icon
التغطية الحية

من رومانسية الحزن إلى امرأة "على مذهب الطيف".. قراءة في شعر ممدوح السكاف

2021.12.24 | 13:13 دمشق

skaftlfzywn_swrya.png
+A
حجم الخط
-A

تأتي مجموعة "الحزن رفيقي" للشاعر ممدوح السكاف بعد أن قطع الشاعر سنواتٍ شعريةً بعيدةً أصدر خلالها: مسافة للممكن مسافة للمستحيل– في حضرة الماء- انهيارات- فصول الجسد. وغيرها من الكتب.

والمجموعة تحتوي على أربع قصائد جاءت على شكل مطولاَّتٍ في مئة وأربعين صفحة تقريباً. وهي على التوالي: (الرحلة- الرؤيا- القيامة- الصوت). ولنلاحظ رغبة ممدوح السكاف في إعطاء مجموعته مساراً فنيّاً متنامياً عبر عناوين المطولات، التي توحي بأنها عناوين فرعية لعملٍ شعري متكامل، وهذا لا يخفى على القارئ حتى وهو يُطالعُ القصائد داخل المجموعة، حيث يقف أمام عالمٍ شعريّ واحد، متآلفٍ من ألفِهِ إلى يائه، يفضي بعضُهَ إلى بعضٍ ويشدُّ عنصرٌ منه على يد العنصرِ الآخر. ويرتُب الشاعر قصائده الواحدة/ المتعددة، إيقاعيّاً، على التوالي: القصيدة الأولى (متَفاعِلُن)، الثانية (مفاعَلَتُنْ)، والثالثة (متَفاعلن)، والرابعة (مفاعَلَتُنْ).‏

وممدوح السكاف مولعٌ بالغناء في القصيدة، يقبض على مادّة القصيدة، ويظلّ يراودها من هذه الجهة أو تلكَ، لتطاوعَهُ، شاهراً أمامها أغنى وأعلى ما عندَهُ: الغنائية ذات المنشأ الرومانسي المتطوّر والمعدَّل عن الأصل الكلاسيكي. لهذا يشحن قصيدتَهُ بغنائية رومانسية يتطلع إليها من موقع الحداثة، وليس من موقع الصورة التَّقليدية. وفي الحقيقة، بتنا نخشى على شاعرنا ممدوح من أن تقيّده هذه الرومانسية ولا يستطيع أحد تحريره منها. ففي الواقع، أن كل من يكتبُ عن شعره، أو يناقش حوله، يجد نفسه مضطرّاً أحياناً بلا تردد، إلى إطلاق الصفة (رومانسي) على هذا الشاعر. ولا يكاد يشذّ عن هذا أحدٌ، فهل ممدوح السكاف في تجربته الشعرية كلها يدورُ حول قطب الرومانسية؟ وهل يمكن الآن، على الصعيد النقدي والإبداعي معاً، أن نضفي على تجربة شعرية ما سمةً ثابتةً، في الوقت الذي ندعو فيه إلى التعددية في التجارب، وانفتاح التجربة ذاتها على تجارب التيارات جميعاً؟

يرى المتابعُ أنَّ مثل هذه الأحكام فيها اضطهادٌ للفنان المبدع الحقيقي. حتّى لو كانت تجربةُ هذا الفنان ذاتَ بعدٍ واحدٍ ثابتٍ، علينا أن ننتقده بحدّة. فلا يُقْبَلُ الآن في فترة الإبداع الحديث، الكلام حول مثل هذه الأبعاد الثابتة، على الأقلّ في الفن، والشعر عنصرٌ من عناصره، أي يرفض المتابع تحجيم تجربة "السكاف" إلى مدرسةٍ بعينها. حتّى ولو طرح السكاف نفسه هذا الانتماء، بكتابته ودراساته وذكرياته. ولا أعتقد أن مجموعة "الحزن رفيقي" نموذجٌ تطبيقي يفرح الناقد بالعثور عليه، وطرحه على طاولة التشريح الرومانسية إن في هذا تقليل من غنى التجربة وحوارياتها المتنوعة.‏

إن ما نجده من مواقف تشي برومانسية ما، في المجموعة، ليس وقفاً على السكاف. ‏فالشاعر بصفةٍ عامة لا يستطيع تجاهل مفردات الطبيعة والكون الشفافة، بنهرها ونجمها، وليلها وشجرها وسهرها وتشاؤمها. هذه مفردات "لا تصنع مدرسة". بل إنها مفردات قد تردُ حتّى في تجربة شاعر سوريالي!. المسألة تتلَّخصُ في ضرورة الحذر من أَسْرِ شاعرٍ ما ضمن قالبٍ ضيّق قد يخنقهُ، ويعطلُ على القراء متعة اكتشافه في أبعادٍ أخرى.‏

ممدوح السكاف، يُجابه في شعره بعامةٍ، وفي قصائد هذه المجموعة بخاصة، جفاف العالم وخريفه الروحيّ واليباس الشامل الممتد من نطفة الجسد، حتَّى أبعد نقطةٍ عليا في الكون، وهذا يُملي عليه مديحاً لهذا الجسد، ومعاناةً منه في الوقت نفسه. لأنه جسدٌ يختزلُ خواءَ الحضارة كلها. وهذا باختصار مفتاحٌ مهمٌ من مفاتيح الدخول إلى غاية الشعر عند ممدوح السكاف. الجسد عنده مشلول بالرماد، ومتهافتٌ بالخراب، يتبصَّرُ معجزةً ترمّمه، لتولد نطفةٌ عذراء تُخصب قمحَ العلاقة البائسة، وتُحْيي كنزه المدفون...‏

ومرةً أخرى، علينا ألاَّ نختزلَ وجود الجسد والمرأة في شعر السكاف إلى مجرد جسدٍ وامرأة، الشاعر أعلى مرتبةً من مثل هذا الاختزال، إنه يتعامل معهما في نسقٍ وجوديٍّ شامل، يقرنُ الجسد بالأرض الخراب التي تنتظرُ القيامة لتنبتَ في سرير الماء، وتخرج من مشهد القتل المدنَّس والدم الأصفر والحصار.. ويضع الأنثى على أنها "مستقبل العالم" كما يعلق "آراغون"، أي لن يكون للعالم غدٌ، دون فرحٍ وعرسٍ وولادةٍ، وعشقٍ ومودّةٍ وعطاء وعملٍ.. وهذا عالمٌ لا يتشكل خارج الاحتفاء بـ "الأنثى"!.‏

هذا العالم الخراب الذي يعاينُه ممدوح، لا يقفُ منه موقفاً انهزاميّاً، وإن كان موقفهُ فيه من التشاؤم الكثير، لكنه مع ذلك يدرك أنَّ في أعماقه طاقةً خاصةً، هل تؤهّلُه لإعادة الفرح والبناء إلى العالم؟. هل هو الذي "يخلّص" العالم من شرّه؟‏

وهنا يُواصل ممدوح السكاف المفهوم القديم لـ "الشاعر". هذا المفهوم الذي ينظر إلى الشاعر على أنه (النبيّ) البشير والمخلّص، وهذا كما هو واضحٌ من أثر تجربة جيل الستينات، سوريّاً وعربيّاً.‏

"هل أنا الفادي‏

إذا مسّتْ سماءُ العُقمِ‏

أجراسَ الرياح" –ص88-‏

لكن ممدوح لا يستسلمُ لمثل هذا المفهوم بتفاصيله الأولى، إنّه شاعرٌ هو الآخر بحاجةٍ إلى من يفديه ويخلّصهُ، وتلك مأساةٌ حقّاً يعيشها الشاعر الحديث: يشعر بأنه صفوة الكون وخلاصُهُ، ويدرك في اللحظة نفسها عبء القيود والشروط التي تمنع الشاعر من فعل أي شيء، على صعيده وعلى صعيد الآخرين. لذلك ينادي الشّاعر الآخرين، امرأةً وأصدقاء وطبيعةً وغيباً، حتى يعملوا معاً على تخفيف الحزن عن العالم، ولكن كيف يخفّفُ الشاعر الحزنَ عن العالم وهو نفسُه يقوم برحلةٍ بعيدةٍ جدّاً ولا رفيق له فيها سوى الحزن؟‏

"يا أيها الوَجَعُ الصّديقُ النَّاحلُ الأعصابِ:‏

في رَحْلي/ عبرتُ/ السّاحل العربيَّ/ بين الرّملِ/‏

منثوراً/ وبين الماء/ مشطوراً/ وأعلنتُ/ انتهاءَ الرَّفض/ في أمم السلالاتِ المريضة.." – ص78-‏

شعر ممدوح السكاف شعر مكتوب برحيق المرأة وعطرها وأناقتها ولذتها وتناسق عناصرها وغموضها ونقائضها، شعر لا يتنفس خارج كينونة المرأة، فالقارئ سيجد نفسه مباشرة أمام قصيدة تتجه بخطابها إلى العنصر الآخر من الحياة: المرأة، وتلك عالم غني يحتشد به الشاعر، والمرأة عنده تحضر بجسدها وأعضائها وصفاتها التي ذكرناها منذ البداية. قد يكون هذا العالم مشاعاً لكل شاعر، حسناً. لا يجب نسيان أن كل شاعر يحاور عالمه بكيف مختلف وخاص، وإلا تشابهت عوالم الشعراء وافتقدنا الخصوصية، حتى لو كانت خصوصية نسبية، فهي مطلوبة ومرجوة بشدة من أجل تحديد اختلاف هذا الشاعر عن ذاك. والشاعر ممدوح السكاف يؤكد في علاقة شعرة بالمرأة – هذا العالم الشعري المشاع – قدرته على إثبات نوع من العلاقة النفسية والجمالية والشعرية، بل وحتى الخاصة، مع هذا العالم، ويعطينا دليلاً مهماً على أن بإمكان الشاعر انتزاع موقع خاص له ولشعره بينما هو يكتب عن عوالم يشترك الجميع في معاناتها.

ثمة عدد من الأفكار يمكن بلورتها هنا، ولكن المحور الأهم هو أن ممدوح السكاف يلون في شعره المرأة والحب بـ "الموت". يقيم تقابلاً بين الجنس والموت، بين الجسد والفناء، بين الحضور والعدم، وهذه السمة لم تكن لتغيب عن قصيدة واحدة من قصائد مجموعة "على مذهب الطيف" وغيرها. الحب إذاً، بل والجنس، في شعر ممدوح السكاف لا ينفصل عن الموت والعدم. والشاعر يريد بهذا تحقيق اللحظة الإبداعية العالية التي تدمج حالتي الجنس والموت معاً. ولكن ما سبب التقائهما في القصائد؟ إن ممدوح السكاف يعبر عن موقف ما، بطريقة فنية، فمن جهة هو يتبنى موقفاً عدمياً من الجنس، أو موقفاً جنسياً من العدم، جاعلاً بياض أحدهما امتداداً لبياض الآخر، وجاعلاً من النشوة الجنسية شكلاً من أشكال  التلاشي والفناء. ولكن مهما بلغت النشوة دلالة الموت، يبقى الموت فيها حالة عليا من الفرح، أي يستغرق الفاعل هنا في فناء روحي ووجداني يساعده على تحقيق الفرح والسعادة، الأمر الذي لا يقدمه الموت الحقيقي. إذاً فالموت هذا مأخوذ "رمزياً". وليس كواقعة. والشعر في مثل هذه الحالات يتعامل مع رموز وليس مع وقائع.

يقول ممدوح السكاف في مجموعته (على مذهب الطيف):

( 1 ) وكوني كالتراب حنونة سمراء

       تفتح شهوتي للموت... ص 101

( 2 ) قالت سأرتكب الحماقة

       عندما يتواعد العشاق في جسدي

       على نعش الشروق... ص 101

( 3 ) راهبة تصلي في خشوع هياكل الموتى

       مرنحة بنشوتها

       وتهرق ماء شهوتها

       على حجر كأحجار العبادة.. ص 105

وقد يكون الموت مقترناً في مخيلة الشاعر بافتقاده الجسد ومدلوله الجنسي، أي أن الحديث عن الجسد يعني ألا جسد ولا جنس ، بل موت رمزي أيضاً . وفي هذا المقام يركز الشاعر كثيراً على افتقاد الجسد / المرأة ، ويطلب هذا الافتقاد أكثر مما يطلب الوجود ، لكأنه يتمثل هذا حالة ذاتية من تعذيب النفس كلما حرمها من الوصل . ويعتبر أن الكذب في موعد الوصل هو شكل من الجود والكرم :

       جودي علي بمطل قرب من مواعيد اقتراب

       واكذبي

       ما أجمل الكذب المصدق

       قد تسلل كالربيع إلى احتضاري

       في اخضرار من يديك إلى خريف في يدي .. ص 137 / 138

ويقول في مكان آخر: (وأنا أصلي لاقترابك في ابتعادك). إن الشاعر يبني علاقة مع (طيف) المرأة / الجسد، ومع طيف الوصال، ولهذا فهو (على مذهب الطيف). إنه شاعرٌ يمتلكُ وعياً رؤيوياً بما يفعله، مدركٌ أن ما يكتبه من شعر ليس إلا انعكاساً لمفهوم خاص يتبناه حول المرأة. وهو يعي الفرق بين شعر التجربة وشعر الطيف، ويتبنى شعر الطيف بكل مراحله، فهو يريد المرأة بعد أن تغادر، يلمسها بعد أن تتحول إلى مقعد فارغ في الحديقة، ينام معها بعد تلاشي كيانها وتصعيده إلى مثال ذهني، يحتضن ظلها لا جسدها، طيفها لا شخصها. بل إن الشاعر يجعل طيف المرأة لا يزوره هو، وإنما يزور طيفه هو، أي يتم اللقاء بين طيفين، وليس بين طيف وشاعر، وهذا إمعان في طلب الابتعاد والعدم.

     من زار طيفي؟

     أهو طيفك... يا لطيفك ما أرق ومن تهادى كالهديل

     من الأغاني ... ص 133

     وفي لحظة أخرى يبوح ممدوح بأنه لا يجديه شيء:

     لا عزاء في الرقاد

     ولا افتقاد للبعاد

     ولا سكون في الضجيج

     ولا مياه في الصحارى

     لا عزاءْ

     أنا خيطك الواهي، اقطعيني

     واجعلي من جثتي خزفاً لآنية الفناءْ.. ص144

إنه (خيطها الواهي) ويرغب في أن تقطعه وأن تجعل منه ومن جثته خزفاً لآنية الفناء. ألم نقل أن الشاعر واع تماماً لما يفعله بدليل أننا نقرأ في شعره كله – وفي نثره كذلك – هذا الكلام كل مرة يأتي بصيغة جديدة.

إذاً، ثمة في شعر ممدوح السكاف خطاب جسدي وشبق وذكورة وطاقة، لكنها برسم الذاكرة، أو المستقبل، بينما يحضر الآن هروب إلى جنة الشوك التي صاغت وجوده ويحضر سراب ويباب وجسم عاطل وتحضر قيود (تحرر حريتي) ويحضر فرح ينتمي للمنون. هذه النقائض الطاغية على امتداد القصائد صارت سمة فنية من سمات أسلوب ممدوح السكاف، وتقنية يستثمرها الشاعر من أجل إضفاء مزيد من التوتر على مناخ الصورة الفنية عنده، وهي ليست سمة وتقنية فحسب، بل هي موقف أيضاً يرى اجتماع النقيضين في اللحظة الواحدة، ويرى العالم كله مقسوماً إلى ثنائية تتوالد منها ثنائيات بشكل متتال، ثنائيات تتحاور فيما بينها، فتارة تأتلف وأخرى تتناحر. وهي غالباً في شعر السكاف تقود إلى الشقاء، كسبب ونتيجة.

قد يوحي التأكيد على هذه العلاقة الدرامية مع الجسد أن ممدوح السكاف يعف عن جماليات الجسد، وهذا غير صحيح. فهو يفتح بصره وبصيرته على اتساعهما وهو يبتهل للجسد بلغة تشتعل شبقاً، ومديح لحالات وتسميات الجسد وتفاصيله، لكن كل هذا الاشتعال والمديح إنما من أجل قذفه في الغياب والعدم.

هل يقف الموقف الرومانسي الذي يتبناه الشاعر، وراء هذا الاستغراق في الألم؟ ذلك ممكن، لأن الرومانسي مصاب بخلل العلاقة مع الواقع، والخلل مهم لأنه منطقة التحريض على الإبداع بحد ذاته. ولكن هذا الخلل لا يفصل عن شرطه النفسي والاجتماعي، أي أنه (خلل واقعي) وليس متوهماً. إن ثمة انبتاراً أو انقطاعاً في رحلة ممدوح إلى الجسد، ولا ندري إن كان يمكن ملاحظة نوع من (العذرية القسرية) في هذه الرحلة. ونحن مع الذين يرون أن العذرية حالة شبقية مكونة اجتماعياً. وليس من فراغ. لكنها ممنوعة معطلة، أي مقطوعة عن غايتها. وممدوح يستغرقه حب المرأة عن المرأة، ويشغله عشق الجسد عن الجسد نفسه. فكأن الطريق إلى المرأة أجمل من الوصول إليها.

 في مجموعة (على مذهب الطيف) مقطوعة بعنوان (الشاهدة) فيها بعدٌ آخر من أبعاد افتقاد المرأة / الجسد، بعد يكشفه تعدد الأمكنة في هذه المقطوعة (وهي مقطوعة واردة في سياق عمل شعري متكامل وليست منفصلة عما حولها) الأمكنة التي كانت المرأة / المفقودة / الميتة ذات علاقة معها، بدءاً من (حمص) وانتهاء بالوطن الكبير مروراً بـ (الجولان)، و(بغداد) و(المقطم) و(القدس). هنا يعتقد القارئ بأن الجسد / المرأة اتسعت دلالته / دلالتها من خلال الموت الكلي، وغيابها بات مرتبطاً بغياب هذه الأماكن.

       أنا ذاهب

       لأزور قبراً من قبور حبيبتي

       ماتت بمهد مدينتي حمصٍ

       دفنَّاها كما في رفَّةٍ من رفرفات الحلم

       أو في الوهم

       أو بوصية الداء العياء

       على روابي دمعة الجولان

       في إغفاءة الموتى مع الأحياء

       في جبل المقطم... الخ

ويختم المقطوعة بـ:

       أواه يا جسدا يكفنه بكاء

       من مراثي الندب

       يا ندبا على جسد

       يجسده رعاف للوطن .. ص 110 / 111

يمكن الادعاء أخيراً بأن (الحب) كما هو مقدم في شعر ممدوح السكاف، إنما هو حب جدير بأن يحمل صفة (أفلاطوني) فالحب في نسخته (الأفلاطونية) ينتمي إلى عالم (الظلال) – والظلال مفهوم داخل في أس الفلسفة الأفلاطونية – والظلال كما هو واضح يوازيها من حيث المعنى العميق البعيد (الطيف) وهو مذهب ممدوح السكاف. فقد رأينا أن الشاعر يحب المرأة في ملامحها الغائمة البعيدة غير الممتلكة بين يديه. وتأكيده على اللغة الجسدية في شعره هو شكل من أشكال مقاومة هذا الغياب والفقدان. فكما هو معلوم تزداد اللغة حسية، كنوع من التعويض عما هو قائم في مساحة اللاوجود والفقد.

الشاعر ينادي ظلال المرأة، ومثالها الأعلى، متمثلاً حضورها الرمزي الإشاري، يفتقدها فتتحرك فيه الرغبة العارمة في أن يعيدها إلى مجال حيازته وامتلاكه، وكلما أوشكت على التحقق، نفض يده منها من جديد، مدركاً أن الوصول إليها يعني لديه عدم الحياة فليعد لأطيافها وظلالها مرة ثانية. إن تحقيق الحب هو الموت بعينه هنا. وهذا ما يسميه الدارسون والفلاسفة في مشكلة الحب بـ (الإيروس). الذي هو بحسب د. زكريا إبراهيم (بطبيعته افتقار أو عدم امتلاك يحن إلى الامتلاء أو الامتلاك. وإحساس الإيروس بالحاجة إنما هو الباعث الذي يَهَبُ الديناميكية لرغبته أو اشتياقه) مشكلة الحب– مكتبة مصر – 1970 – ص 163.

مع كل وعي الشاعر للعذاب المتولد من معاناته لمفهوم الحب، فإنه لا يتخلى عنه، على الأقل حتى يبقى منسجماً مع منطلقه الأساس في فهمه للحب والمرأة. ومع كل هذه العدمية التي تطالعنا بها قصائده، يبقى أمراً مهما أن نكتشف مدى تمسك الشاعر بالحب كخلاص، ولو كان خلاصاً جمالياً فلسفياً ذهنياً.