لا شك أن الأمن والاستقرار في المجتمعات الإنسانية يسهم وإلى حد كبير في رقيها وتقدمها، ولا شك أيضا وفي كل الأزمنة والأمكنة بأن من أعظم المسؤوليات والواجبات التي تقع على عاتق سلطات الدولة بجميع مكوناتها وأشكالها، أو حتى على سلطات الأمر الواقع وأصحاب النفوذ التي باتت تعج بهم الجغرافيا السورية، هي مسؤولية الحفاظ على استتباب واستقرار الأمن، والعمل الجاد المستمر والهادف على مراقبته وضبطه، والجاهزية الدائمة للتصرف وبالوقت المناسب لاجتثاث كل ما من شأنه أن يزعزع الحالة الأمنية ويسبب الخوف والأذى للشعب، أو يهدد بأي شكل من الأشكال حياة الأفراد وسلامة المجتمعات والممتلكات العامة والخاصة، وعليه فقد بات من المعروف والمسلم به أنه وعندما تنهار المنظومات الأمنية في أي دولة أو بقعة في العالم، فإن المواطن الذي لاحول له ولا قوة سيكون غير قادرٍ بأي شكل من الأشكال على عيش حياته وممارسة نشاطاته وإبداعاته بالشكل الطبيعي والاعتيادي، بل سيكون مجبرا ورغما عنه على العيش مع كثير من حالات الظلم والقلق والخوف في أمكنة بات يغلب عليها طابع عدم الاستقرار َوسمة الفوضى والتناحر والاقتتالات الفصائلية الدامية والمتواصلة، ناهيك عن انتشار العصابات والجريمة بأنواعها وتصفية الحسابات وسيطرة الأقوى، وطغيان قانون وشريعة الغاب، وخاصة عندما يأتي هذا كله مترافقا مع ظواهر سيادة الفساد وانتشار الحواجز والمعابر والمواد المخدرة، وظاهرة السلاح المنفلت وسهولة الحصول عليه واقتنائه من قبل الجميع، وهذه الأمور مجتمعة للأسف أصبحت غالبا ما تكون مترافقة مع قيام الثورات والاضطرابات التي تحدث في العديد من الدول ومنها سوريا.
في الواقع أصبح العمل والنشاط الأمني في عموم المناطق السورية، وخاصة منها المناطق المحررة الواقعة تحت سلطة الفصائل مترافقا غالبا مع قلة الوعي والانضباط، وفقدان الحس الأمني، وقلة خبرة وحيلة القادة والعناصر القائمين على هذا النشاط المهم، لا بل لم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما وصول حالة التردي والانزلاق إلى حدود خطيرة كالتكسب والمنفعة المادية والشخصية من قبل العديد من الجهات التنفيذية القائمة على الحالة الأمنية، وانشغالهم التام دون أي واعز ثوري وأخلاقي، ودون الاكتراث بالعواقب الكارثية التي سيخلفها هذا الأمر والتي ستنعكس دون أدنى شك بشكل سلبي كبير وواضح على الحالة النفسية والمعيشية لسكان هذه المناطق، ناهيك عن أن ذلك سيفسح المجال لمتربصين كثر للاستفادة من هذا الوضع غير الطبيعي والاستثمار بشكل أخطر فيه، طبعا هذا كله لا يأتي عن عبث بل مستندا إلى العديد من العوامل كفقدان الحس بالمسؤولية والمحاسبة والمساءلة، وغياب القدرة الفعلية للقادة على ضبط سلوكيات العناصر العاملة في المؤسسات والكيانات والمجموعات المكلفة بالعمل الأمني بجميع مسمياتها والجهات الكثيرة التي تتبع لها، وعليه نجد لزاما علينا القول إن الواقع اليومي المعاش في المناطق المحررة يوحي بأن الجهات الأمنية متعددة المشارب والتبعيات لا تزال وكما هو واضح بعيدة كل البعد عن امتلاك القدرة والاحترافية في غالبية مفاصل العمل الأمني والتعامل معه بالشكل الأمثل، وبالتأكيد فإن افتقاد هذه الاحترافية وغياب المسؤولية والحس الوطني والأخلاقي، سيؤدي حتما إلى غياب القدرة على فرض الأمن واستتبابه، وعليه سيكون الطريق معبدا أمام زيادة الجرائم المرتكبة وكثرة الانتهاكات والاختراقات الأمنية وتكرارها بشكل مستمر.
أهم أسباب الانفلات الأمني في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل:
لا شك أن هناك العديد والكثير من الأسباب المؤدية إلى حالة عدم الاستقرار وتردي الحالة الأمنية في المناطق المحررة والتي يأتي على رأسها:
- عدم امتلاك وزارة الدفاع ووزيرها والقائمين عليها وعلى الحالة الأمنية في الحكومة السورية المؤقتة القدرة والآليات والصلاحيات الحقيقية والفعالة التي تُلزِمْ الفصائل وقياداتها بالتقيد التام بالتوجيهات والتعليمات العسكرية والأمنية الصادرة عن وزارة الدفاع والقيادات الأمنية المسؤولة، هذا بالطبع إن وجدت مثل هذه التعليمات والتوجيهات الأمنية الصحيحة والفعالة.
- الفصائلية المقيتة وحالات الاقتتال الدائمة للفصائل على المكتسبات والعوائد المادية والمعابر ومداخليها، وعدم الوصول الحقيقي والفعال بعد كل هذه السنوات التي مرت على الثورة إلى هيكلة مؤسسة أمنية وجيش وطني بقيادة عسكرية وأمنية أكاديمية واحدة واعية وحازمة قادرة على مسك زمام الأمور وضبط الأوضاع المنفلتة في المناطق المحررة.
- الواقع الميداني والعسكري الساخن والبيئة الأمنية والعسكرية المضطربة الذي تعيشه تقريبا كل المناطق المحررة في الشمال السوري، وانتشار عصابات النظام المجرم وميليشيات قسد بالقرب من خطوط التماس، وهؤلاء المرتزقة كما نعلم ليس لهم هدف أهم من العمل وبكل الوسائل الممكنة والمتاحة على إبقاء هذه المناطق في حالة فوضى وفلتان أمني، وذلك من خلال اللجوء إلى القصف المباشر للبلدات والمدن والتضييق أمنيا ومعيشيا على سكانها، أو من خلال خلايا مأجورة تأتمر بأوامرهم مهمتها القيام بأعمال الاغتيالات والخطف والتفجيرات، ونشر المخدرات وغيرها من الجرائم.
- عدم توافر ووجود الإرادة الحقيقية من قبل المسؤولين السياسيين والعسكريين وكل الفصائل للوصول الفعلي إلى إنشاء أجهزة أمنية مهنية مختصة تضم بين جنباتها أصحاب الخبرة والاختصاص من الضباط وصف الضباط الأكفاء المنشقين الذين تعج بهم المناطق المحررة ومخيمات اللجوء والنزوح. وتفضيل المذكورين أعلاه العمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه وذلك حرصا على استمرار وديمومة مصالحهم.
- نتيجة الفقر والحاجة وقلة الأعمال فقد أصبح الجيش الوطني والمؤسسات الأمنية ولاعتبارات عديدة، تقبل وللأسف في صفوفها المتطوعين دون التدقيق في حاضرهم وماضيهم، أو حتى مجرد دراستهم أمنيا بشكل صحيح، والتأكد من سلوكياتهم وأخلاقياتهم وصلاحيتهم للعمل العسكري والأمني، وهذا بحد ذاته ما سيجعل هؤلاء مهتمين بالحصول على الراتب والمال أكثر بكثير من اهتمامهم بالقيام بواجباتهم وانشغالهم الواعي بالحالة الميدانية والأمنية للمناطق التي يعملون فيها والمسؤولين عنها.
ختاما... كما ذكرنا سابقا إن المواضيع الأمنية تعتبر إحدى أهم الركائز الأساسية والمهمة التي يُستنَد إليها في عملية الاستقرار والتعافي، ودوران عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنتظمة لأي منطقة، ولا شك أن هذه الأهمية تزداد الحاجة الماسة إليها إذا أخذنا بعين الاعتبار الواقع المزري والحالة الأمنية المضطربة التي تعيشها مناطق الشمال السوري عموما، هذا الواقع الذي نراه من خلال المتابعة وشهادة كثيرين لم يشهد أي تحسن ملموس على الأرض رغم مرور فترات زمنية ليست بالقصيرة على تحرير وخلاص تلك المناطق من سيطرة تنظيم “داعش” أو من عصابات “قسد”. ومن هنا نجد أنه من الواجب علينا التأكيد على أهمية بل وضرورة المسارعة في إعطاء الملف الأمني ما يستحق من الاهتمامات الخاصة به، وذلك من خلال سحب هذا الملف دون أي حسابات وهواجس أخرى من يد الفصائل العسكرية المختلفة التي يجب أن تتفرغ فقط للأعمال القتالية والميدانية، ومن ثم العمل الحثيث والهادف على إعادة صياغة وهيكلة الأجهزة الأمنية غير الفاعلة، وإنشاء جهاز أمني موحد مختص يستطيع ممارسة عمله ونشاطاته لصالح استقرار المناطق المحررة بالكامل دون أي عوائق ومحسوبيات شريطة أن يكون هذا الجهاز تحت المسائلة القانونية وخاضعا لمراقبة ومتابعة الجهات المختصة.