بمناسبة أسبوع اللاجئين الذي يقام سنويا في شهر حزيران، احتضنت قاعة آسيا هاوس وسط العاصمة البريطانية لندن وبدعوة من منظمة العمل من أجل سما والمنظمة الدولية للهجرة "IOM" معرضاً توثيقياً يبرز المقتنيات والأدوات التي استخدمتها المخرجة السورية وعد الخطيب في أثناء تصويرها فيلم "من أجل سما" التي تدور مجرياته وأحداثه في ظل الحصار والقصف الذي تعرضت له أحياء حلب الشرقية بين عامي 2012 و2016.
وشارك في المعرض كل من الناشطة الحقوقية عفراء هاشم وزوجها الفنان سالم الأطرش وهما من الوجوه البارزة التي ظهرت في قصة الفيلم، إلى جانب عدد كبير من المتضامنين مع المأساة السورية والناشطين في مجال حقوق الإنسان وممثلين عن منظمات دعم اللاجئيين في المملكة المتحدة.
دلالات الحدث ورمزيته
يشير هذا المعرض إلى جزء من الجرح الغائر لذاكرة الثورة السورية، لا سيما مدينة حلب في ظل أكثر سنوات الحرب دموية ووحشية، حين أمعن جيش النظام مدعوماً من الطيران الروسي في قصف أحياء المدينة من دون تمييز بين مدني أو عسكري، ومن دون استثناء لمستشفى أو فرن أو جامع.
كما ألقى المعرض الضوء على الظروف الصعبة التي عاشها السوريون في أثناء تلك المرحلة وما نجم عنها من مأساة وتغريبة من خلال التركيز على عرض صور من جوانب الحياة اليومية والمقتنيات الشخصية التي رافقت رحلة تصوير الفيلم تحت القصف مثل الكاميرات وبعض الأدوات الطبية التي استعملت في معالجة المصابين والجرحى في المشافي مثل السماعات ونظارة الطبيب وقطع من الملابس وعدد من الحقائب.
واحتوى المعرض كذلك على بعض من الوسائل والمعدات التي استخدمها المتطوعون في الدفاع المدني السوري مثل الخوذ البيضاء والستر الخاصة التي كانوا يرتدونها في أثناء عمليات الإسعاف والإنقاذ.
وكان لافتاً أيضاً وجود شهادات التفوق لطلاب المدارس في تلك الفترة والتي تعد أرشيفاً حياً لتلك المرحلة التاريخية من عمر الثورة السورية.
عرض الفيلم
وقد شاهد الحضور عرضاً كاملاً لأحداث الفيلم ومجرياته وسط حالة من التفاعل والتأثر، إذ بدت الصدمة واضحة على وجوههم من هول حجم العنف والقتل والتدمير الذي استهدف المشافي والأبنية السكنية.
وعقب الانتهاء من عرض الفيلم أجاب كل من وعد وحمزة الخطيب والناشطة عفراء هاشم عن بعض الأسئلة والمداخلات من قبل الحضور وذلك في صيغة شرح مبسط لأهداف الثورة السورية في التغيير الديمقراطي والمناداة بقيم الحرية والعدالة والمواطنة.
وتم من خلال حديثهم أيضاً التركيز على نقطة مهمة تمثلت في دحض الرواية والبروباغندا لوسائل إعلام النظام "وساهمت بطبيعة الحال وسائل إعلام عالمية بطريقة أو أخرى بنقلها" التي كانت تركز على تصوير المتظاهرين السوريين باعتبارهم مجموعات إرهابية خارجة عن القانون وتحمل السلاح ضد سلطة الدولة.
كما تم عرض جانب من تجاربهم الشخصية سواء في أثناء وجودهم في سوريا ومشاركتهم في العمل الثوري والإنساني أو من خلال رحلتهم في البحث عن بلد مؤقت لانعدام الأمان وانسداد أفق المستقبل أمامهم.
وفي سياق ذلك، قال حمزة الخطيب بوصفه سوريّاً درس الطب في جامعة حلب إنه لم يكن يخطط قبل عشر سنوات أو يفكر بالسفر وأن يصبح لاجئاً في بريطانيا أو أي دول أخرى حاله كحال غالبية السوريين، منتقداً بذلك الأصوات العنصرية التي تصدر من بعض الأحزاب والسياسيين في الدول الأوروبية التي تحرض على اللاجئين وتطالب بتشديد القوانين التي تقيّد وتحدّ من وصولهم إلى تلك الدول، بمعنى أنه يجب السعي لمعالجة جذور المشكلة وليس التعامل مع نتائجها وعوارضها الطارئة.
ورداً على سؤال يغلب عليه طابع الدهشة والتعجب عن الأسباب التي تدفعها للظهور في بعض مقاطع ولقطات الفيلم تصورها وهي متفائلة ومرحة بالرغم من كونهم يواجهون الموت يومياً ويتوقعونه في أي لحظة، أجابت وعد الخطيب بأنه لا يوجد أي سبب لذلك فهي شخصية عفوية بطبعها تحب المرح وتعشق الاستمتاع بالحياة وأنها في الوقت ذاته فخورة بالعمل الذي أنجزته.
كما انتقدت الخطيب في معرض حديثها للحضور تقاعسَ الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في الاستجابة لكارثة الزلزال الإنسانية الذي قتل آلاف السوريين ودمر عددا كبيرا من منازلهم، وأنها تعمل بالتعاون مع منظمتها بكل طاقتها وتبذل أقصى جهودها من أجل جمع التبرعات والمساعدات لمنكوبي الزلزال.
ومن جانبها أوضحت عفراء هاشم تعليقاً على ظهورها في الفيلم بأنها انخرطت مبكراً في حركة الاحتجاجات والمظاهرات السلمية المناهضة لحكم النظام السوري وكانت تصرّ على البقاء داخل أحياء مدينتها لا سيما بعد القصف الذي أدى إلى استشهاد عدد من الأطفال والكوادر التعليمية.
وأضافت هاشم أن سلاحها في ذلك كان الإصرار والعزيمة والشغف والأمل، مما دفعها إلى مواصلة العمل الثوري والإغاثي والمواظبة على الذهاب إلى المدرسة وتعليم الطلاب ودأبها المستمر على خلق جوّ من الترفيه والمرح للتخفيف ما أمكن من وطأة الخوف والآثار النفسية التي تصيب الأطفال.
تجربة نسائية استثنائية
شهادة وعد الخطيب على ما يعنيه إجبار المرء على الفرار من منزله ووطنه وترك كل ذكرياته وخصوصياته وراء ظهره، تم تصويرها ببراعة في فيلم "من أجل سما" لتروي تجربة أنثوية ملحمية عاشتها كثير من النساء السوريات في كنف الثورة.
ويبرز الفيلم جانباً من الإسهامات والتضحيات العظيمة التي تقدمها السوريات في المجالات الإغاثية والإنسانية وحتى السياسية، إذ تركز الكاميرا على مدار 95 دقيقة على قصة حياة وعد الخطيب خلال خمس سنوات من الانتفاضة في مناطق مدينة حلب الخارجة عن سيطرة النظام، تمتزج فيها مشاعر الثورة بالحب حين تتعرف إلى الطبيب حمزة الخطيب الذي يعمل بإحدى المشافي الميدانية التي يستهدفها النظام بالعديد من الصواريخ والقذائف، تكللت العلاقة بالزواج وإنجاب "سما"، كل ذلك يحدث بينما تزداد حدة المعارك ضراوة ويتصاعد الصراع الكارثي من حولها.
وبعد ست سنوات من نزوحهم، أضحت المتعلقات والمقتنيات القليلة جداً التي تمكنت وعد وعائلتها من إحضارها معهم في رحلة البحث عن الأمان والنجاة هي الرابط الوحيد المتبقي مع منزلهم، وبمنزلة ذاكرة محفورة تختلط فيها صور من الحنين والمعاناة والتشرد شأنها شأن العديد من اللاجئين السوريين.
تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة
وعلى هامش المعرض شارك الفنان السوري سالم الأطرش تجربته الثورية التي جسّدها في لوحاته سواء بالرسم أو كتابة عبارات بخط يده، والتي أضفت بُعداً تفاؤلياً بالمستقبل بالرغم من ظروف الثورة القاسية وواقعها المرير. وخلال الحديث معه روى الأطرش لموقع "تلفزيون سوريا" قصة تهجيره القسري من مدينة حلب وهو أحد ثوارها البارزين وزوج الناشطة عفراء هاشم، كان يرسم على جدران شوارع حي صلاح الدين وفوق أطلال المنازل المدمرة وعلى بقايا مقذوفات قنابل وصواريخ جيش النظام وحلفائه.
ويرى الأطرش أن مفهوم النجاة ليس فردياً بقدر ما هو نجاة جماعية، لذلك يصرّ على مواصلة دعمه لمبادئ الثورة والقضية الإنسانية لللاجئين السوريين في أي محفل أو مناسبة تتاح له الفرصة للتعبير عن ذلك الدعم من خلال لوحاته الفنية سواء بالرسم أو الكتابة والتخطيط.
من جانبه، قال الناشط الحقوقي السوري أحمد آل رشيد الذي أدار جلسة الحوار خلال المعرض أنه بعد التهجير من مدينة حلب إلى بريطانيا نشط في العمل المؤسسي التطوعي لمساعدة اللاجئين على الاندماج وبناء حياة جديدة. ولفت خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" إلى أن الغاية والفكرة الأساسية من تنظيم هذه الفعالية في أسبوع اللاجئين هي إلقاء الضوء على المعاناة والصعوبات والتحديات التي تجبر السوريين على الخروج والهجرة من بلادهم بحثاً عن مستقبل أفضل.
وأضاف أن "فيلم من أجل سما" هو فيلم رمزي وامتداد لأزمة السوريين المستمرة في الداخل والخارج، ولا بد من تركيز الجهود من أجل إنهاء الصراع ولَأْمِ الجراح وحلّ المشكلة من جذورها، الأمر الذي يجنّب السوريين مخاطر الهجرة وتركهم وحيدين يواجهون مصيرهم تحت رحمة تجار البشر وخفر السواحل في عرض البحار من جهة، وتجاذبات السياسيين ودعاياتهم الانتخابية العنصرية من جهة أخرى.
اهتمام حقوقي
وشهد المعرض حضور عدد كبير من الناشطين البريطانيين العاملين في المنظمات الحقوقية والإنسانية والذين عبروا خلال مشاركتهم عن تضامنهم مع اللاجئين ومساندتهم لقضية الثورة السورية.
قالت عبير سليمان مسؤولة الاتصالات في منظمة الهجرة الدولية في المملكة المتحدة، إن الغاية من الاستضافة الخاصة لهذا المعرض مقتنيات سما هو تعريف الحضور من خلال عرض الفيلم بالظروف والأسباب التي أجبرت السوريين على النزوح واللجوء وترك بلادهم قسراً.
وأردفت خلال حديثها لموقع "تلفزيون سوريا" بأنها تأمل بأن يتم من خلال هذا المعرض توعية الحضور وتعريفهم بمعنى أن تجبر كرهاً على مغادرة بلادك وأن تترك وراءك ممتلكاتك ومنزلك بكل ما تحمل من معانٍ وذكريات جميلة. وترى سليمان بأن الفيلم يحكي قصة ملهمة ذات أبعاد بطولية وعاطفية في الوقت ذاته؛ لذلك ينبغي أن يتم الاستماع إليها مراراً وتكراراً في جميع المناسبات وفعاليات حقوق الإنسان واللاجئين، وهذا ما دعا منظمتها إلى دعم إقامة هذا الحدث في مدينة لندن.
يذكر أن الفيلم من أجل سما حصدَ العديد من الجوائز العالمية مثل الفوز بجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام- بافتا، وجائزة القناة الرابعة البريطانية channel 4 عن فئة أفضل الأفلام الوثائقية.
وحصلت مخرجته وعد الخطيب على "جائزة العين الذهبية" لأفضل فيلم وثائقي في الدورة 72 لمهرجان "كان" السينمائي الدولي في فرنسا، كما تم ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار 2020، في الوقت الذي فاز فيه أيضاً بجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان "أفلام الهجرة " الدولي بتركيا.