ربما من أكثر الجدليات التي تشتعل فيها الخصومة وتستدعى الآراء حولها قديمًا وحديثًا، تتمثّل في مفهوم "العروبة"؛ أهي هوية تتجاوز العرق إلى محدد ثقافي واسع ومرن، يرتبط باللسان واللغة والمنتوج العلمي والأدبي في إطارها؟ أم هي عرق مرتبط بالتقسيم السائد ما بين "عرب عاربة قحطانية ومستعربة عدنانية" وأخرى بائدة؟ وبين هذا وذاك يطرح نمط الحياة كمحدد لمصطلح العروبة.
وبطبيعة الحال مع كل أزمة تمر بها الأمة يستدعى هذا الصراع الجدلي ليأخذ أشكالا جديدة ويدعّم بأطروحات مبتدعة ليس لها سند ولا أصل، لتحديد معنى العربي ومن الذي يستحق هذا الوصف.
ولسنا بوارد مناقشة مصطلح العربي لتغليب رأي على آخر، وإنما للوقوف على أسباب استدعاء هذه الجدلية في ظل هذه الظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلدان العربية، وما الهدف من طرحها ولا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي حيث تعج بالمراهقين والشباب المتحمسين، إذ ينعت طرف طرفًا آخر بالمستعرب ويرد الثاني بأنك أعرابي ولست عربيًا وما إلى ذلك في مضمار هذه الخصومة.
قرن ما قبل الربيع العربي
ربما كان من أهم أسباب وممهدات الحرب العالمية الأولى ما عرف بعصر القوميات، أو النزعات العرقية التي سادت روسيا وأوروبا وجغرافيا الدولة العثمانية، وبطبيعة الحال كان العرب جزءًا من هذا العصر، فنشطت النزعة القومية العربية بشكل كبير على يد كتاب وأدباء ومنظرين لم ينظر إلى عرقهم بل إلى لسانهم ولعل الكثير منهم من أعراق ليست عربية، فتبلور بشكل شبه تام مفهوم العربية بالاستناد إلى اللغة، وظل هذا المفهوم سائدًا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية وتقسيم البلدان العربية ووقوعها في قبضة الاستعمار، حيث نشأت في فترة وجوده أحزاب ذات طابع قومي مهدت للسيطرة على قرار كثير من البلدان العربية بعد الاستقلال كما هو الحال في الأحزاب الناصرية وحزب البعث... وهلم جرّا.
إن حصر العرب في منطقة الخليج العربي يتزامن مع طروحات أخرى تتناول بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب وتروج بأن "ملكية" هذه البلاد تعود للسريان والآشوريين والكلدان والكرد والفراعنة والأمازيغ...
تلك الأحزاب تحمل نزعة عربية بالمفهوم الأيديولوجي والتنظيري، وعند ضفة قريبة حيث بلدان الخليج العربي التي كان لها ظرف سياسي واجتماعي يختلف عن باقي الدول تقريبًا كانت العربية بمفهومها السائد من حيث العرق والنسبة القبلية واللسان. ولخصومة سياسية كانت ترشح بين المتأثرين بالفكر الناصري والبعثي وبين شعوب الخليج العربي خصومات ثقافية، حيث تنعت شعوب الخليج بالأعراب والبدو على صيغة التحقير والازدراء فيردون على الناعتين بالمستعربين وبقايا المستعمر وما إلى ذلك، إلا أن علو الحالة الثقافية والاستقرار السياسي حينها لم تسمح لهذه المراشقات بالتطور إلى خلافات عميقة.
ما بعد الربيع العربي
واكبت فترة الربيع العربي ثورة في وسائل التواصل الاجتماعي وأخرج سيلها إلى السطح كل ما كان مكنونا من زبد فكري وأزمات مجتمعية ومعرفية بفعل انكسار سلطة الرقابة بكل مستوياتها، فأصبحت وسائل التواصل مرتعا لصراعات ثقافية ودينية يخوض بها كل من هب ودب معتمدا على قراءة ضحلة بعيدة عن البحث المنهجي والقاعدة المعرفية، ومن الموضوعات التي تم الخوض بها هو مصطلح العروبة والعربية وما يتعلق بهما، ومدار ذلك على جعل منطقة الخليج العربي هي الموطن الحالي للعرب وخارج خدودها عبارة عن مستعربين وبقايا استعمار وكأن العرب الذين يعدون من أكثر الأمم بنسبة الولادات وانتشروا من الصين إلى المحيط الأطلسي مع مجيء الإسلام لا يتعدون حاليًا 30 مليون نسمة، وهم سكان دول الخليج العربي، بل وصلت المجازفة بالبعض إلى سلخ كل فضيلة لبلاد الشام على سبيل المثال واعتبار الشام المقصودة في الأحاديث النبوية هي ما كان شمالي الكعبة حتى حدود محافظة تبوك رغم أن الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تتحدث عن فضل الشام تذكر مدينة دمشق والغوطة وبصرى الشام...
***
هذه الدعاوى لم تعد مجرد طروحات جانبية لا يلتفت إليها بل أصبحت تطرح بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، وشكلت ردود أفعال خطيرة وصلت إلى حد المعاداة بين شعوب بلاد الخليج والشعوب الأخرى، إذ أنه من المعلوم أن رواد هذه المواقع أكثرهم من فئة الشباب والمراهقين وهؤلاء الأكثر تلقيًا وتأثرًا بما يطرح ويتصرفون مع المادة المطروحة بشيء من الحماس والحساسية الزائدة دون انتباه لما تتركه هذه المناكفات من آثار سلبية حصدنا الثمار المرة لمثيلاتها منذ أكثر من مئة عام في فترة عصر القوميات.
إن حصر العرب في منطقة الخليج العربي يتزامن مع طروحات أخرى تتناول بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب، وتروج بأن "ملكية" هذه البلاد تعود للسريان والآشوريين والكلدان والكرد والفراعنة والأمازيغ... وأن الشعوب العربية الموجودة في هذه البلدان قدمت حديثًا من شبه الجزيرة العربية أو مدعية النسب، وعليه لا حق للعرب بها.
على سبيل المثال، المنطقة المسماة بـ "شرق الفرات" في سوريا، والواقعة تحت سيطرة ما يُعرف بـ "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)؛ تسكنها عشائر عربية ضاربة الجذور في المنطقة لحقبة تسبق الإسلام فضلًا عمّن استقر بها مع الفتوحات الإسلامية. وهنا تعمل بعض الفرق المنضوية تحت حماية قسد و"إدارتها الذاتية" على الطعن بنسب هذه القبائل والادعاء بأنها طارئة على المنطقة حتى يتم "تكريدها" على أساس عصبوي/ قومي ضمن مشروع انفصال بعيد المدى. فمن مصلحة تلك الفئة المتعصبة من أبناء المكوّن الكردي السوري، أن تروج لفكرة حصر العرب في منطقة الخليج العربي.
الأمر ذاته يجري في العراق، ولكن من قبل أصحاب المشروع الإيراني القائم على التعصب "القومي/ الفارسي" و "الطائفي/ الشيعي"، الذين يدعمون نظرية حصر العرب، والمسلمين "السنّة" أيضًا، في منطقة الخليج العربي بهدف ربط العراق بإيران.
وبوتيرة أقل نسبيًا، يروّج بعض العصبويين في مصر اليوم للانتساب إلى الفراعنة والأقباط، وفي لبنان إلى الفينيقيين، وفي ودول المغرب العربي إلى الأمازيع. وعلى هذا المنوال يُعاد تدوير نظريات ابتدعها مستشرقون ومستعمرون بغية تمزيق وتفريق المجتمعات العربية، وتفتيت ما بقي عامرًا فيها على المستوى الاجتماعي والفكري والثقافي.
العروبة سواء كانت عرقًا أو لسانًا أو نمط حياة، أو شعوراً حتى، فرضت وجودها في بلدان العالم العربي/ الوطن العربي التي ما تزال تحتضن رفات الفاتحين الأوائل القادمين من الجزيرة العربية، وأسسوا ممالك وحضارات تنبئ عنها الآثار المادية والروحية. هذه العروبة، حقيقة تاريخية لا يمكن اختزالها أو نسفها بطروحات أقصى ما يمكن وصفها بأنها طفولية. فعلى مدى أكثر من 1400 عام، مرّت على هذه الأرض جحافل العالم القديم من مختلف الجهات والأعراق، مرور الكرام واللئام، فمضت في حال سبيلها وبقيت العروبة.