مضى عام ونصف على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا حول إدلب، وفي اليوم الأول لسريان الاتفاق خرقته روسيا وقوات النظام عدة مرات، لكن الخروقات بقيت ضمن المتوقع خلال العام الأول للتهدئة، ثم سرعان ما بدأت عمليات القصف تتوسع مطلع شهر حزيران/يونيو الماضي، تزامناً مع استخدام أسلحة أكثر فتكاً، وزيادة وتيرة القصف الجوي الروسي على المحافظة.
كان السكان يأملون بشن عمليات عسكرية هجومية على قوات النظام في ريف إدلب الجنوبي وشمالي حماة، لاستعادة المناطق التي سيطر عليها النظام في عام 2019، وإعادة النازحين إليها، لكن التصعيد غير المسبوق لروسيا على جبل الزاوية منذ أشهر، قلّص آمال المدنيين، لتصبح أقصى أمنياتهم عدم خسارة مساحات جغرافية جديدة لصالح الروس.
تحركات الفصائل في شمال سوريا
تنقلنا هذه الجزئية، إلى الحديث عن حجم الآمال المعقودة من جانب السكان على الفصائل العسكرية في إدلب، ويشير الواقع إلى أنها قليلة إن لم تكن معدومة، ويعود ذلك إلى حجم الخسارات التي صُدم بها الأهالي منذ مطلع عام 2019 حتى الآن، بداية من فقدان ريف حماة الشمالي ومعظم بلدات سهل الغاب، ثم خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وأجزاء كبيرة من ريف حلب الغربي.
المعطيات على الأرض، تؤكد استياء السكان من طريقة تعامل الفصائل مع التصعيد الحاصل على جبل الزاوية، وفشلها في تخفيف وتيرته أو إجبار الخصم على وقفه، مع الأخذ بعين الاعتبار فرق القوة بين الطرفين، لكن الردود التقليدية على المجازر شبه اليومية لم تعد تجدي نفعاً، ما يحتم على الفصائل البحث عن حلول بديلة ووسائل جديدة لردع الطرف المقابل وحماية المدنيين من الخطر المحدق بهم.
ردود تقليدية على التصعيد الروسي
تعلن الفصائل بعد كل جولة من القصف الروسي، أو مجزرة تقع في جبل الزاوية وتحصد أرواح عدد من المدنيين، عن استهداف مواقع تصفها بـ"الاستراتيجية" وغرف عمليات لقوات النظام أو معسكرات ومرابض مدفعية تتبع له.
يمكن للسكان تفهم الواقع، وقلة حيلة الفصائل، وانحسار الخيارات أمامها، لكنهم يعتقدون أيضاً أن السلاح الموجود بين أيديها قادر على قلب المعادلة إذا ما صوّب للمكان الصحيح والأكثر إيلاماً لروسيا.
غالب عمليات القصف تطول مناطق مهدمة ولا تحوي غرف عمليات حساسة، والحديث هنا عن المدن والبلدات التي تقدمت إليها قوات النظام خلال العمليات العسكرية الأخيرة، مثل كفرنبل وحزارين وريف معرة النعمان.
تكررت الدعوات كثيراً للفصائل لاستهداف مناطق أكثر عمقاً، وقصف غرف العمليات المركزية للقوات الروسية، والمطارات والثكنات العسكرية، وتحقيق فاعلية أكبر للقصف، لكن استراتيجية الفصائل بقيت نفسها، وباتت الردود تكرر نفسها أيضاً، إلى أن أصبحت تقليدية وبحاجة للتطوير.
بالتأكيد لدى الفصائل غرف عمليات عسكرية بجعبتها بنك من الأهداف، وتدرس المكاسب والمخاطر لقصف كل هدف منها، وهو أمر يتقبله السكان، لكن ما يستفزهم، التصريحات ذات السقف المرتفع الصادرة عن بعض قادة الفصائل، دون أن يُرى أو يُلمس لها أثراً في الواقع.
من الأمثلة على ذلك، التصريحات الصادرة عن زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني في شهر تموز/يوليو الماضي، حيث قال في لقاء مع عدة صحفيين إن قرار السلم والحرب بيدهم، مضيفاً أن الفصائل ترد بشكل منتظم على القصف وهناك "أسلحة لا نرغب بكشفها ويحاول النظام استفزازنا ليعرف حجم قوتنا التي طورناها، وهذا غير منطقي بالنسبة لنا".
تطرح تصريحات "الجولاني" جملة من التساؤلات، ومنها ما يخص توقيت استخدام الأسلحة الجديدة، إذا لم تستخدم في أوج التصعيد العسكري، وتساهم في وقف التصعيد الحاصل.
بدا "الجولاني" واثقاً بطريقة الرد التي تتبعها الفصائل، إذ قال إن التصعيد قد يزداد لكنه سيبقى على شكل قصف، وسيتم الرد عليه "وفق استراتيجية مدروسة".
في السياق نفسه، تقلصت الآمال على الجيش التركي في وقف القصف أو الرد عليه، ورغم انتشاره عبر نحو 30 قاعدة ونقطة عسكرية في جبل الزاوية، إلا أن ذلك لم يمنع التصعيد ولم يسهم في وقفه.
لم يتخذ الجيش التركي موقفاً حازماً من التصعيد الأخير، ويقتصر دوره على إطلاق بضع قذائف على مواقع ومعسكرات قوات النظام، بالرغم من امتلاكه نقاط قوة، تمكنه من شلّ حركة طيران الاستطلاع الروسي.
ما موقف الفصائل؟
يؤكد مصدر مطلع على التفاصيل العسكرية في غرفة عمليات "الفتح المبين" في إدلب، أن الرد العسكري للفصائل على القصف الروسي، يعتبر خجولاً ولا يؤدي الغرض في لجم قوات النظام وإيجاد بيئة مستقرة وآمنة للمدنيين في جبل الزاوية.
ويوضح المصدر - فضل عدم ذكر اسمه - أن الفصائل تعنى اليوم بشكل رئيسي بإعداد المقاتلين عبر المعسكرات التي لم تتوقف منذ سريان وقف إطلاق النار، وتحاول استغلال كل دقيقة هدوء في تعويض ما خسرته خلال الحملة الأخيرة.
وأشار المصدر في حديث لموقع تلفزيون سوريا إلى أن الفصائل غير قادرة اليوم وفي ظل الظروف العسكرية والسياسية الحالية على بدء عمل هجومي ضد قوات النظام وروسيا، لذلك تولي أهمية إلى تطوير وسائل القتال، وتنظيم صفوفها، واستغلال وجود الجيش التركي وانتشاره الضخم في إدلب لصالحها.
وأضاف: "عمليات التحصين مستمرة، وتم إعداد خطوط دفاع متينة، ويتم الرد بالمستطاع على قصف قوات النظام، مع العلم أنه لا يمكن تجاهل الأساليب الجديدة في الميدان، ومنها وجود الطيران الروسي على مدار الساعة في الأجواء ورصده أي تحركات والتعامل معها، وكذلك زيادة استهداف القذائف الموجهة بالليزر أنفاق وتحصينات وآليات الفصائل".
وحول الواقع الميداني الحالي، ذكر المصدر أن الفصائل لم ترصد حشوداً عسكرية جديدة لقوات النظام على خطوط التماس، واصفاً عمليات القصف بالطبيعية، بينما تعمل الفصائل بالمقابل على رفد نقاط الرباط بمقاتلين ذوي خبرة جيدة بالتعامل مع عمليات التسلل النهارية والليلية للقوات الروسية الخاصة.
ما الذي يمكن للفصائل فعله؟
تواصل موقع تلفزيون سوريا مع خبراء عسكريين، للتحدث عن أثر رد الفصائل على مجازر روسيا، والخيارات التي يمكن اتباعها لتحقيق ضغط على القوات الروسية ونظام الأسد، بعيداً عن الأدوات التقليدية المتبعة منذ سنوات.
واعتبر الخبير العسكري العقيد مصطفى بكور، أن كل الردود التي تقوم بها الفصائل على القصف، لا تلجم روسيا، لأن الرد يكون على قوات النظام، وروسيا لا يهمها حجم الخسائر عند النظام.
وأفاد "بكور" بأن ما يؤلم روسيا هو استهداف قاعدة "حميميم" بريف اللاذقية، والعمليات خلف خطوط العدو التي تستهدف الداخل، لأن ذلك يظهر روسيا عاجزة عن تأمين النظام من هجمات الثوار.
ويمكن للفصائل أن "تلجم النظام عن طريق تنفيذ عمليات نوعية تستهدف المواقع العسكرية والمطارات في عمق المناطق المحتلة وخاصة حميميم وقاعدة طرطوس البحرية الروسية".
ويندرج تحت اسم العمليات خلف خطوط العدو، كل من الإغارات، أو تلغيم طرقات الإمداد للنظام عبر عمليات نوعية، أو عمليات اغتيال عبر خلايا، أو استخدام الطيران المسير.
ويعتقد "بكور" أن الدور التركي المحدود في إدلب، يعود لالتزام الأتراك بالاتفاقيات السياسية، مثل "أستانا"، إضافة لموقف تركيا الضعيف أمام روسيا.
وأضاف: "هل اتفاقيات أستانا تخول الروس بالقصف على المناطق المحررة؟ أقول نعم، هناك اتفاق على تصنيف هيئة تحرير الشام على قائمة الإرهاب، وهذا متفق عليه بين روسيا وتركيا، وحسب أستانا يحق للنظام وروسيا استهداف مواقع التنظيمات الإرهابية حسب التصنيف العالمي، وروسيا كلما قصفت مكانا تقول للأتراك لدينا معلومات عن وجود مقرات أو معسكرات للهيئة في المكان المستهدف، وبذلك تبرر عمليات القصف".
من جهته، يرى المحلل العسكري النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن "الفصائل لا تستطيع الرد بأكثر من الرد الخجول الحالي، فهي ليست صاحبة قرار".
وقال "عبد الرزاق": "يختلف هامش حرية القرار بين الفصائل، لكن بالمجمل قرار الهجوم أو الرد الواسع لا يملكه أي فصيل، وتركيا لا تريد الآن للوضع أن ينفجر في إدلب، لذلك تحافظ على ضبط النفس، فأولويتها الآن في سوريا هي دراسة الاحتمالات والتنسيق والتجهيز للتعامل مع منطقة شرق الفرات في حال انسحبت القوات الأميركية على غرار ما حصل في أفغانستان".
وأشار إلى أن الفصائل تستطيع القيام بضربات محدودة ونوعية، فهي تملك بنك أهداف مؤثر، ويمكن أن يوجع ذلك قوات النظام والميليشيات الداعمة له، كما يمكنها القيام بعمليات إغارة خاطفة، والعمل خلف خطوط العدو، وبهذا تتجنب التصعيد، أو بدء معركة شاملة هي بالأساس لا تملك قرارها، بحسب "عبد الرزاق".
بدوره ذكر الخبير العسكري العقيد مصطفى الفرحات، أن رد الفصائل بشكله القائم لا يمكن له أن يردع النظام والروس، مشيراً إلى أن الرد يكون عبر عمليات خاطفة تتم عبر مجموعة قليلة من العناصر، أو عبر اصطياد أهداف ثمينة، وتنفيذ كمائن.
ولفت إلى أن هذه الأعمال لا تعني شن عمليات عسكرية واسعة، أو السيطرة على أرض أو جغرافية جديدة، لأن ذلك لم يعد يهم في الوقت الراهن، على اعتبار أن الطيران الروسي حاضر في أي لحظة وقادر على أن يجعل المهاجم هدفاً سهلاً له، ويكبده خسائر كبيرة.
وقال "الفرحات" إن الهجمات يمكن أن تطول قوافل نقل عسكرية، أو خطوط الإمداد للنظام، وخاصة الآليات العسكرية التي تتحرك لتبديل العناصر، وهي في الوقت نفسه هدفاً ثميناً واصطيادها سهل.
وأكد أن هذه الأعمال ترهق روسيا والنظام، أما القصف بشكل غير مركز فإنه "لا يساوي ثمن القذيفة التي تطلق" حسب وصفه.
تلميح روسي لمعركة مرتقبة
ألمحت وكالة "سبوتنيك" الروسية الحكومية، إلى إمكانية بدء عمل عسكري في ريف إدلب الجنوبي، تحت ذريعة تأمين المدنيين في ريف حماة الشمالي.
ونقلت الوكالة عن مصدر وصفته بالمطلع على الموقف العسكري في شمال غربي سوريا 10 أيلول الجاري، أنه يتوقع اشتعال المعارك بين قوات النظام، والفصائل المنتشرة في ريف إدلب الجنوبي، بأي لحظة خلال الأيام المقبلة.
وادعى أن هيئة تحرير الشام تعمل بالتعاون مع فيلق الشام والجبهة الوطنية للتحرير، على شن هجمات على مواقع النظام واستهداف القرى والبلدات الآمنة بالقذائف الصاروخية.
واعتبر أنه "من الطبيعي ألا نبقى في وضع الدفاع والرد على خروقات المسلحين"، مضيفاً أن النظام ينسق مع الجانب الروسي لكل الاحتمالات على أرض الميدان، ويجب أن يتم العمل على إبعاد "خطر المسلحين" عن المناطق المدنية في ريف حماة الشمالي الغربي، مشيراً إلى أن "هذا الأمر لن يتم إلا من خلال العمل الميداني، وخاصة بعد فشل تركيا في تطبيق كل الاتفاقات السابقة".
يأتي ذلك تزامناً مع انتقاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، لتركيا، حيث اعتبر أنها لم تتمكن من استكمال تنفيذ الاتفاقات الخاصة بفصل "المعارضة" عن "الإرهابيين" في إدلب.
وقال خلال مؤتمر صحفي في 9 من أيلول: "فيما يخص إدلب، فإن السبيل الوحيد لحل هذا الوضع وفقاً للقرار 2254 هو أن يستكمل زملاؤنا الأتراك تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان منذ أكثر من عامين والتي تنص على فصل المعارضة العقلانية عن الإرهابيين، وبشكل أساسي عن هيئة تحرير الشام، وقد بدأت بالفعل هذه العملية، لكنها لم تكتمل على الإطلاق وما يزال هناك كثير مما يجب القيام به".
وأضاف: "نحن نتحدث باستمرار عن هذا الأمر مع زملائنا الأتراك من خلال الجيش، بما في ذلك، نقدم طرقاً ملموسة من شأنها دعم شركائنا الأتراك في تنفيذ اتفاقيات الرئيسين، والعمل جار، لكن للأسف، بعيد كل البعد عن الاستكمال".
ولم يتأخر الرد من أنقرة، حيث قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار: "هناك اتفاقيات تم توقيعها بعد محادثاتنا مع روسيا، نحن نلتزم بها وأوفينا ونفي بمسؤولياتنا وننتظر من محاورينا أيضاً الالتزام بهذه الاتفاقيات ومسؤولياتهم هنا".
وشدد على وجوب "استمرار وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد وضمان الاستقرار فيها بأقرب وقت، وجعل المنطقة آمنة، وتهيئة بيئة يعيش فيها السوريون بأمان".
ومن الواضح أن روسيا غير راضية عن الواقع الحالي في إدلب، وقبل أسابيع ألمح وزير الخارجية الروسي إلى ضرورة تنفيذ البروتوكول الروسي التركي الموقع في آذار 2020، والذي يقضي بإنشاء منطقة خالية من السلاح على طرفي الطريق الدولي حلب - اللاذقية "إم 4"، لكن خيار بدء عملية عسكرية واسعة يبدو مستبعداً في الوقت الحالي، إذ تؤكد مصادر ميدانية عدم رصد مؤشرات تدل على ذلك، فيما تبقى خيارات ردع الروس ووقف التصعيد أو تخفيض وتيرته رهن إرادة وتنفيذ الفصائل، ومدى قبول تركيا بذلك.