اتسمت السياسية الخارجية التركية خلال 2023، بالهدوء النسبي حيث شهدنا عودة العلاقات التركية مع العديد من الدول في المنطقة، فالرغبة التركية بتطبيق سياسية صفر مشكلات هي رغبة حقيقة، ولكن ربما تكون غير حقيقة عند بعض الدول، لذلك تحاول أنقرة قدر المستطاع خفض التوترات مع الدول الأخرى مع بداية القرن التركي الجديد الذي يتميز بعلاقات سياسية اجتماعية اقتصادية جيدة مع دول الجوار وبعض الدول الغربية، وترسخت سياسة التطبيع خاصة بعد فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية، حيث رأينا زيارات مكثفة مع الدول الخليجية وتعاون سياسي مكثف مع مصر واليونان وبعض الدول الأخرى، حيث إن العالم يذهب نحو التكتلات، ولا سيما بعد أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وكلما كانت دول الشرق الأوسط متناغمة سياسيا تناقصت الهيمنة الأميركية والغربية على المنطقة، ولكن هذا لا ينفي وجود تحديات كبيرة تنتظر الحكومة التركية في عام 2024.
العلاقات التركية مع العالم العربي
تتعاون تركيا حاليا مع كل الدول الخليجية على جميع المستويات وخاصة الاقتصادية، حيث رأينا زيارات مكثفة من وإلى الدول الخليجية، وشهدنا توقيع العديد من اتفاقيات التعاون مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، ولم يتوقف التعاون على المستوى الاقتصادي فقط بل شهدنا توقيع اتفاقيات بخصوص الصناعات العسكرية، وأعتقد أن هذا الأمر مهم جدا وغير مريح لبعض الدول الغربية التي احتكرت سوق السلاح لمدة سنوات طويلة، فالتعاون التركي الخليجي نقطة قوة للعالم الإسلامي، وسيعزز قوة الشرق الأوسط في كل الميادين العالمية، من جانب آخر شهدنا تطورات كثيرة في العلاقات التركية العراقية بخصوص مكافحة الإرهاب ونقل النفط وملف المياه، حيث زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان العراق ووضع أساسات متينة لتأسيس علاقات وثيقة مع العراق، وإذا رغبت العراق بتطوير العلاقات بشكل أسرع يجب عليها أن تلبي طلبات الدولة التركية التي تتمثل بإدراج حزب العمال الكردستاني على لائحة الإرهاب بشكل رسمي، لكي تستطيع تركيا والعراق مكافحة هذا الخطر الموجود على الحدود المشتركة، وإلا ستستمر التوترات بين البلدين بين الحين والآخر خلال العام الجديد، وإذا أردنا الخوض في العلاقات التركية المصرية سنرى تطورا ملحوظا في مسار العلاقات بعد تعيين السفراء في البلدين، وأعتقد أن هذه الخطوة ستعجل بلقاء الرئيس التركي مع الرئيس المصري خلال العام الجديد. وبالنسبة إلى الملف السوري، أعتقد أن هذا الملف هو الملف الأعقد على طاولة الحكومة التركية، بسبب تشابك مصالح عدة دول إقليمية ودولية في هذا الملف، وتعنت النظام السوري تجاه القرار الأممي 2254، وبالإضافة لذلك شبح التقسيم يحوم على الأراضي السورية، وهذا ما لا تريده أنقرة، حيث تؤمن أنقرة بوحدة الأراضي السورية بعيدا عن الانقسامات العرقية والطائفية، لذلك في تقديري ستستمر التوترات التركية السورية خلال 2024 وخاصة بعد النشاطات المشبوهة لقوات قسد على الحدود التركية السورية، ومن الممكن أن نشهد عملية برية عسكرية تركية خلال العام الجديد.
العلاقات التركية مع الولايات المتحدة
في تقديري ستستمر العلاقات التركية الأميركية بالشد والجذب، فخيار قطع العلاقات غير وارد، وخيار المصالحة الكاملة غير وارد، بسبب اختلاف وجهات النظر بالعديد من الملفات الإقليمية والدولية، ودعم الولايات المتحدة للمجموعات والتنظيمات الإرهابية الموجودة في شمالي سوريا والعراق بحجة محاربة داعش، فمنذ أيام قليلة أعلنت الولايات المتحدة عن دعمها لقوات قسد بمبلغ 156 مليون دولار بحجة محاربة داعش في العام الجديد، من ناحية أخرى يوجد العديد من الملفات العالقة بين أنقرة وواشنطن كملف الطائرات الحربية والصناعات الدفاعية وملف تسليح الجزر اليونانية والدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل، ويجب ألا ننسى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب وتغير الرئيس والإدارة الأميركية سيكون له تأثير كبير في مستوى العلاقات الثنائية فإما خفض للتصعيد أو توترات مستمرة.
العلاقات التركية مع دول الاتحاد الأوروبي
يقال إن الجغرافية قدر وقدر تركيا أن تكون بين قارة آسيا وأوروبا، وهذا الشيء أضفى على تركيا خصوصية جيوسياسية، لم يستوعبها البعض حيث لا يعقل أن تلعب تركيا دورا كبيرا في الملفات الأوروبية، ومع ذلك تعارض بعض الدول الأوروبية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، تركيا سئمت من سياسية الاتحاد الأوروبي المتمثلة بـ "أنا أربح، وأنت تخسر" تركيا تريد تبديل هذه السياسية الأوروبية إلى سياسة جديدة اسمها "أنا أربح، وأنت تربح"، تركيا لعبت دروا مهما في ملف اللاجئين، وهي عضو فعال في حلف الناتو، من جانب آخر تركيا ليست ضد انضمام أي دولة لحلف الناتو، ولكن هي ضد انضمام دول داعمة للإرهاب، فالشروط التركية لانضمام السويد لحلف الناتو شروط واضحة تتمثل بإصدار قوانين لمكافحة الإرهاب وتطبيقها على أرض الواقع، ولكن المشكلة تكمن بعدم الوضوح لدى الجانب الأوروبي، الذي يتقن فن المراوغة، لذلك باعتقادي أن المراوغات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ستسمر خلال السنة الجديدة، ومن الممكن أن نرى قبولاً تركياً لانضمام السويد لحلف الناتو مقابل مكاسب سياسية لتركيا خلال عام 2024، بالإضافة لذلك سنشهد بعض التوترات بين تركيا وفرنسا بسبب اختلاف بوجهات النظر في العديد من الملفات كالملف الإفريقي.
العلاقات التركية مع روسيا ودول منظمة بريكس
خلال الحرب الروسية والأوكرانية أتقنت تركيا دور الوسيط من دون أن تنجرف وراء الغرب، وهذا الشيء عزز الثقة الروسية تجاه تركيا، حيث تعتبر تركيا الجسر الوحيد بين روسيا والغرب لذلك تركيا دولة غير قابلة للاستبدال بالنسبة إلى روسيا والتعاون الروسي التركي بمجال الطاقة هو تمهيد لجعل تركيا مركزا للغاز الروسي، وهذا ما سيزعج الغرب كثيرا، من ناحية أخرى نرى تبايناً بوجهات النظر ببعض الملفات كالملف السوري، فالسياسة الروسية لا تتفق بما فيه الكفاية مع السياسة التركية في سوريا وتركيا تنتظر دائما تغير الموقف الروسي تجاه القضية السورية، التي عانت الأمرين خلال عقد من الزمن، ومن الملفات المهمة بين تركيا وروسيا أيضا ملف الصراع الأذربيجاني الأرمني في إقليم كاراباخ، ونستطيع أن نقول إن العلاقات التركية الروسية هي واقعية أكثر من العلاقات التركية الغربية، وأعتقد ستظل واقعية ومنطقية خلال العام الجديد أيضا.
بعد انضمام بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية لمنظمة بريكس كثر الحديث حول انضمام تركيا أيضا، ولكن أعتقد أن الوضع أعقد من ذلك، حيث إن انضمام تركيا لمنظمة بريكس سيوتر العلاقات مع الدول الغربية لذلك أعتقد أن تركيا ستكون قريبة من دول بريكس، ولكن لن تنضم إلا إذا انقطع أملها تماما من الاتحاد الأوروبي.
العلاقات التركية مع إسرائيل
بعد الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، العلاقات التركية مع حكومة نتنياهو أصابها الشلل، ولكن هذا لا يعني قطع العلاقات التركية الإسرائيلية كلّياً، فتركيا مستمرة في سياسة صفر مشكلات لذلك تنتظر تركيا رحيل نتنياهو وتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ولا سيما أن تركيا اقترحت آلية الضامن، وتريد أن تكون ضامنا للطرف الفلسطيني بعد نهاية الحرب في غزة.
العلاقات التركية الإيرانية
تركيا وإيران قوتان إقليميتان مشتركتان في منطقة جغرافية واحدة لذلك نرى تنافسا كبيرا بين الدولتين، ومن أعقد الملفات بين تركيا وإيران هما الملف السوري وملف ممر زنغزور.
هذا الممر الذي سيربط تركيا بكل الدول التركية دون المرور في إيران، وهذا ما تعارضه إيران، ومن ناحية أخرى يجب ألا ننسى الدعوات الإيرانية لخروج الجيش التركي من سوريا، متناسية أنه هناك نحو 911 كم من الحدود بين تركيا وسوريا وأن تركيا تستضيف أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أراضيها، تركيا وإيران حلفاء، ولكن يجب على إيران أن تتعامل بواقعية ومنطقة تجاه تركيا وتجاه المنطقة.
العلاقات التركية اليونانية
بعد تبادل البلدين رسائل التضامن بشأن زلزال كهرمان مرعش في تركيا وحادثة تصادم قطارين في اليونان، انتقلت العلاقات إلى مستوى أكثر هدوءا، وشاهدنا اتصالات وزيارات ومباحثات كثيرة بين البلدين، آخرها كان زيارة للرئيس أردوغان إلى اليونان حيث تم مناقشة جميع الملفات، وتم الاتفاق على فتح صحفة جديدة بين البلدين، وأعتقد أن هذه نهاية سنة جيدة لكلا الدولتين، وسنشهد تنسيقاً وتعاونا أكبر خلال عام 2024 وخاصة بموضوع شرق المتوسط، ولكن ما يثير القلق هو تدخل الولايات المتحدة بهذا الملف عن طريق تسليح الجزر اليونانية وجعلها مراكز وثكنات عسكرية أميركية.
العنوان الرئيسي للعلاقات التركية مع الدول الأخرى هو أنا "أربح وأنت تربح"
تركيا خلال العام القادم ستستمر بسياسة صفر مشكلات مع جميع الدول، ولكن يجب التذكير أن سياسية صفر مشكلات لا تتعارض مع حماية الأمن القومي التركي، لذلك تركيا ستحاول توطيد العلاقات والتعاون في كل المجالات السياسية والإنسانية والاجتماعية والعسكرية مع كل الدول، ولكن لن تتهاون في حماية أمنها القومي، والعنوان الرئيسي للعلاقات التركية مع الدول الأخرى هو "أنا أربح، وأنت تربح" أي ليس هناك مكان للخسارة مع تركيا وهذا عكس السياسة الغربية التي طالما استخدمها الغرب تجاه دول العالم عامة ودول الشرق الأوسط خاصة.