البث المباشر
"مازالت في مخيلتي تلك التفاصيل بين حاراتها القديمة وأزقتها وحجارة بيوتها".. بهذه العبارات يستذكر الشاب "سليمان جمعة" مدينته دمشق التي هُجّر منها قسراً على يد النظام السوري، بعد أن كانت له لمساته وبصمته في بيوتها العتيقة "فناناً ومرمّما".
تلك اﻷشواق والحنين ترجمها العاشق الدمشقي "سليمان" وطوّرها من حيز الفكرة إلى أرض الواقع في شمالي سوريا، إذ يروي لموقع تلفزيون سوريا بإسهاب حول عمله بحوارٍ أقرب ما يكون إلى لغة الفن التي تنقلك عبر مساحاتٍ واسعةٍ تطوف بك على دهاليز البيوت الدمشقية من خلال صناعة المجسمات أو "المصغرات".
صانع الذكريات
بدأ "سليمان" حديثه بمقدمةٍ عن تاريخه في دمشق، ويقول: "عملت سابقاً بجميع أنواع الديكورات الخشبية، وتخصّصت بترميم البيوت الدمشقية القديمة، إذ ﻻ تزال مخيلتي ممتلئةً بالذكريات، التي أحاول صناعتها مجدداً اليوم، ﻻ سيما أنني أحد الذين غاصوا في ترميم أبرز معالم مدينة دمشق الأثرية منها "قصر العظم، والمدرسة العادلية الكبرى، والمكتبة الظاهرية، ومتحف الخط العربي، ومتحف الطب والعلوم".
ويوضح في حديثه مع تلفزيون سوريا أن فكرة الترميم التي أمضى حياته بها، هي إحياء أي تآكل واهتراء أو فقدان معالم البيوت القديمة والأثرية عبر مرور الزمن الذي مرّ على دمشق، كالحرائق والزلازل والعوامل الجوية.
البداية من الحنين
ومن حنينه وذكرياته بعد تهجيره القسري من حي جوبر في الغوطة الشرقية لدمشق في العام 2018 قرّر "سليمان" بعد أشهر من تهجيره أن يخوض رحلة جديدة لصناعة مجسمات تعيده إلى ذكرياته بين حارات دمشق القديمة وأزقتها وحجارة بيوتها.
يقول المهجر الدمشقي البالغ من العمر 47 عاماً لموقع تلفزيون سوريا إن صناعة المجسمات لمدينة دمشق وبيوتها القديمة تحوّلت من إطار الذكريات والفكرة لتأخذ مكانها مع عناية بأبسط التفاصيل التي احتفظت بها في ذاكرتي على مدار السنوات قبيل التهجير، ولذلك بدأت بصنع مجسمات، تشابه تماماً تلك التي عملت بها مسبقاً، واعتنيت بأدق تفاصيلها.
وتابع: كان لي في كل ركنٍ منها ذكرى لا أنساها، فكل قطعة وضعتها في أثناء عملي في صناعة المجسمات تُعيدني إلى الماضي الجميل، وخاصّة أنني استذكر اليوم المعاناة التي أعيشها في غربتي شمالي سوريا.
ويؤكد سليمان أنّه خصّص ركناً صغيراً للعمل داخل منزله في عفرين شمالي حلب، ويقول: "منذ سنوات أثابر في صناعة المجسمات، وبشكل يومي أضع أحجاراً جديدة في المجسّم الذي أعدّه، فلقد بات هذا الركن راحة نفسية وملجأً لروحي من مشقة التهجير وصعوبة العيش في هذه الأزمات".
يستعين سليمان بأدوات ومواد بسيطة لإنجاز مجسماته الصغيرة الغارقة في التفاصيل المحبوكة ببراعة عالية لتكون نسخة طبق الأصل لأي جسم آخر في مخيلته كألوان الحجارة والنافورة والكرسي، وفق قوله، مشيراً إلى أن شغفه أيضاً في الرسم ساعده في صقل حرفته في صناعة المجسمات التي يراها اليوم بأنها أخذت بالتطور بفعل الممارسة.
ويلفت إلى أن عمله أساسه الدقة والتحلي بالصبر، لا سيّما تلك التي تحتاج نقشاً وزخرفة دقيقة، كما أن موهبته تتطلب مواد ناعمة بسيطة كـ"الخشب والمعادن والحبال والقماش والألوان والحجارة".
مشاركات ومعارض
شغف "سليمان" بأن يرى العالم مدينته كما يراها هو بعينه، دفعه للمشاركة في بعض المعارض، وحول هذا اﻷمر يقول: "لم تكن تلك الهواية أو الحرفة تقتصر علي أنا فقط، بل أحببت أن يرى العالم بأجمعه، بالإضافة إلى أبنائنا والأجيال القادمة، الحضارة الدمشقية وتراثها التي غابت عن كثير منهم واقتصرت على ما عُرض في المسلسلات الشامية فقط.
ويُشير إلى أنه شارك في العديد من المعارض في مدينة عفرين، كما أنه أجرى لقاءات صحفية عديدة، مؤكداً أن مجسماته لاقت إقبالاً مميزا من جميع فئات المجتمع لجمالها ودقة تفاصيلها.
ويقف سليمان قليلاً ويقول: منذ أسابيع أعمل على مجسمٍ لـ"غزة الجريحة" كما وصفها، فهو قيد الإنشاء ولم أنتهِ بعد.
نماذج ومجسمات دمشقية
وحول المجسمات التي صنعها سليمان يقول لموقع تلفزيون سوريا أن أول مجسمٍ صنعه كان عبارة عن منزل قديم من بيوت دمشق القديمة ويسمى "بيت العقاد الإسطنبولي"، يعود بناء المنزل للقرن 18 وتم ترميمه في العام 1995".
ويُعرف سليمان عن المنزل ويقول؛ بأنه كان عبارة عن مدرسة، ويتألف من 32 غرفة، وبسبب تهدم بعض الغرف بداخله، أصبح خطراً على الطلاب والمدرسين أن يشغلوه، وبقي فارغاً نحو 50 سنة، ثم رممته "المديرية العامة للآثار والمتاحف" وتم استثماره من طرف السفارة الدنماركية وأصبح يشغله المركز الثقافي الدنماركي".
ويستطرد سليمان قائلاً: وأمّا المجسم الثاني فقد كان للمدرسة العدلية الكبرى بدمشق، وهو معلم تاريخي كبير وأثري، فهي مكتبة كانت تضم مخطوطات أثرية قديمة، مدفون فيها الملك العادل شقيق صلاح الدين اﻷيوبي.
ويؤكد أيضاً أنه عمل على صناعة لوحات جدارية والتي تجسدت من مقاطعٍ من بيت أو من شارع، ومنها لوحات جدارية جسّدت أزقة دمشقية قديمة.
ما العقبات؟
وعن المصاعب والتحديات، أوضح أن أبرز العقبات التي واجهته في أثناء عمله في شمالي سوريا، تمثّلت في غلاء المواد وتكلفتها مع دخله الشهري المتواضع، على حد وصفه.
وتمنى سليمان في ختام حديثه، أن ينمو هذا المشروع وأن يكون يمتلك ورشة خاصة في شمالي سوريا لصناعة المجسمات، وتوفير كامل الأدوات المستخدمة وأن تكون له مصدر رزق في هذه الأيام الصعبة.
وتُعَدّ صناعة المجسمات المصغّرة أحد الفنون التشكيلية التي ترتبط بملكتي الإبداع والصبر، إذ تعتمد على بناء مجسمات صغيرة جداً تحاكي واقعاً ملموساً أو تخلق واقعاً خيالياً، من خلال الاعتماد على تجسيد الأشخاص والحيوانات والجماد، ليتمّ إعادة صياغتها في صورة أصغر بكثير من حجمها الطبيعي، وفق قياسات محددة ومواد بسيطة.
