ربما يكون السجن من أقدم الأدوات التي لا تستغني السلطة الحاكمة عنها، حيث يعود تاريخ السجون للألفية الأولى قبل الميلاد، في بلاد الرافدين ومصر كما يرى البعض.
وقد كانت السجون أقبية مظلمة رطبة، يقيد فيها السجين بالسلاسل لزمنٍ طويلٍ، قبيل تنفيذ الحكم القاضي بالقتل أو التعذيب أو العبودية، وتالياً برزت مسألة التغريم كعقوبةٍ أخف، تتيح للسجين العودة إلى المجتمع، دون المس بشخصه وإهانته.
وربما تعد إنكلترا مؤسسة النمط الحديث للسجون، ففي مطلع القرن التاسع عشر
يفسر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو نشأة السجون والمعتقلات، بأنها الشكل البديهي للعقاب في المجتمعات الصناعية.
في إنكلترا، كان الفيلسوف جيرمي بنثام, «1832-1748» من أوائل من نادوا بإلغاء عقوبة الإعدام، والاستعاضة عنها بحبس المجرمين المدانين، كعقاب بديل عن القتل.
وفي كتابه "المراقبة والمعاقبة" يفسر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو نشأة السجون والمعتقلات، بأنها الشكل البديهي للعقاب في المجتمعات الصناعية.
حيث إن فكرة السجن تمثل حيثيةً اقتصاديةً، تعاقب عن المال بالحبس لأشهر أو سنوات.
كذلك فكرة السجن في رأيه، تأتي من كونه آلية لتغيير الأفراد المجرمين أو المدانين، وذلك من خلال فرض نظام قاس وصارم، يخضع له السجناء فيطبع نفوسهم بالانضباط، في كل مناحي وتفاصيل حياتهم اليومية.
علاوة على حالة الندم التي تطبع حياة السجين، المنعزل عن مجتمعه والمتمركز في تفكيره اليومي، حول جرمه الذي أفضى به إلى هذه العقوبة.
مع كل هذا فإن فوكو يؤكد فشل هذه المنظومة العقابية بدليل الوقائع، حيث إن السجون لم تسهم مطلقاً، في تخفيض المعدلات الجرمية وانتشار الجريمة، بل على العكس أصبحت السجون وبشكلٍ عالمي، من أهم المنظومات فاعليةً، في تخريج عتاة المجرمين المنحرفين.
كل ما سبق ذكره يتناول السجن بوصفه موطناً عقابياً، للمجرمين والخارجين عن القانون، أما في الحديث عن المعتقلين السياسيين، فهم في الأغلب شرٌ من المجرمين، حسب تصنيف السلطة الحاكمة، سيما أن هذه السلطة في الغالب كانت تضم بشكلٍ أو بآخر، السلطتين المكانية والزمانية، فيصبح الخروج عليها كفراً يوجب القتل في كثير من الأحيان.
ولما باتت الدولة الحديثة محصورة في السلطة المكانية، ونزعت عنها القداسة ولو شكلياً، كان لا بد للأنظمة القمعية التي تتمحور حول عبادة وتأليه الفرد، من تضخيمٍ مبالغٍ فيه لشخص الحاكم الفرد ومنجزاته، حتى يقارب في علوه صفة الإله، وهذا ما نلمسه في خطاب الأنظمة القمعية.
في البدء يكون القائد، الملهم والمفكر الأول، والفنان الأول، إلى أن يصبح ربكم الأعلى.
على سبيل المثال في سوريا الأسد، تدرج رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، من رتبة ضابطٍ صغيرٍ في الجيش السوري، إلى رتبة القائد في سرايا الدفاع، إلى القائد الرب، حيث كان يشار إليه في بعض قطعاته العسكرية باسم الرب.
ولما عنف آصف شوكت أحد المسرحيين السوريين، حول تبسطه بالحديث عن شخص
عصابات بشار الأسد، كانت وما تزال تكرر خلال تعذيبها للمعتقلين المدنيين، "بشار الأسد ربكم".
الرئيس المفدّى، خاطبه بعبارته المعروفة، عن حافظ الأسد (هذا الله، حدا بيسأل الله عن علاقته بزوجته).
وعلى نفس المنوال، فإن عصابات بشار الأسد، كانت وما تزال تكرر خلال تعذيبها للمعتقلين المدنيين، "بشار الأسد ربكم".
أما في مصر السيسي، فإن فقهاء السلطان ومثقفيه، ما يزالون يؤكدون أنه رسول من عند الله، وتجلٍ للفيض الإلهي على الشعب المصري.
كل هذا أفضى لابتكار آليات مراوغة، تحكم من قبضة السلطة على مخالفيها، باتهامهم بالسعي للتخريب وإثارة الفتنة والخيانة والعمالة.
وحين تضيق بالشعوب المقهورة والمنهوبة السبل، يصبح صوتها اليومي وصمتها، شكلاً من أشكال التبرم والرفض، وريحاً تنذر بهبوب العاصفة، فإن السلطة القمعية تعمد إلى خلق أزماتٍ، تحسن إدارتها والسيطرة عليها، ليتم من خلالها زج المجتمع برمته في سجنٍ جماعيٍ، أسواره وسياطه أحكامٌ عرفية، جوهرها محاربة الإرهاب والتكفيريين، والخونة والعملاء.
في عام 1982 في ساحة من ساحات تدمر، وبعد جولةٍ داميةٍ من التعذيب، في الساحة السادسة وهي الساحة الأكبر في سجن تدمر، حيث تنفذ أسبوعياً عمليات الإعدام الجماعية، تم إخراج المعتقلين من مهاجعهم، ووقف الجلاد الأكبر مدير السجن الحربي فيصل غانم، وهو أحد رجالات رفعت الأسد، ليخطب في السجناء بصفته قائدهم، وبصفتهم مرؤوسيه، وحين سُمح لبعض المعتقلين بالكلام، انبرا أحدهم ليعرض على سيادته، فكرة وضع المعتقلين على خط الجبهة مع العدو الصهيوني، ليكونوا درعاً للوطن بدلاً من وجودهم في ساحات التعذيب هذه، أطرق القائد البعثيُّ ملياً وقد أربكه هذا الطلب، ثم ما لبس أن تهلل وجهه وطفق يشرح، أن القيادة الحكيمة، وحدها هي من تقدر الموقف، وتضع كل إنسانٍ في مكانه الأمثل، ليختم حديثه بجملته الذهبية، التي تُجمل فلسفة الحكم في سوريا، على مدى خمسين سنة، (القيادة تضعك في موقعك الصحيح، موقعك في المعركة سجين).