إن قصة الثورة السورية التي قامت ضد الطغيان والاستبداد قصة ملهمة على الرغم من مأساويتها، بيد أن رد فعل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي إزاء جرائم بشار الأسد في الحرب السورية الكارثية أتت مضللة وترتب عليها عواقب كثيرة، إذ عندما نراجع ما حدث خلال العقد الماضي الذي مر بثقله ووطأته المريرة على الشعب السوري وهو يكابد مصيبة إثر مصيبة، ومع تفجر الوضع الراهن في الشرق الأوسط، وفي ظل الانحدار الشديد للنفوذ الأميركي والديمقراطي، تظهر حاجة ملحة لوضع سياسة خارجية أميركية أشد حكمة والتزاماً بالمبادئ، إذ كما حذرت الباحثة سوزان مالوني في عام 2018، يتبين لنا بأن ما يحدث في سوريا لن يبقى في سوريا، وحتى خلال هذه المرحلة المتأخرة، تعتبر مسألة فرض نهج جديد في سوريا والمنطقة فكرة سديدة.
الخراب السوري
إن نجاح الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين مع حزب الله في الإبقاء على النظام السوري الكريه في السلطة بعد حرب لم ترحم أحداً وجرائم ضد الإنسانية لم يعمل العالم على إيقافها تحول إلى سابقة يتردد صداها اليوم في كل مكان. إذ خلال الفظائع التي ارتكبت على وقع المجازر في الغزو الروسي لأوكرانيا وفي الحرب الإسرائيلية على غزة، ثمة أصداء للجرائم الأسدية ما تزال تثقل كاهل السوريين، إذ من المفترض أن العالم الحر انتصر في الحرب الباردة انتصاراً مدوياً، إلا أن روسيا تحت حكم بوتين باتت تحصد ثمار الخراب السوري، وكذلك تفعل أوروبا، وما تزال كل الدول المعادية للديمقراطية والمقاتلين الإسلامويين يستغلون الفوضى واليأس الذي انتشر في سوريا.
التواطؤ الخبيث
في التاريخ السوري، ومنذ أن نزل المتظاهرون السلميون إلى الشوارع مطالبين بحقوقهم الأساسية، فلم يتلقفهم هناك سوى العنف والوحشية التي أبداها النظام القمعي الظالم، يشاهد المرء مدى توق البشر للحرية، وحجم الحماقة وقصر النظر في استرضائهم، ومدى السادية والوحشية التي اتسمت بها الحرب السورية، والتواطؤ الخبيث بين النظام السوري والإيراني والروسي مع دعمهم للقوات المتطرفة في سوريا. وبذلك عرت سوريا العالم الغربي الذي استنزفته نظرية النسبية الأخلاقية وحالة الرضا عن النفس على المستويين العسكري والاستراتيجي، كما كشفت حقيقة الأمم المتحدة التي تناست المبادئ التي وضعها العالم إثر الحرب العالمية الثانية والتي تأسست بموجبها.
رد يعتريه عطب
عندما قامت المظاهرات السلمية الداعية للديمقراطية في مطلع عام 2011، أخذ النظام السوري يعتقل ويعذب مراهقين، ما أدى إلى اتساع رقعة المظاهرات، عندئذ بدأ النظام يطلق النار على المتظاهرين، وفي الوقت الذي أججت فيه وحشية الدولة الثورة، فحمل الثوار السلاح ضدها، استخدم الأسد دباباته ومروحياته وطائراته الحربية، وأخيراً براميله المتفجرة، ثم لجأ إلى سياسة الحصار بغرض تجويع الثوار والمدنيين على حد سواء. وبحلول مطلع عام 2012، أصبحت الحرب السورية حرباً أهلية، فكان رد إدارة أوباما على تصعيد الأسد لجرائمه وفظائعه معطوباً إلى أبعد الحدود، إذ في ردها على المجازر والإخفاء السري، والتعذيب الممنهج، لجأت الإدارة الأميركية إلى مجلس الأمن، مع أنها تعلم بأن أي قرار ذي جدوى قد يصدر عنه يمكن أن يتعرض للعرقلة، كما وقفت الإدارة الأميركية ضد المقترحات الموضوعية التي قدمها الكونغرس وخففت من حدتها، بما أنها كانت تشتمل على فرض عقوبات شديدة على النظام، ثم رفضت طلباً فرنسياً يقضي بإنشاء ممر إنساني، ثم مناشدة تركية لتأسيس منطقة حظر جوي، ثم وافقت على خطة أممية تدعمها روسيا لا تطالب الأسد بالتنحي، أي أنها فشلت في رفع دعوى أخلاقية لصالح الشعب السوري.
اختطاف الثورة السورية
في الوقت الذي دعت فيه الولايات المتحدة والأمم المتحدة بطريقة أخلاقية محايدة لإنهاء العنف، كانت حياة السوريين قد تحولت إلى جحيم، وذلك لأن وهن الولايات المتحدة والأمم المتحدة فتح الباب على مصراعيه أمام الجماعات المتطرفة التي تطمح لاختطاف الثورة السورية أو الذود عن النظام السوري ومن بينها حزب الله التابع لسوريا وإيران، وفيلق القدس الإيراني، والميليشيات المدعومة إيرانياً، وكما هو ديدنها اليوم، حمت إيران الأسد واستغلت الفوضى الحاصلة في المنطقة، وبحلول عام 2014 دخل تنظيم الدولة المعمعة.
استفاد الأسد كثيراً من التطرف الذي اعترى النزاع، كما أن النكسات التي مني بها الثوار المعتدلون إلى جانب فشل الجيش السوري الحر في الحصول على دعم خارجي عزز موقف الأسد وجعله يدعم حكمه القائم على الإرهاب والتخويف، وعلى الرغم من أن الأسد هو من أطلق سراح أغلب قيادات تنظيم الدولة الذين كانوا مسجونين لديه، فإنه بكل مكر ودهاء قدم نفسه على أنه الحصن الذي يقف في وجه التطرف الإسلامي، وبقدر ما اعتبر تنظيم الدولة جزءاً من المعارضة، أعطى ذلك مصداقية لمزاعم الأسد حول ذلك التنظيم الذي ادعى بأن كل من يحاربون النظام ما هم إلا إرهابيون، وبقدر ما حارب تنظيم الدولة الجيش السوري الحر، عجل ذلك بزوال الثوار المعتدلين. ومن المهم أن نذكر هنا بأن قوات النظام ومقاتلي تنظيم الدولة كان يتجنب بعضهم بعضاً في حين ظلوا يستهدفون الجهات الأخرى.
مسايرة أميركا لروسيا
في الوقت الذي ساهمت فيه حالة النفور من الحرب بعد حرب العراق في تجنب فكرة إرسال الجنود الأميركيين إلى سوريا وفي تعميق السلبية التي أبدتها أميركا، سمح التقاعس الذي أبدته الولايات المتحدة وغيرها منه الدول لتنظيم الدولة بإقامة معقل له في سوريا والعراق، وفي ذلك تطور خطير جداً كان بحاجة إلى رد عسكري. وفي الوقت الذي طمحت فيه إدارة أوباما إلى كسب التعاون الإيراني في الملف النووي والإقليمي، عبر اتباع سياسة الرد بالحد الأدنى في سوريا، رأت إيران الضعف بأم عينها، وتصرفت وفقاً لذلك. ومما زاد الطين بلة، مسايرة الولايات المتحدة لروسيا في خطط السلام المزعومة التي تقدمت بها من أجل سوريا خلال مؤتمرات جنيف التي جعلت الأسد يكسب مزيداً من الوقت وقدمت له الغطاء اللازم لمواصلة اعتداءاته. وفي ظل غياب نكسات عسكرية كبرى، لم يعد هنالك أي مبرر للأسد حتى يتنازل، والأنكى من ذلك أن الثوار كانوا على علم بأنهم في حال وضعوا السلاح فإن الأسد سيسحقهم جميعاً.
عودة الشرعية للأسد
في نيسان من عام 2013، قدمت كل من فرنسا وبريطانيا وتركيا أدلة على استخدام النظام السوري لأسلحة كيماوية، ولكن في أيار من العام نفسه، أعلن وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جون كيري، ووزير الخارجية الروسي لافروف عن خططهما الساعية لعقد مؤتمر يقوم على بيان جنيف الذي لم يطالب برحيل الأسد بصورة محددة، في حين دعا لتشكيل حكومة مؤقتة. وفي آب من عام 2013، أطلق الأسد سلاحه الكيماوي على الآلاف من المدنيين في دمشق، في تطور أعلن الرئيس السابق أوباما بأنه خط أحمر يستدعي قصفاً أميركياً، إلا أن روسيا هندست خطة جديدة لتدمير السلاح الكيماوي السوري بحلول عام 2014 بشرط أن تحجم الولايات المتحدة عن ضرب سوريا. ولقد تسبب التحرك الأممي القائم على هذه الاتفاقية بإعادة الشرعية لنظام الأسد وذلك عبر دعوة كلا الطرفين للتسوية كما أكد ذلك عن وجود دور للأسد في المفاوضات المستمرة.
سنحت فرص كثيرة لروسيا بدخول الحرب لصالح الأسد في عام 2015، فشنت غاراتها الجوية على الثوار المعتدلين، وهكذا استطاع الأسد بمساعدة روسيا وإيران وحزب الله استعادة المناطق التي سبق للجيش الحر أن سيطر عليها. ومما زاد الوضع سوءاً القرارات الأميركية التي أعقبت ذلك، إذ في خطوة بعيدة كل البعد عن الحكمة والمبادئ، طالبت إدارة أوباما بوقف الأعمال العدائية، ثم وافقت على إجراء طلعات جوية بالتعاون مع روسيا وذلك لضرب تنظيم الدولة. وجرى تنبيه الثوار من أنهم أنفسهم أصبحوا عرضة للاستهداف إن لم يقطعوا علاقاتهم مع المتطرفين التابعين لجبهة النصرة، بما أن بعضهم قد انحاز إليها مكرهاً، في حين لم تفرض أي شروط على قصف الأسد ومجازره، ولم يطالبه أحد بوقف جرائمه، لذا سرعان ما انهار وقف إطلاق النار المعطوب بشكل لا ينفع معه أي حل، وفي هذه الأثناء، تسبب العنف المدمر والفظائع الشديدة بنزوح الملايين، وهذا ما أدى إلى ظهور أسوأ أزمة إنسانية شهدها العالم.
أوهام أوباما واستجابة ترامب
بيد أن رأي إدارة أوباما بروسيا التي يمكن أن تكون شريكة للولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة، وبإيران التي قد تلعب دوراً بناء في سوريا والعراق، وبقدرة الشعب السوري على التعايش مع النظام الذي تسبب بكل هذا الرعب والألم ما هو إلا محض وهم، وذلك لأن إيران وروسيا تعاونتا ضد المصالح الأميركية وعملتا على دعم الأسد في كل فرصة ومناسبة.
رسم الفريق المعني بوضع السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب نهجاً أفضل في البداية، وذلك عندما فرضت الإدارة الأميركية عقوبات شديدة جديدة على انتهاكات حقوق اإنسان وردت على التحركات العسكرية المحدودة عندما عاودت القوات الموالية للأسد استخدامها للأسلحة الكيماوية، ولهذا هددت الإدارة الأميركية بتدخل عسكري للتحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة، بل ذهب المسؤولون لدى ترامب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أعلنوا بأنه لا يمكن أن يتحقق السلام أو الاستقرار أو العدالة بوجود الأسد في السلطة، كما صرحوا بأن روسيا وإيران تدعمانه في قتله لشعبه، ولكن، اقتصر تركيز ترامب على الخطر الذي يمثله تنظيم الدولة وعلى معركته معها، إلى جانب الاهتمام بكرد سوريا، وذلك حتى يعملوا على إخراج تنظيم الدولة من سوريا والعراق.
الأسد يستفيد من خطة "مناطق خفض التصعيد"
سيطرت روسيا على الأمور من جديد عندما رتبت لأول مؤتمر عقد في أستانا في كانون الثاني من عام 2017، وهناك دعمت مقترحاً يقضي بإقامة مناطق خفض التصعيد تحددها روسيا وإيران وتركيا. ولهذا أعرب المسؤولون في إدارة ترامب عن تشكيكهم بذلك، إلا أنهم سايروا الوضع على الرغم من ظهور مؤشرات خطر، وهكذا ساعد فشل خطة مناطق خفض التصعيد الأسد على تحقيق انتصارات في غربي سوريا، كما ارتفعت حصيلة الضحايا بين صفوف المدنيين إثر قصف القوات الموالية للنظام المناطق التي من المفترض حمايتها، وتعرض من نزحوا هرباً من تنظيم الدولة وقوات النظام والميليشيات الإيرانية لانتهاكات على يد تلك القوات بالتحديد حتى عند محاولتهم العودة إلى بيوتهم.
على الرغم من تحسين الرئيس ترامب للعلاقات مع الدول السنية التي بوسعها أن تقف في وجه إيران وفرضه لعقوبات على الحرس الثوري الإيراني، فشل الرجل في رسم استراتيجية للتعامل مع حالة التواطؤ القائمة بين الأسد وروسيا وإيران واعتداءاتهم الوحشية على الشعب السوري، وعند إعلانه بشكل مفاجئ عن سحب القوات الأميركية من سوريا في كانون الأول من عام 2018، غرد ترامب على تويتر ليقول: "هزمنا تنظيم الدولة في سوريا، وهذا هو السبب الوحيد لوجودنا هناك..." استفادت روسيا وإيران من هذا النهج كثيراً، بل إنه فتح الباب على مصراعيه أمام تركيا لتستهدف القوات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة لدحر تنظيم الدولة، ولذلك صار الكرد يلتفتون لروسيا والأسد طلباً للحماية.
بعد رفض فريق السياسة الخارجية لدى ترامب لهذه الخطة ورفض الكونغرس لها أيضاً، عاد نصف الجنود الأميركيين الموجودين في سوريا والذي كان عددهم وقتئذ 2000 جندي خلال عام. إلا أن ترامب، شأنه في ذلك شأن أوباما، لم يتطرق إلا بالنادر إلى الحديث عن معاناة من يعيشون تحت رحمة الأنظمة التي ترتكب الفظائع، وفي بعض الأحيان فعل كما فعل أوباما أحياناً هو أيضاً، وذلك عندما مضى أبعد من ذلك عبر الإطراء على الشخصيات البغيضة من الديكتاتوريين والحكام المستبدين. وهكذا نجد بأن الشعارات المبسطة مثل "إنهاء الحروب الأبدية" و"أميركا أولاً" تشتمل على إهمال للسوريين وغيرهم من الشعوب المقهورة إلى أبعد الحدود، والأدهى من ذلك هو أن محدودية الأقوال والأفعال التي تأتي رداً على تصعيد الأعمال العدائية والجرائم بهدف تجنب الحرب تزيد من فرص اضطرار الولايات المتحدة في نهاية الأمر إلى دخول الحرب إثر أحداث خارجة عن حدود السيطرة.
المصدر: National Interest