في الوقت الذي تسعى بعض الأنظمة عربياً وإقليمياً جاهدة لإعادة تعويم نظام الأسد على المستوى العربي والدولي، حافظت قطر على موقف ثابت في دعم الشعب السوري وتعاطيها مع الأزمة السورية العالقة منذ سنوات دون أي تحرك سياسي فعلي ينهي ما أطلق عليها "مأساة القرن".
العجز عن محاسبة مجرمي الحرب في سوريا
وفي إطار ذلك، جدد أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قوله، أمس الثلاثاء، إن "المجتمع الدولي عجز عن محاسبة مجرمي الحرب في سوريا".
وأضاف، خلال خطاب ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة: "لا يجوز أن تقبل الأمم المتحدة أن يتلخص المسار السياسي بسوريا في ما يسمى اللجنة الدستورية".
وأشار الشيخ تميم إلى أن بعضهم "يسعى إلى طي صفحة مأساة الشعب السوري بلا مقابل ويتجاهل تضحياته الكبيرة من دون حل يحقق تطلعاته ووحدة بلاده".
وعبّر خلال خطابه عن تضامنه "الكامل مع الشعب الفلسطيني الشقيق في تطلعاته"، في خطوة تكاد تكون الوحيدة التي تذكر بمأساة السوريين في أورقة أكبر تجمع دولي.
خطاب الجمعية العامة للدورة ٧٧ #الأمم_المتحدة https://t.co/BbIW59CSTc
— تميم بن حمد (@TamimBinHamad) September 20, 2022
وقبل أسبوع قال أمير قطر إن جامعة الدول العربية قررت استبعاد النظام السوري لسبب وجيه، وهذا السبب ما زال موجوداً ولم يتغير.
وفي إجابته عن سؤال صحيفة "لوبوان" الفرنسية، "ماذا تقولون للدول العربية التي تعمل على إعادة قنوات التواصل مع سوريا؟" أوضح أمير قطر، أن "لكل دولة الحق في أن تقيم علاقات مع أي دولة تختارها".
"قائد يرتكب المجازر ضد شعبه"
وأكّد الشيخ تميم في حواره مع الصحيفة الفرنسية قائلاً: "أنا مستعد للمشاركة في أي محادثات في حال كان لدينا عملية سلام حول مستقبل سوريا ومطالب شعبها، لكن هذا ليس هو الحال في هذه اللحظة".
وأضاف أن "عدداً من الدول الأوروبية استقبلت اللاجئين بسخاء، وأتفهم أن ذلك تسبب بمشكلات. لكن لماذا نقبل بأن يقوم قائد بارتكاب المجازر ضد شعبه وطرد ملايين اللاجئين من بلاده؟ هل هذا مقبول بالنسبة لنا كبشر؟ وماذا لو كنا نعرف أن هؤلاء اللاجئين سيأتون إلينا، ما سيتسبب بمشكلات؟".
وشدد أمير قطر على أنه "بدلاً من انتظار النيران لتصل إلى منازلنا، يتعين علينا أن نتصرف بجدية ونضع حداً للمشكلة من أساسها في سوريا، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا. إذا لم نكن حذرين، سنواجه عواقب وخيمة".
جمود الملف السوري
ولعل أمير قطر هو القائد العربي الوحيد على الساحة حالياً الذي ما زال يذكر بجرائم النظام وضرورة محاسبته. في الوقت الذي ما زالت الأزمة السورية على وضعها المعلق سياسياً، وعدم جدية اللاعبين الدوليين في الدفع نحو إجراء تغيير حقيقي على أرض الواقع، في حين يحاول النظام السوري تطبيع علاقاته مع أي دولة يمكنها أن تساعده للخروج من أزماته.
ويرافق الجمود بالملف السوري، انهيار اقتصاد البلاد وتراجع قيمة الليرة السورية لأدنى مستوياتها أمام الدولار، في مقابل فشل كامل للنظام في تقديم أي حلول للسكان في مناطق سيطرته معظمهم يعيشون تحت خط الفقر، إلى جانب الآثار العالمية التي خلفها وباء فيروس كورونا المستجد، والغزو الروسي لأوكرانيا، الذي انعكس سلباً على حياة السوريين.
وثمة إجماع على أن الدبلوماسية الدولية بخصوص سوريا تمر في مرحلة جمود كبيرة بسبب تطورات الأوضاع الدولية على مختلف الساحات والجبهات في مختلف دول العالم.
ويتوضح ذلك في إصرار روسيا وإيران على إعادة تأهيل النظام السوري بأي شكل، مع عدم وجود خريطة طريق دولية حيال سوريا، فضلاً عن قلة اللقاءات الثنائية بين الدول المعنية والدول الضامنة.
ولا شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد غطى على جملة الأحداث في أنحاء العالم بما في ذلك الأزمة السورية، مع استخدام موسكو للملف السوري كورقة ضغط على الغرب لتخفيف حدة العقوبات والتصريحات ضدها بما يخص الحرب الأوكرانية.
قطر والثورة السورية
حافظت قطر على موقفها من الثورة السورية خلال أكثر من عقد، وساندت الشعب السوري في مطالبه بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية.
وكانت من أوائل الدول العربية التي استنكرت استخدام العنف المفرط الذي واجه به النظام السوريين، بعد زجه الآلة العسكرية بمواجهتهم بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي، بدعم روسي إيراني، وباستقدام للميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية، وجعل سوريا ساحة للصراع الدولي.
وفي عام 2011 قطعت قطر علاقاتها مع النظام السوري، ثم سحبت سفيرها بعد قرار الجامعة العربية تجميد عضوية النظام السوري؛ بسبب عدم قبوله بالمبادرة العربية ووقف عملياته العسكرية تجاه المتظاهرين.
واستضافت قطر مؤتمرات إنسانية وإغاثية وسياسية عديدة تخص سوريا خلال السنوات الماضية، إلى جانب اعترافها بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية كممثل للشعب السوري، وسمحت بافتتاح سفارة سورية ممثلة للائتلاف في الدوحة ترفع علم الثورة السورية.
من أكبر الداعمين
وكانت الدوحة من أكبر الداعمين إنسانياً على المستوى العالمي للشعب السوري، حيث وصلت قيمة الدعم منذ بداية الثورة السورية عام 2011 إلى ملياري دولار، وفق بيان أدلت به علياء أحمد بن سيف آل ثاني، المندوب الدائم لدولة قطر لدى الأمم المتحدة بنيويورك، في جلسة غير رسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة، في 3 آذار 2021.
كما تنشط الجمعيات الخيرية والمؤسسات التنموية القطرية في الملف الإنساني السوري من خلال حملاتها المستمرة، وعلى رأسها "صندوق قطر للتنمية" التابع للحكومة، و"الهلال الأحمر القطري"، و"جمعية قطر الخيرية".
ووصلت قيمة التدخل الإنساني لجمعية قطر الخيرية وحدها خلال 10 سنوات (2011- 2020) لإغاثة الشعب السوري إلى 898.2 مليون دولار، استفاد منها 22.8 مليون لاجئ ونازح، بحسب إحصائيات نشرتها الجمعية.
وخلال العامين الماضيين لم تتوقف قطر عن تقديم المساعدات خصوصاً في المناطق شمال غربي سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية التي تضم نحو 5 ملايين سوري، معظمهم من المهجرين قسرياً بسبب القصف أو التسويات التي أجراها النظام برعاية روسية.
موقف ثابت
تصريحات الأمير للصحيفة الفرنسية، هي استمرار لموقف قطر الذي يبدو ثابتاً في تعاطيه مع الملف برمته منذ بداية الثورة، وهو إيجاد طرق ومسارات جديدة نحو حل وانتقال سياسي حقيقي وشامل في سوريا، وفق مقررات الأمم المتحدة واجتماعات جنيف، وعدم إفلات المسؤولين عن الجرائم من المحاسبة.
آخر حديث قطري بشأن الملف السوري، جاء خلال مشاركة الدوحة في الاجتماع الدولي الرابع حول سوريا، الذي عقد نهاية آب 2022، في مدينة جنيف السويسرية، بدعوة من الولايات المتحدة.
ووفقاً لوزارة الخارجية القطرية، فقد أعربت قطر عن قلقها لعدم اتخاذ النظام السوري أي خطوات لحل الأزمة المستمرة منذ 11 عاماً، ودعت الشركاء الدوليين إلى مواصلة الجهود لتقديم الدعم اللازم للشعب السوري.
وقالت الدوحة خلال الاجتماع إن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق هذه المجموعة تتمثل في التنسيق والمساعدة لوضع حد للمعاناة التي تحملها السوريون خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية".
ورغم عدم تغيّر الأوضاع في دمشق، فإن الدوحة ترى ضرورة توحيد الجهود أكثر من أي وقت مضى لدعم السوريين والمحافظة على كرامتهم، وحل الأزمة السورية من خلال التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254".
ومن خلال تصريحات المسؤولين في قطر، وبالأخص وزارة الخارجية المعنية بالملف بشكل أساس، تؤكد بشكل مستمر على ضرورة مواصلة توثيق الانتهاكات والجرائم في سوريا، ورحبت بجميع الجهود المبذولة وعلى كل المستويات، لضمان تحقيق المساءلة لجميع المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت بحق أبناء الشعب السوري.
محاولات تعويم النظام السوري
في مقابل الموقف الثابت والمتقدم لقطر تجاه مأساة السوريين، غيّرت العديد من الأنظمة العربية مواقفها تجاه النظام السوري علنياً أو ضمنياً، فقد سعت العديد من الدول العربية لإعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية لنظام الأسد، إلا أن عدم وجود إجماع عربي في الجامعة حال دون ذلك برفض بدا واضحاً من قطر والسعودية.
وأكثر من مرة أكّدت قطر وحتى السعودية رفض تعويم نظام الأسد عربياً وإقليمياً، رغم مغازلات النظام السوري وبث الشائعات عن اقتراب تطبيعه مع دول الخليج، وبالأخص مع الرياض التي عبرت عن موقفها الواضح على لسان مندوبها الدائم في مجلس الأمن عبد الله المعلمي.
لكن دول أخرى على رأسها الإمارات والبحرين والجزائر وسلطنة عُمان كان لها مواقف أخرى، حيث أعادت أبوظبي علاقاتها مع النظام ثم فتحت سفارتها في العاصمة دمشق نهاية عام 2018، معتبرة خطوتها "تفعيلاً للدور العربي بسوريا، ومواجهة للتغوّل الإيراني والتركي". وعلى منوال الإمارات فعلت البحرين.
ورغم دعواتها لإسقاطه إبان اندلاع الثورة السورية على لسان وزير الخارجية عبد الله بن زايد، كانت الإمارات أول دولة عربية تستقبل بشار الأسد على أراضيها، بعد زيارة وزير خارجيتها إلى دمشق، في خطوة بدت تجاوزاً للعقوبات الأميركية والتحذيرات من إعادة العلاقات مع النظام.
في حين لم تنجح حتى الآن كل الجهود التي تبذلها هذه الأنظمة لإعادة تعويم بشار الأسد عربياً بشكل نهائي، وإقفال الملف السوري لصالح "قائد ارتكب جرائم بحق شعبه" وفق التصريحات التي أدلى بها أمير قطر.