شكّل الهجوم على القنصلية الإيرانية بدمشق نقطة تحول كبيرة وغير معتادة أو متوقعة من إسرائيل التي استهدفت لأول مرة، أمس الإثنين، مبنى قنصلياً خلافاً لضرباتها السابقة التي كانت تركز على مقار وقواعد عسكرية وبنى تحتية لعرقلة ممرات الأسلحة من إيران إلى سوريا ولبنان.
يعد الهجوم الأخير هو ذروة مرحلة جديدة في مسار الضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، هي الأعنف والأكثر مجازفة مقارنة بسياسة الحذر والغموض التي تنتهجها تل أبيب بما تقول إنه لمنع التموضع الإيراني على حدودها الشمالية.
تتسم المرحلة الجديدة باستهداف المباني داخل الأحياء السكنية والراقية في قلب دمشق، والتي يستخدمها "الحرس الثوري" مقارَّ سرية، كان آخرها، الإثنين، استهداف مبنى قنصلي إيراني مجاور للسفارة الكندية في أوتوستراد المزة.
في الهجوم، اغتالت إسرائيل قائد فيلق القدس الجناح الخارجي للحرس الثوري في سوريا ولبنان الجنرال حسن مهدوي (اسمه في إيران محمد رضا زاهدي) ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي إضافة لـ 5 عسكريين إيرانيين آخرين و6 أشخاص من الجنسبة السورية لم يفصح النظام السوري عن أسمائهم.
وعنونت الصحافة العبرية بأنها العملية الأعنف والأكبر بعد اغتيال قاسم سليماني
يعد زاهدي أبرز شخصية إيرانية تغتالها إسرائيل حتى الآن، في عملية تعد الأكثر إيلاماً للحرس الثوري بعد اغتيال سليماني الذي قتل بغارة أميركية على مطار بغداد مطلع عام 2020.
يذكر أن واشنطن أعلنت في وقت لاحق أنها لم تكن تعلم بالهجوم على القنصلية إلا قبل بضع دقائق من دون أن تعرف الهدف.
قواعد الاشتباك
يشكل الهجوم نقطة تحول في قواعد الاشتباك التي رسختها كل من إسرائيل وإيران، وفقاً للتواطؤ الضمني بينهما، بهدف التنافس الإقليمي على المنطقة باستخدام الأرض السورية ساحة للصراع.
مع ذلك، وبالنظر إلى تاريخ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية في سوريا، الممتدة منذ أكثر من عقد، هناك شبه توافق على عدم الذهاب إلى حرب شاملة والحفاظ على قواعد اشتباك مضبوطة.
ووفقاً لما جرت عليه العادة، تقوم قواعد الاشتباك على تنفيذ إسرائيل ضربات جراحية "ليزرية من دون دماء" تقريباً ومن دون أن تتبناها رسمياً أو مباشرة، يقابلها "صمت إيراني" وفقاً لنظرية "الصبر الاستراتيجي"، فيما عدا هجمات شكلية تنفذها ميليشيات إيرانية على الحدود.
بحسب بيانات هيئة الأركان الإسرائيلية، بدأ الجيش الإسرائيلي في آذار/مارس 2013 بعملية عسكرية أطلق عليها اسم "المعركة بين الحروب" لمنع إيران من فتح جبهة جديدة على حدودها الشمالية في سوريا، وخلال 11 عاماً نفذت مئات الضربات ضد آلاف الأهداف.
وكانت الضربات الإسرائيلية تأخذ منحى متصاعدا وفي ازدياد مستمر بدأت باستهداف مراكز البحوث العلمية وشحنات الأسلحة عبر الممر البري "الكاريدور" من البوكمال شرقاً إلى الحدود اللبنانية غرباً، ثم استهداف المطارات والقواعد العسكرية ولاحقاً الموانئ والمطارات المدنية مما عطل المنافذ الجوية والبحرية الحيوية لفترات وجيزة في سوريا.
لكن الهجوم الأخير كان غير متوقع، استهدفت إسرائيل مبنى قنصلياً ملاصقاً وملحقاً بالسفارة الإيرانية أي أنه مبنى من المفترض أن يكون محمياً بموجب معاهدات الحصانة الدبلوماسية الدولية.
"استهداف السفارة" يشير إلى أن تل أبييب رفعت سقف المواجهة في حين كانت في السابق تحاول تجنب سقوط خسائر بشرية لإيران وتنفذ ضرباتها وفق تكتيك معيّن وشبه ثابت في منتصف الليل على مقارَّ وقواعد شبه فارغة وشحنات أسلحة بعد إطلاق طلقات تحذيرية للسائقين.
ما أسباب الهجوم الإسرائيلي ودوافعه؟
يتزامن التصعيد الإسرائيلي في سوريا ولبنان مع استمرار الحرب المدمرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزة، منذ نصف عام، والتي تضاعفَ خلالها عدد الضربات ونوعيتها في سوريا بشكل ملحوظ.
وبحسب ما رصد موقع "تلفزيون سوريا"، فإن الجيش الإسرائيلي نفذ منذ بداية العام الحالي نحو 30 هجوماً داخل سوريا، وهذا العدد يوازي عدد الضربات السنوية السابقة، أي في 3 أشهر نفذت إسرائيل ما كانت تنفذ في عام كامل.
- الخروج من مأزق غزة
تحاول إسرائيل توسيع دائرة الصراع إقليمياً للخروج من مأزق غزة، بعد فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب (القضاء على حماس وتحرير المختطفين)، والبحث عن نصر خارج حدود القطاع وضمان انخراط الولايات المتحدة وحاملات طائراتها الرابضة قريباً بالحرب.
كما يعد إطالة أمد الحرب في ظل الفشل الإسرائيلي في غزة هدفاً سياسياً وشخصياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يدرك أن انتهاء الحرب يعني نهاية حياته السياسية "نهاية وخيمة"، وفق معظم التقديرات والتقارير الإسرائيلية.
وتشير صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن الهجوم في دمشق هو تعويض للفشل في غزة وخاصة على الصعيد الاستخباري والعسكري.
وقالت الصحيفة، اليوم الثلاثاء، إن الهجوم المنسوب إلى إسرائيل هو سلسلة من العمليات الناجحة لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" ورئيسها اللواء أهارون حليواه، الذي تلقّى العبء الأكبر من الانتقادات بسبب الفشل الاستخباري الذي أدى إلى الهجوم المفاجئ في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
في حين، تقول الرواية الإسرائيلية المتداولة في الصحافة العبرية أن الهجوم جاء رداً على استهداف قاعدة عسكرية في إيلات جنوبي إسرائيل من قبل الميليشيات الشيعية في العراق المدعومة إيرانياً، قبل أقل من يوم وأسفر عن أضرار مادية فقط.
-
إسداء خدمات لواشنطن
من جانب آخر، تحاول إسرائيل عبر هذا الهجوم إسداء خدمات تعويضية للولايات المتحدة بضرب أهداف لإيران وميليشياتها، وخاصة بعد تصعيد الأخيرة من استهداف القواعد الأميركية في المنطقة كان أبرزها مقتل 3 جنود أميركيين في "البرج 22" بالأردن، قبل شهرين.
خلال السنوات الأخيرة، لطالما تنطعت إسرائيل وحملت رأس الحربة في مواجهة المشروع الإيراني (النووي والصاروخي والتوسعي) في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض تفاوض الإيرانيين وتحاول تفعيل الطرق الدبلوماسية.
وكانت إسرائيل تنفذ علميات عسكرية واستخبارية متنوعة ومتفاوتة الحجم ضد الحرس الثوري معظمها في سوريا وبشكل أقل في جنوبي لبنان وطرق الملاحة البحرية في الخليج والعمق الإيراني.
- استعادة دورها "شرطي المنطقة"
يبدو أن إسرائيل في الهجوم الأخير أرادت الذهاب أبعد في ممارسة الدور الوظيفي المرسوم لها في كبح جماح القوى الإقليمية في المنطقة ضمن نظرية "التفوق الإسرائيلي" المكفول أميركياً.
كما تحاول إسرائيل استعادة صورة الردع ومكانتها التي انهارت في هجوم طوفان الأقصى في 7 من تشرين الأول/أكتوبر، بشكل مفاجئ وصادم، ويأتي هذا التصعيد الإقليمي محاولةً من تل أبيب لاستعادة دورها "شرطي المنطقة" الذي يتصدى للخطر الإيراني.
- استغلال ظروف الحرب
في ظل الحرب المدمرة التي تشنها على قطاع غزة، ترى تل أبيب نفسها محصنة وخارج نظاق المحاسبة مدعومة بغطاء عسكري حيوي أميركي ومعارضة دولية غير قادرة على إيقاف آلة القتل الإسرائيلية التي خلفت عشرات آلاف الضحايا.
لذلك، تستطيع أن تجد لنفسها مبرراً لهذا التصعيد في هجومها على مبنى قنصلي بأنها في حالة حرب.