نشر معهد "بروكينغز" الأميركي، للباحث المتخصص بقضايا الشرق الأوسط، ستيفن هايدمان، بحثاً تحدث فيه عن تطبيع الدول العربية مع النظام السوري وإعادته إلى جامعة الدول العربية، معتبراً أن ذلك يشير إلى شرق أوسط جديد.
يمثل إعادة سوريا إلى الجامعة العربية نقطة تحول في التطبيع مع النظام السوري، إذ يمكن اعتباره تتويجاً لحملة استمرت سنوات من قبل الإمارات العربية المتحدة وعُمان والأردن، لإعادة التواصل مع بشار الأسد، على أمل أن يكون إغراء التطبيع أكثر فاعلية من العقوبات لحل المشكلات الإقليمية، مثل اللاجئين وتهريب المخدرات. بحسب البحث.
ولم يؤد التطبيع مع النظام السوري إلى نتائج ملموسة، سواء لسوريا أو للدول العربية، ومن غير المؤكد ما إذا كان ذلك سيحصل في أي وقت، على الرغم من الضجيج الإعلامي المحيط بتصويت الجامعة العربية، لكن مع ذلك، سيكون من الخطأ النظر إلى قرار الجامعة على أنه قرار صاخب ولا يعني شيئاً.
ويقول هايدمان "فإذا نظرنا لتطبيع الدول العربية مع النظام السوري، حتى لو حصل على مضض، فإنه من الممكن شطبه باعتبار اعتراف الأنظمة العربية بأن الأسد لا يمكن التخلص منه ويجب التعامل معه، حتى لو كان ذلك فقط للحد من قدراته على فرض التكاليف على جيرانه".
بنية أمنية إقليمية جديدة
ويتابع أنه عند النظر إلى إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية على أنه قطعة واحدة من أحجية إقليمية أكبر، فإن التطبيع مع الأسد يكون أكثر أهمية، حيث تشير عودته إلى الحظيرة العربية على أنه توطيد مستمر لما لا يمكن وصفه إلا ببنية أمنية إقليمية جديدة، وهي إطار لإدارة الخصومات التي ربما تكون أهم تحول في الديناميكيات الإقليمية منذ الغزو الأميركي للعراق.
وإلى جانب خطوات أخرى ضيّقت الانقسامات الإقليمية، مثل إيران والسعودية وقطر وجيرانها في مجلس التعاون الخليجي ومصر وخصومها العرب وإسرائيل ولبنان حول ترسيم الحدود البحرية أو تطبيع إسرائيل مع الدول العربية، يمكن اعتبار التطبيع مع النظام السوري على أنه خطوة إضافية نحو وقف تصعيد الصراعات الإقليمية المستعصية، وتتجلى آثار هذا التحول أيضاً في اليمن.
وفي التحرك نحو المشاركة البناءة، يبدو أن الفاعلين الإقليميين قد رفعوا البراغماتية والواقعية على الانقسامات الجيوسياسية والطائفية التي قسمتهم لعقود، لكن لا يعني هذا التحول بدايات سلام دافئ بين الخصوم العرب، أو بين الأنظمة العربية وإيران، إذا لا يشير إلى أن التوترات بين الأسد والأنظمة التي عملت منذ بضع سنوات فقط على الإطاحة بنظامه قد تضاءلت.
فقبل أن يجف حبر تصويت الجامعة العربية على عودة النظام السوري قصف الأردن موقعاً لإنتاج المخدرات جنوبي سوريا، كما أنه لن يخفف نظام أمني إقليمي، شامل ظاهرياً، العداء بين إيران وإسرائيل، فقد يكون له تأثير معاكس من خلال زيادة التصورات الإسرائيلية عن الضعف.
الاستجابة لدور واشنطن المتناقص
ما يشير إليه هذا الهيكل الأمني الناشئ هو كيفية استجابة الجهات الفاعلة الإقليمية للتحولات الجيوسياسية الأوسع، لا سيما الدور المتناقص للولايات المتحدة في الشرق الأوسط والنظام الدولي متعدد الأقطاب بشكل متزايد.
وتركت السياسية الأميركية الأنظمة العربية تتحمل نصيباً أكبر من عبء الأمن الإقليمي، ومكنتها من تقليل أولويات الولايات المتحدة في إدارة التهديدات الإقليمية، ووسعت من احتمالات النظر إلى ما وراء الولايات المتحدة، بما في ذلك الصين، لسد الخلافات الإقليمية.
وإذا كان الإطار الذي نشأ من هذه الظروف لن ينهي الانقسامات الإقليمية، فقد يعمل على منع المنافسات الدائمة من التوتر إلى الصراع المفتوح، وإذا حدث ذلك، فقد يشهد الغرب سابقة تاريخية للعالم العربي، وهي: تشكيل إطار أمني منظم محلياً، بعد الحرب الباردة وما بعد السلام الأميركي.
ومهما كان مستقبل دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن المشهد الأمني المتطور يثير سؤالاً أساسياً حول هذا الدور: أين مكان الولايات المتحدة في نظام إقليمي يتحدى العديد من ركائز سياسة واشنطن في الشرق الأوسط؟
على مدى عقود، استندت السياسة الأميركية إلى الافتراضات المشتركة حول تهديد إيران للاستقرار الإقليمي من جانب كل من إسرائيل والأنظمة العربية الموالية للغرب، وسعت استراتيجيتها الإقليمية إلى احتواء إيران وإضعاف عملائها الإقليميين، ودعم الشركاء العرب.
والاحتفاء باتفاقات أبراهام في الولايات المتحدة وإسرائيل على أنها تشير إلى تقارب المصالح بين الخصوم السابقين بأن التهديد الإيراني طغى على الالتزامات المتبقية بإقامة دولة فلسطينية، أما الآن، مع التقارب السعودي الإيراني، والتطبيع مع النظام السوري، وإشارات التحرك في حل مأزق الرئاسة اللبنانية، والزخم الجديد في الدبلوماسية الإقليمية على نطاق أوسع، تبدو الافتراضات الكامنة وراء عقود من السياسة الأميركية غير متوافقة بشكل متزايد مع الاتجاهات الإقليمية.
إدارة بايدن مستعدة لرؤية الشرق الأوسط مشكلة أحد آخر
إن تأثيرات هذا التحول على الولايات المتحدة واضحة بالفعل، ففي الماضين رأت واشنطن أن تطبيع العرب مع نظام الأسد فرصة لإضعاف نفوذ إيران في سوريا، وكثيراً ما بررت الدول العربية التواصل مع دمشق على هذا الأساس، ولطالما كان هذا الهدف طموحاً، إلا أنه مع ذلك، يبدو اليوم أنه تم تجاهله تماماً، فقد قبلت الأنظمة العربية دور إيران كلاعب إقليمي واعترفت، ولو ضمنياً حتى الآن، بشرعية وجودها الإقليمي.
ولا يمكن رؤية مثال صارخ على ذلك أكثر من زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى سوريا، قبل أيام فقط من إعادة جامعة الدول العربية العضوية الكاملة للنظام السوري، مع قليل من الانتقاد حول الزيارة من العواصم العربية.
هذه التحولات السريعة في الدبلوماسية الإقليمية، جعلت إدارة جو بايدن تتخبط، حيث سافر مدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، إلى الرياض للتعبير عن استياء الولايات المتحدة من إبقائها بعيداً بينما توسط الصين في تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية.
وفي خطاب ألقاه مؤخراً، ادّعى مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، وجود دور قيادي للولايات المتحدة في تسهيل التطورات الأخيرة، ولكن مع ذلك، فإن ادعاءاته لا يمكن أن تخفي مدى ضآلة المصالح الأميركية، التي تبدو الآن مهمة في الحسابات الاستراتيجية للفاعلين الإقليميين.
وعلى سبيل المثال، بالكاد ذكر سوليفان سوريا في خطابه، ولم يتحدث عما إذا كانت الولايات المتحدة قد تراجعت عن معارضتها لعودة الأسد إلى الجامعة العربية، وكيف يمكن لواشنطن تعزيز الجهود المتعثرة لمحاسبة النظام السوري على تواطؤه المستمر في القتل الجماعي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ولم تكن إشارات مستشار الأمن القومي عن دعم الدعم الولايات المتحدة للديمقراطية في الشرق الأوسط أكثر من خطوط بعيدة غير واضحة، من إدارة تبدو على استعداد تام لرؤية الشرق الأوسط على أنه مشكلة شخص آخر.
ماذا يجب على الولايات المتحدة أن تفعل؟
ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستذهب عمليات إعادة التنظيم الإقليمية في الشرق الأوسط، وما إذا كانت ستنتج تغييراً دائماً على الأرض، الذي هو أمر غير مؤكد، وطالما استمرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات، فمن المرجح أن تظل سوريا منطقة محظورة اقتصادياً، رغم أنه من المتوقع أن يتعرض نظام العقوبات لضغوط متزايدة.
أما بالنسبة لإيران، فأصبحت مكانتها الآن كلاعب إقليمي أكثر أماناً، ومع ذلك، فإن عدم الثقة العربية أعمق من أن يتم التغلب عليها من خلال تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، ومن الواضح أن الديناميكيات الإقليمية تدور الآن حول محاور ستكافح الولايات المتحدة من أجل التأثير عليها، على الرغم من استمرار وجودها العسكري في المنطقة ومصالحها في مكافحة الإرهاب، والتزامها بكبح برنامج إيران النووي في المستقبل.
هناك الكثير من مختلف الأطياف السياسية في الشرق الأوسط هم اليوم فقط سعداء برؤية الولايات المتحدة مهمشة، وبالنظر إلى سجل واشنطن الحافل في المنطقة، يصعب إلقاء اللوم عليهم.
وعلى الرغم من ذلك، إذا شعرت إدارة بايدن بخلاف ذلك، فستحتاج إلى تقديم نوع مختلف من الأمثلة، وإثبات استعدادها للانخراط بشكل أكثر نشاطاً واتساقاً، ولا سيما في القضايا التي تثير غضب الأنظمة العربية من خلال معارضة التطبيع مع النظام السوري، وانتقاد القادة المستبدين، ودعم القطاعات المدنية المحاصرة بالمنطقة، والبديل لذلك: تراجع الأهمية الأميركية، وتعميق عدم اليقين بشأن ما إذا كان أي شخص في المنطقة سينصت عندما تقرر الولايات المتحدة بأن لديها شيئاً ما لتقوله.
لقراءة المادة الأصلية هنا.