباحث ديرانية.
ويكمل الباحث الاجتماعي حديثه بالقول إن نقص العنصر الشبابي في المجتمع تعني فقدان الأجيال الأصغر لنموذج القدوة، والأطفال والمراهقون الذين ينشؤون في أسرة غير مكتملة، أو يكبرون من دون نموذج شبابي إيجابي ستتأثر قيمهم وسلوكياتهم الاجتماعية سلباً، وسيواجهون صعوبات في تشكيل هويات اجتماعية وثقافية متزنة ومتسقة مع قيم المجتمع ومبادئه الأصيلة.
من ناحيته يقول علي رستم وهو مسؤول في مكتب الإحصاء التابع للنظام: إن التحولات الديموغرافية التي شهدتها سوريا تشبه حال بعض الدول التي شاركت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك الدول التي شهدت حروباً أهلية مديدة، فالخلل لم يقتصر على مستوى التركيب العمري، بل امتد إلى مستوى التركيب النوعي للسكان، حيث انخفضت نسبة الذكور في المستوى الإجمالي.
يشار إلى أن التحديات في مختلف المناطق السورية وبالأخص مناطق سيطرة النظام، تحولت من وضع خطط تنمية تتناسب مع تزايد النمو السكاني، إلى وضع خطط لكيفية التعامل في توسع ظاهرة المسنين الذين يفتقدون لأدنى الخدمات بعد تقاعدهم من العمل، في ظل ارتفاع أعداد المسنين في دور الرعاية الخاصة بهم إلى 500 طلب، أي أكثر من 10 أضعاف عما كان عليه العدد قبل العام 2011.