في مسرحية "أماديوس"، خلق الكاتب الإنجليزي، بيتر شافر، عالم درامي مثير، تختلط فيه عوالم المبدعين وكواليس الإنتاج الفني مع دراما الإثارة والجريمة، من خلال مسرحيته للحكاية التي شاعت بعد موت موزارت بثلاثين سنة، حين اتهمت أرملة موزارت، كونستانزا، المؤلف الموسيقي المعروف، ساليري، بقتل زوجها.
الحبكة الدرامية المثيرة، التي رمم فيها شافر الواقع بخياله، شكلت نقلة نوعية في الدراما، حيث تمردت المسرحية، التي تم إنتاج نسخة سينمائية عنها، على الصور الشعرية التي نمطت شخصيات الفنانين والمبدعين في المسرح والسينما؛ لتصوّر المنافسة الفنية كدافع حقيقي قد يؤدي لجريمة قتل؛ حيث ينتهي العرض بإقدام الفنان الأقل إبداعاً على قتل منافسه الذي يتفوق عليه بالموهبة وبمحبة الجمهور.
في الدراما السورية، لا تزال شخصيات الفنانين والمبدعين يتم تصويرها بالطريقة الرومانسية ذاتها، التي كانت سائدة قبل أن يكتب شافر مسرحية "أماديوس" عام 1979؛ فأغلب المسلسلات الاجتماعية تحتوي على شخصية الكاتب أو المؤلف الموسيقي المبدع والمغرق بالحساسية، الذي يحمل بحواراته أفكار الكاتب المثالية ورسائله المباشرة ومواعظه الأخلاقية. تتردد في المسلسلات السورية مقولات من قبيل: "من يعزف الموسيقى لا يمكن أن يقتل"، فمؤلفو الدراما السورية يعتقدون بأن الفن والجريمة خطان لا يلتقيان، وإذا ما التقيا، سيكون المجرم ليس فناناً حقيقياً، بل يصنع فناً هابطاً أو أجوف. بل إن شخصيات المبدعين والفنانين إذا ما كان لها جانب مظلم في الدراما السورية، فإنه يقتصر على التناقضات بين الصورة المثالية التي يصدرها الفنان عن نفسه وبين أفكاره المظلمة التي يخفيها عن الناس، والتي قد تؤدي إلى انتهاكات وجرائم لا تصل إلى القتل العمد، فهي تقف بالغالب عند حدود تعنيف النساء المقربات منه. هذا الجانب المظلم الذي يظهر أحياناً، يتطابق من حيث التوجه مع تأثير حكاية "أماديوس" التي تغلغلت في الدراما العالمية؛ فالفنان الذي قد يخطئ ويرتكب جنحة هو فنان محدود الموهبة، تماماً مثل "ساليري".
هذا المناخ الدرامي، لم يكن يوحي على الإطلاق بأننا سنشهد على إنتاج عمل مثل "رقصة مطر"؛ المسلسل السوري اللبناني المشترك القصير المكون من ثلاث عشرة حلقة، والذي أنتجته شركة "الصباح" عن نص للكاتب الجديد بيار صمعة وبإشراف المخرج جو بوعيد، والذي عُرض قبيل شهر رمضان، هو مسلسل مختلف عن كل ما تم إنتاجه من قبل، فعلى الرغم من كونه عملاً درامياً يعيد استهلاك شخصيات الفنانين الاستثنائية ويسلط الضوء على رهافة حساسيتهم تجاه التفاصيل الدقيقة في العالم؛ إلا أنه لا يكتفي بالوقوف عند هذه النقطة التي كانت تتعطل بعدها عجلة الصراعات الدرامية، وإنما يغوص في الأعماق إلى ما هو أبعد من ذلك، ليرسم صراعا دراميا شبيها بصراع موزارت وساليري في مسرحية بيتر شافر؛ لتكون الموهبة والإبداع والأصالة، وباقي المفردات التي يتم تصويرها عادةً باعتبارها نوعاً من المثالية الفائقة التي تميز الفنانين عن سائر البشر، ليست سوى اضطرابات نفسية قد تؤدي إلى طريق مختلف تماماً، وتعطي الدوافع لارتكاب جرائم القتل؛ لنجد أن "رقصة مطر" يقفز فجأة من دوامة الصور النمطية عن الفن والفنانين، التي علقت فيها الدراما السورية والعربية، إلى نقطة بعيدة جداً، لا يكتفي فيها باقتباس شكل العلاقات المقترح في مسرحية "أماديوس"، بل يتعداه ليخلق شبكة علاقات معقدة وفريدة وتحتوي على نزعة شعرية مغايرة لكل ما سبقها.
ففي مسرحية "أماديوس"، يتم تصوير الفنان الطموح والذي لا يتناسب طموحه مع إمكانياته الإبداعية، على أنه شخص مضطرب نفسياً، من الممكن أن يرتكب جريمة قتل للدفاع عن مكانته الرفيعة التي يتوهمها، وهو بالضبط ما يفعله "ساليري" عندما يقتل "موزارت"، ليحافظ شافر على جزء من الصورة النمطية للفنان المبدع بشخصية "موزارت"، فهو الضحية النمطية ذات الوعي الأعلى والإحساس المختلف بالتفاصيل. وفي مسلسل "رقصة مطر"، يتم الإيحاء في الحلقات الأولى أننا نشاهد حكاية مشابهة بين الفنان المبدع "بسام" وبين الفنان ذي الإمكانيات المحدودة "نزيه"، الذي يقدم على جريمة قتل عشيقة "بسام" بدافع الغيرة، وبهدف توريط "بسام" بالجريمة والاستيلاء على مكانته وفرقته الموسيقية وكل ما يملك؛ لكن الحبكة البوليسية التي تتصعد بعد انتحار "نزيه" تدفع الحكاية إلى مكان مختلف تماماً، ليتبين لنا أن الفنان صاحب الإمكانيات المحدودة ليس قادراً على التخطيط بهذه العبقرية، وأن الفنان المبدع بإمكانه أن يبدع بارتكاب جريمة وبالتملص من مسؤوليتها. وبسبب هذا التحول، الذي يقترح دوافع وبنية علاقات غير نمطية، تزداد حدة الإثارة في الحلقات الأخيرة من المسلسل لتكون واحدة من أفضل النهايات التي نشهدها في المسلسلات السورية – اللبنانية المشتركة.
ذلك لا يمنع من ذكر وجود بعض السلبيات في العمل، أبرزها البداية البطيئة ووجود بعض المشاهد واللقطات الكليشية التي قد تؤدي لنفور المتابع قبل الوصول إلى ذروة الحدث، بالإضافة إلى وجود بعض الأخطاء في بنية الحبكة تتعلق بالزمن ما بين سرقة النوتات التي يحتفظ بها "بسام" وبين ارتكابه للجريمة الأولى، وما ينجم عنها من شهادات لا منطقية، يعتمد عليها "بسام" في خطته للخروج من السجن الذي دخله بإرادته في نهاية المطاف. ورغم هذه الهفوات، فإن المسلسل يمكن وصفه بأنه واحد من أفضل الأعمال البوليسية السورية أو المشتركة، وأنه جاء كبطاقة إنقاذ لمسيرة مكسيم خليل، الذي دخل في نفق مظلم من بعد مسلسل "أولاد آدم"، ليستعيد في "رقصة مطر" تألقه من جديد.