أعلن مهربو البشر في لبنان عن قرب انطلاق قوارب المهاجرين المتجهة إلى إيطاليا بعد انتهاء شهر رمضان، إذ من خلال مقابلات أجريت لصالح مشروع بحثي كبير عن التهريب، كشف مهربو المهاجرين في بيروت وطرابلس بأن نحو ألفي شخص دفعوا لهم عربوناً ليحجزوا مكاناً لهم على تلك القوارب.
وحول ذلك يخبرنا محمد أ. وهو سائق سيارة أجرة لبناني عمره 42 عاماً يعيش في شمال لبنان بأنه التقى بمهرب قبل شهر، وهو اليوم يعد الأيام حتى يأتي موعد الرحيل، إذ دفع مبلغ ألفي دولار كدفعة مقدمة ليحجز مكاناً له ولزوجته ولولديه الصغار، بيد أن السعر الكامل لأربعتهم يعادل عشرة آلاف دولار، ويعلق محمد على ذلك بقوله: "سنستدين المبلغ، وسنبيع السيارة وكل ما لدينا حتى خاتم الزواج الذي تملكه زوجتي"، إذ برأيه تحمل مشاق رحلة خطرة يصل في نهايتها إلى أوروبا أفضل من العيش على الكفاف في لبنان.
التهريب من لبنان.. طريق جديد محفوف بالمخاطر
في عام 2022، حذرت مفوضية اللاجئين من تضاعف أعداد المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من لبنان عبر قطع البحر المتوسط من جهة الشمال، وذلك للسنة الثانية على التوالي، إلا أن هذا الطريق الذي بات رائجاً اليوم يعتبر طريقاً جديداً بالنسبة للتهريب، فقد كانت قبرص تأتي في أدنى مراتب وجهات استقطاب المهاجرين مقارنة بأوروبا الغربية، كما أن الطرق البحرية التي تصل بين لبنان وإيطاليا أو اليونان تعتبر طويلة وخطيرة جداً.
ولكن خلال السنوات الخمس الماضية، أصبح الوضع في لبنان تعيساً، ولهذا أضحى الطلب على التهريب كبيراً من قبل أشخاص سئموا العيش في لبنان فقرروا الرحيل عنه، سواء أكانوا مواطنين لبنانيين أم غيرهم، إذ يخبرنا أبو حسين وهو مهرب لبناني من بيروت: "نحو 75% من الأشخاص الذين يتواصلون معي للسؤال عن إمكانية حجز مكان لهم على قارب التهريب لبنانيون، أما في السابق فكان الأمر يقتصر على السوريين والفلسطينيين".
الخيار الوحيد
نظراً لعدم الاستقرار على الصعيد السياسي، ولتردي المنظومة الصحية في البلد، وللصدمة التي أصابت اللبنانيين بعد انفجار مرفأ بيروت في آب من عام 2020، أصبح لبنان يرزح تحت وطأة أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ الحديث، فقد هبطت قيمة الليرة اللبنانية لتسجل رقماً قياسياً حيث أصبح الدولار الواحد يعادل 100 ألف ليرة مع بداية شهر آذار 2023.
يستضيف لبنان أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة لعدد السكان في العالم، إذ يؤوي مليوناً ونصف المليون سوري و490 ألف لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الأمم المتحدة، ويعيش هؤلاء وسط 5.5 ملايين لبناني، ومع اضمحلال قيمة الرواتب وبدل التقاعد بسبب التضخم، حذرت الأمم المتحدة من أن أربعة من بين كل خمسة أشخاص في لبنان أصبحوا يعيشون الآن تحت خط الفقر، ويستوي في ذلك المواطنون اللبنانيون واللاجئون.
لا خيارات أفضل من ركوب البحر
تقل الخيارات أمام من لم يعد بوسعهم تحمل تكاليف العيش في ظل تلك الظروف التي ألمت بلبنان، إلا أن هذه الدولة لا تشترك بحدود إلا مع سوريا، والتي مايزال الوضع فيها خطيراً، وكذلك مع إسرائيل، التي تعتبر في حرب مع لبنان، وأخيراً مع البحر المتوسط.
وحول ذلك يعلق المهرب اللبناني أبو يزن المقيم في طرابلس: "نحن خيارهم الوحيد إن رغبوا بالرحيل"، وهو لا يبالغ بذلك عندما يتحدث عن الرحلات المتوجهة إلى أوروبا، بل تلك هي حقيقة تجارة التهريب، نظراً لعدم وجود طريقة أخرى صالحة للسفر إلى أوروبا بطريقة شرعية أمام غالبية الناس في لبنان، ولهذا فإن من يرغب بالسفر إلى هناك يتعين عليه أن يتفق مع مهربي بشر.
يعلق أبو يزن على ذلك بقوله: "من السهل علينا العثور على زبائن بما أن الجميع تقريباً يحلم بمغادرة لبنان، ولهذا لا حاجة لأعلن عبر الشابكة، لأن الزبائن يصلون إلي عبر الدعاية الشفهية، حيث يتم إرسال أشخاص إلينا عن طريق أشخاص سبق أن خاضوا تلك الرحلة معنا".
في الوقت الذي تعتبر فيه قبرص أقرب وجهة للمهاجرين المغادرين من لبنان، يتم التأسيس لطرق جديدة تدفع الناس لقطع ألف ميل في البحر حتى يصلوا إلى إيطاليا مباشرة، وتعادل تلك المسافة خمسة أضعاف المسافة الفاصلة بين ليبيا وإيطاليا، وهذا ما دفع أبا حسين ليقول: "80% من القوارب التي نجهزها ستتوجه إلى إيطاليا، في حين سيتوجه 20% منها إلى قبرص".
كان أبو يزن يبيع الأجهزة الإلكترونية في بيروت، وقد حاول في وقت من الأوقات أن يوظف لديه أحد الأشخاص، لكنه أصبح يعمل في التهريب اليوم، ويخبرنا بأنه يكسب نحو 45 ألف دولار بالسنة بما أنه يربح نحو 25% من كل مهاجر، ويقول: "أحاول أن أقوم بعملي على أكمل وجه، كما أنني أتضامن مع معظم الناس لاسيما هؤلاء الذين خسروا كل شيء بسبب الأزمة، فأصبحوا مديونين أو تعين عليهم بيع ممتلكاتهم، ولهذا يأملون بالبدء من جديد من الصفر".
أما أبو حسين فيقول: "تصلنا اليوم طلبات لأسر بأكملها أو من قبل قاصرين يرغبون بالسفر وحدهم، وهم بالعادة فتيان تتراوح أعمارهم ما بين 15-17 عاماً"، إذ يتم إرسال القاصرين في بعض الأحيان قبل ذويهم على أمل تقديم لم شمل لأسرهم حال وصولهم إلى أوروبا، وبذلك يمكنهم استقدام بقية أفراد الأسرة بطريقة آمنة.
الشرطة والفساد وصد الناس
أكد المهربون بأن دوريات الشرطة تعرض القوارب للخطر إلا أنهم متأكدون من أن القوارب لابد وأن تصل إلى وجهتها، إذ يقول أبو حسين: "إن الشرطة اللبنانية مشغولة جداً بالأزمة الاقتصادية والمشكلات الداخلية للبنان، ولهذا لم يعد لديها وقت ولا قدرة على ضبط البحر"، ثم إن هنالك طرقاً عديدة للتغلب على العقبات، ولهذا يخبرنا المهربون بأن فرق السعر كبير بين الرحلات التي يكون نجاحها مضموناً بفضل الرشا التي تمنح لخفر السواحل اللبناني وبين الرحلات التي لا تدفع فيها تلك الرشا.
اقرأ أيضا: ما مصير الناجين من "مركب طرطوس" المعتقلين لدى النظام السوري؟
ويعلق أبو يزن على ذلك بقوله: "تعتبر الشرطة القبرصية أكبر مشكلة بالنسبة للمهاجرين، وذلك لأنهم عندما يقومون بإعادة القوارب يصبح الوضع خطيراً" فقد اتهمت قبرص بتنفيذ عمليات صد بحق قوارب المهاجرين منذ عام 2020.
قد يتعرض المهاجرون للاعتقال في حال عودتهم إلى لبنان، كما يتم فتح تحقيق في أغلب الأحيان بحثاً عن المهربين، على الرغم من أن السلطات اللبنانية تعرف أنه من النادر لمهرب أن يظهر على متن أحد المراكب إلا في حالات نادرة، وثمة بعض الحالات التي تم توثيقها والتي تعرض فيها لاجئون سوريين للترحيل إلى سوريا عقب عودتهم إلى لبنان، كما تقدر الأمم المتحدة بأن نحو 75% من القوارب التي تتجه إلى قبرص يتم اعتراضها وإعادتها إلى لبنان.
يعتبر الموت غرقاً أكبر خطر يهدد حياة من يحاولون مغادرة لبنان، إذ في أيلول من عام 2022، غرق نحو 90 شخصاً قبالة الساحل السوري عقب مغادرتهم لشمالي لبنان، وفي كانون الثاني 2023، أنقذت البحرية اللبنانية 200 شخص إثر غرق قاربهم.
وعلى الرغم من نسبة المخاطر المرتفعة التي تحيق بتلك الرحلات البحرية الطويلة، إلا أن الناس مايزالون يحاولون الخروج من لبنان بوساطتها، وذلك لأن استمرار الأزمة الاقتصادية والسياسية قضى على ما تبقى لدى الناس من ثقة بأن الأمور لابد وأن تتحسن، ولهذا تتزايد أعداد من يبحثون عن طريقة للخروج من ذلك البلد.
إلا أن زيادة أعداد قوارب الهجرة التي تبحر من لبنان ما هي إلا قرعة على ناقوس الخطر، لأن ذلك لابد أن يحمل المزيد من حطام المراكب التي ستغرق في البحر المتوسط خلال الأشهر المقبلة.
المصدر: Open Democracy