يقول عبد القادر الأنصاري الجزيري: "وقد ألّف فيها من أهل العصر بمكة والقاهرة والشام مؤلفات منهم من سلك منهج الصواب، المجرّد من الهوى بُغض وحب ظهور، وأطنب الشعراء في مدحها وحلّها نظماً على اختلاف القوافي والروى".
تتميز القهوة عن غيرها من المشروبات بتاريخ ثقافي في العالم العربي/ الإسلامي لا يمكن أن نجد له مثيلاً في الشاي أو (المتّة) أو غيرها من المشروبات الأخرى التي جاءت من مواطنها الأصلية إلى المنطقة العربية.
وربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان تشرب فيها وراء هذا الاختلاف الواسع في الموقف من القهوة والجدال الكبير الذي حصل بسببها والذي قسّم الفقهاء خلال عدّة قرون بما أدّى إلى تراكم نتاج فقهي/ أدبي يستحقّ الدراسة.
دمشق وبدايات القهوة
يروي لنا المؤرخ الدمشقي ابن طولون (ت942هـ-1545م) أول معلومة عن شرب القهوة في دمشق بمناسبة زيارة قاضي مكة وشيخ الحرم ابن الضياء (ت942ه-1534م) لدمشق فيها فترة من الزمن. فقد ذكر ابن طولون أن ابن الضياء ذهب عند الشيخ علي الكيزواني لسماع المولد النبوي وشرب مع الجماعة "القهوة المتّخذة من البن"، ويعلق على ذلك بالقول: "ولا أعلم أنها شربت في بلدنا قبل ذلك".
والأهم من هذا حديث ابن طولون عن الشيخ علي بن محمد بن عراق نفسه، الذي جاء دمشق أيضاً سنة (947هـ/1539م)، وأشهر شرب القهوة فاقتدى به الناس وكثرت حوانيتها في ذلك الوقت. ومن ناحية أخرى، فقد جاء دمشق في ذلك الوقت العالم المكي ابن أبي كثير (ت950هـ-1542م) حيث أقام مدة فيها تصاحب خلالها مع العالم الدمشقي أبو الفتح المالكي، وكان ابن أبي كثير من أنصار القهوة وممن أبدعوا في أشعارها، فابن العماد يذكر أن له شعراً حسناً منه الموشح المشهور في القهوة الذي مطلعه:
"قهوة البن مـــــرهم الحـــزن وشـــــفا الأنفــــسِ فهي تكسو شقائق الحسن من لها يحتسي"
تحريم القهوة!
وذكر الغزي أنه وبالمقابل ظهر بعض العلماء المعارضين للقهوة كالشيخ يونس العيثاوي الذي منعها بشكل رسمي، فقد جاء دمشق قاضياً في مطلع سنة (953هـ-1545م) الشيخ محمد عبد الأول الحسيني الذي انضم إلى العيثاوي في تحريم القهوة، لذلك فقد نادى بإبطالها في يوم الأحد المصادف السابع من ربيع الأول عام (953ه1545م)، ولم يكتف القاضي الحسيني بذلك بل إنه عرض الأمر بإبطالها على السلطان سليمان القانوني، فورد أمره بإبطالها في شوال من سنة (953هـ-1546م).
ولكن كل هذا لم يمنع بعض العلماء من التعبير عن تأييدهم للقهوة كالشيخ أبو الفتح المالكي الذي يصفه الغزي بأنه كان مغالياً في نصرة القهوة، فلم يقصر في شعره بحق الشيخ العيثاوي الذي كان يحرم القهوة، قائلاً:
"أنــــــــــا الفتى بمقتضى الظاهر إنــــــها مغنم ليت شعري من أين للماهر أنها تحرّم؟".
ويذكر البوريني المعاصر لهما (ت1024هـ-1615م) أن المالكي كانت له في القهوة مواقف ومشاهد مع شيخ الإسلام يونس العيثاوي، فحصل بينهما شقاق طويل، حيث اجتمعا مرة عند قاضي الشام علي أفندي وتناقشا فيما يتعلق بالقهوة وذكر كل منهما دليله، فغلب الشيخ المالكي على الشيخ يونس الذي لم تكن أدلة التحريم مقنعة لديه؛ وقد تصاعد الخلاف بين العالمين السابقين في عهد الوالي الجديد لدمشق "لالا مصطفى باشا" الذي بقي في دمشق خمس سنوات(971-976هـ)، وكان هذا الوالي كما يصفه الغزي "غشوماً سفاكاً ومع ذلك يحترم العلماء ويعظّمهم".
ويبدو أن لالا مصطفى باشا كان من أنصار القهوة، ولذلك امتدحه الشيخ أبو الفتح المالكي حين أنجز بناء الحمام الجديد في دمشق، بينما كان يتعرض له الشيخ يونس العيثاوي.
يذكر الغزي أن الوالي صلّى مرة الجمعة في الجامع الجديد خلف الشيخ العيثاوي مع الدفتردار والأغوات فتعرض العيثاوي للظلم وتحريم القهوة، فغضب لذلك الوالي وعقد مجلساً للعيثاوي دعا إليه خصمه أبو الفتح المالكي، إلا أن القاضي أنصف الشيخ العيثاوي مع أنه لم يكن راضياً عنه بسبب تعرضه له وللباشا[1].
القهوة كموضوع فقهي وأدبي وسياسي!
مع وفاة العيثاوي سنة (976ه/1568م) رجحت كفة المؤيدين للقهوة في دمشق وبلاد الشام، إذ أخذت تنتشر بيوت القهوة في نهاية القرن العاشر الهجري بفضل الأوقاف الجديد التي عرفتها دمشق حينئذٍ. ونظراً لتصادف وصول القهوة وانتشارها في دمشق مع دخول الدولة العثمانية إلى بلاد الشام، فقد أصبحت القهوة قضية عثمانية وإسلامية عامة وليست قضية محلية تقتصر على مدينة دمشق وحدها. لقد اختلف العلماء في دمشق حول القهوة مما جعلها موضوعاً فقهياً وأدبياً وسياسياً لقرنين من الزمن. فقد دفع هذا الخلاف إلى تأليف رسائل مختلفة، سواء مع القهوة أو ضدها، بالإضافة إلى أن هذا المشروب أثار قريحة الشعراء المناصرين والمعارضين لها، وصل الأمر أخيراً إلى السلطان العثماني كما رأينا سابقاً، ما جعل الأمر يتعلق بالدولة العثمانية ككل.
قهوة الدمشقيين بين التحريم والسماح
يبدو أن الأمر السلطاني بتحريم القهوة قد استند إلى فتوى من فتاوى شيخ الإسلام، والذي كان يمثل المرجعية الإسلامية العليا، وكان السلطان يلجأ إلى فتوى منه قبل اتخاذ أي قرار مهم. وفي ذلك الحين كان يتولى مشيخة الإسلام العالم أبو السعود أفندي والذي بقي يشغل هذا المنصب طوال سنوات (953-982هـ).
ومع أن أبو السعود عرف كعالم متنور فإن موضوع القهوة عُرض عليه بشكل متحيز، يخبرنا الغزي بأنه سُئل عن شرب القهوة بعدما قرر له اجتماع "الفسقة" على شربها، فأجاب بقوله: "ما أكبّ أهل الفجور على تعاطيه فينبغي أن يتجنبه من يخشى الله ويتقيه".
ويبين الجدول الآتي التاريخ الزمني للنزاع بين تحليل وتحريم القهوة في مدينة دمشق، والذي بدأ مع علي بن العراق سنة 947هـ/1540م وانتهى بعصر سنان باشا سنة 995هـ/1587م:
انتشار القهوة |
المدينة |
الهجري |
الميلادي |
أشهرها في دمشق الشيخ علي بن محمد بن عراق |
دمشق |
947هـ |
1540م |
حرّمها الشيخ يونس العيثاوي ومنعها بشكل رسمي |
دمشق |
953هـ |
1545م |
مرسوم من السلطان سليمان القانوني يقضي بإبطالها |
إستانبول |
953هـ |
1546م |
السماح بشرب القهوة في عهد والي دمشق مصطفى لالا باشا |
دمشق |
972هـ |
1564م |
معارضة للقهوة في عهد الوالي العثماني سنان باشا |
دمشق |
995هـ |
1587م |
المصادر والمراجع:
- عبد القادر الجزيري، عمدة الصفوة في حل القهوة، تحقيق: عبد الله بن محمد الحبشي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2007
- نجم الدين الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، تحقيق: جبرائيل جبور، دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، 1979
- شهاب الدين الحنبلي الدمشقي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، سورية
- الحسن بن محمد البوريني، تراجم الأعيان من أبناء الزمان، تحقيق: صلاح الدين المنجد، مطبوعات المجمع العلمي العربي، دمشق، سورية، 1959