لا شيء يحصل بالصدفة في عالم السياسة. وحتّى لو صادفت بعض الأحداث بعضها الآخر، فستكون عرضة للربط في سياقات أوسع في حاضرها أو مستقبلها. وحتماً من يعرف العلاقة الشائكة اللبنانية السورية، سياسياً، وأمنياً، واجتماعياً وجغرافياً، يستحيل عليه أن يؤمن بأن ثمة صدفاً تحكم مسار التطورات ما بين البلدين، إنها بلا شك تتلاقى على ارتباط ما في مكان ما. فلبنان يعيش متخبطاً بأحواله الداخلية بانتظار بلورة المشهد النهائي للوضع السوري، ومصير لبنان سيكون كما كان تاريخياً من مصير سوريا.
مناسبة هذه المقدّمة، هي ارتباط مجموعة أحداث ببعضها البعض، أو تلاقيها على نفس التوقيت. فبالتزامن مع إجراء حزب الله لانسحابات سرّية من بعض مناطق دمشق وريفها باتجاه القلمون، كانت إسرائيل تستعد لتنفيذ جولة جديدة من الغارات على مواقع تابعة للحزب والإيرانيين والنظام السوري في دمشق وحمص. الحدثان بلا شك يرتبطان ببعضهما البعض، خاصة أن كبار مسؤولي حزب الله سابقاً، قد أعلنوا أنه قبيل شن إسرائيل لغاراتها، تعمل على إبلاغ الروس بذلك، فتعمل قاعدة حميميم على إبلاغ المعلومة للإيرانيين والنظام الذين يعملون على إخلاء المواقع التي سيتم استهدافها، فلا تقع خسائر بشرية.
وبالتالي فإن عملية انسحاب حزب الله قد تكون مرتبطة بمعلومات من هذا النوع، مع عدم إمكانية فصلها عن أسباب أخرى، كلجوء الحزب ومن خلفه إيران إلى إجراء إعادة تموضع على الجغرافيا السورية لتجنّب الضربات أولاً، ولتخفيف الكلفة عن اتساع رقعة الانتشار ثانياً بفعل العقوبات التي تفرض على الحزب وطهران، ولإيصال رسائل في السياسة ثالثاً من قبيل أن إيران جاهزة لإجراء إعادة تموضع عسكري في سوريا بشكل يتلاءم مع الوضع الدولي الجديد إذا ما ذهبت الأمور باتجاه مفاوضات مع الأميركيين، خاصة أن إيران لم تشارك في معارك إدلب، وأجرت عمليات سحب لقوات عسكرية تابعة لها قبل فترة من شرق سوريا.
ومما لا شك فيه أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي حصلت، تعدّ تطوراً أساسياً في مجالات الصراع لجهة نوعيتها والأسلحة التي استخدمت فيها. وهذه بحدّ ذاتها إحدى نتاجات الاجتماع الأميركي الروسي الإسرائيلي الذي عقد في تل أبيب مؤخراً. وهنا لا بد من العودة إلى ترابط الأحداث ما بين لبنان وسوريا، وإجراء عملية لربط "المصادفات". ففي الوقت الذي تعمل فيه إيران على إعادة تموضع عسكرية في سوريا، ويلجأ حزب الله إلى الانسحاب من مناطق أساسية، عائداً إلى منطقة القلمون التي يعتبرها مداه الإستراتيجي والإمتداد الجغرافي "الموحد" بين سوريا وسلسلة جبال لبنان الشرقية. فلا بد أن يكون هناك ثمن بديل عن ذلك. لا فرق إذا ما كان الثمن البديل في لبنان او سوريا، فبالنسبة لإيران منطق توحيد الجبهات والساحات أصبح واقعاً، وهي تعتبر أنها تسيطر على سوريا ولبنان، وبالتالي لا مشكلة لديها في تقديم ورقة في مكان وتعويضها في مكان آخر. رؤية إيران في هذا المجال، تتكامل مع رؤية النظام السوري، خصوصاً حيال الوضع في لبنان والإلتقاء على نظرة موحدة تجاهه.
خسارة جزء من الجغرافيا التي تسيطر عليها إيران في سوريا لا بد من الاستعاضة عنها ببقعة جغرافية جديدة وإستراتيجية في لبنان
خسارة جزء من الجغرافيا التي تسيطر عليها إيران في سوريا، لا بد من الاستعاضة عنها ببقعة جغرافية جديدة وإستراتيجية في لبنان. فجاءت عمليات الانسحاب في سوريا، مقابل محاولة اقتحام سياسية إلى جبل لبنان، والذي يعتبر عرين وليد جنبلاط الخصم الأول للنظام السوري، والمعارض الأول للمشروع الإيراني في لبنان، والذي يرفض مشروع حلف الأقليات ويصر على تعزيز مبدأ العروبة.
هنا تتصادف الأحداث، لكنها حتماً ترتبط ببعضها البعض. ومشروع النظام السوري مع جبل لبنان قديم وطويل، وكذلك بالنسبة إلى إيران التي حاولت مراراً إقتحام الشوف وتكريس ثنائية درزية لضرب أحادية زعامة وليد جنبلاط. ستكون المعادلة في السياسة، قائمة على مبدأ جبل لبنان مقابل إدلب، أو السويداء، أو قلب لوزة في جبل السماق، تلك المنطقة التي تعرّضت لمخطط جهنمّي قبل سنوات استهدف فيها الدروز وكان المشروع يقضي بتهجيرهم من أراضيهم، لكن جنبلاط نجح يومها بالاستحصال على ضمانات لبقاء الدروز هناك، وبقي همّه تحييد السويداء عن أتون الصراع الذي يريد النظام استدراجها إليه.
آلية تعاطي النظام السوري مع لبنان معروفة، وخاصة مع خصومه، إذ يلجأ دوماً إلى تطويعهم، إن لم يتمكن تحقيق ذلك في السياسة فلا مشكلة باللجوء إلى الأمن. ووليد جنبلاط، يتعرّض منذ فترة لعملية تحجيم سياسي واضحة من قبل حلفاء النظام وإيران، بدأت مع الانتخابات النيابية ولكنهم فشلوا في كسر زعامته، فاستمرت في السياسة من عملية تشكيل الحكومة ووصلت إلى حدود التلاعب بالأمن وصولاً إلى إهدار الدماء.
والأكيد لبنانياً أيضاً، إنه لم يكن من الوارد أن يتحرك حلفاء النظام وإيران بالطريقة التي تحركوا فيها لو لم يكن هناك ضوء أخضر كبير، جاء في لحظة ظنّ فيها هؤلاء أنه حان الوقت للإنتقام من وليد جنبلاط، وإنهائه في السياسة. لكن ردّة الفعل كانت عنيفة وقاسية، أوصل محازبو جنبلاط رسالة بالدم إلى كل الذين يحاولون تصفيته سياسياً. مشكلة النظام السوري الأولى والأخيرة في لبنان هي مع وليد جنبلاط، فوحده الذي يمثّل الإعتراض الجدي على إعادة التطبيع مع بشار الأسد، وهو الحصن الأخير الذي يتصدى لإعادة استباحته لليوميات اللبنانية.
ليس مشروع ضرب وليد جنبلاط واستهدافه داخل معقله، مسألة بسيطة تنحصر في الحسابات اللبنانية الداخلية والضيقة، إنها جزء من مشروع كبير، يهدف إلى تطويع كل من يرفض السير وفق ما تفرضه قوى الأمر الواقع، فجنبلاط يرفض السير بالمشروع الإيراني، وهذا سبب لضربه، ويرفض الانصياع إلى رغبات وأوامر النظام السوري، وهذا سبب آخر لضربه. والأهم ان جنبلاط يتمسك بالخيار العربي على الرغم من إنعدام وجوده في هذه المرحلة، لمواجهة حلف الأقليات الذي بدأ يتكرس بدماء السوريين وعلى جثثهم وأنقاض منازلهم بعد مجازر التهجير الجماعية والتغييرات الديمغرافية التي اصطنعت في سوريا. ما جرى في جبل لبنان قبل أيام، هو رسالة قاسية وجهت لجنبلاط لكنّه ردّ عليها بقسوة تفوقها، إلا أن هذه الرسالة تهدف إلى تطويق جبل لبنان عبر إضعاف جنبلاط وتعزيز أدوار خصومه، تماماً كما تهدف مساعي النظام السوري إلى تطويع السويداء وكل سوريا.