إن اعتماد سوريا بشكل كبير على الجار لبنان، والذي أتى نتيجة لسنوات النزاع والعزلة، جعل المناطق التي يسيطر عليها النظام عرضة وبشكل أكبر للآثار الارتدادية التي خلفتها حالة انعدام الاستقرار على الحدود، ومما كشف هذه الهشاشة على عيون الملأ تصعيد إسرائيل لحملتها العسكرية ضد حزب الله في لبنان، وهذا ما عطل وبشكل كبير تدفق البضائع التي كانت على مدار فترة طويلة تمثل شريان حياة مهما بالنسبة لدمشق، وقد زادت حالات الانقطاع تلك من نقص السلع وفقدانها من الأسواق، ما تسبب بارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية.
تفاقمت الأزمة بصورة أكبر بسبب تدفق الهاربين من لبنان إلى سوريا، بما أن الآلاف منهم عبر الحدود بحثاً عن ملاذ آمن بعيداً عن العنف المتصاعد، وهذا ما جعل الموارد التي تعاني من ضغط بالأصل تصل إلى مرحلة الانهيار، لأن الزيادة المفاجئة في الطلب رفعت تكاليف المعيشة، وزادت من الضغط على الأسر السورية التي تكافح في سبيل العيش في ظل هذه الأزمة الاقتصادية.
خلل في الاقتصاد وارتفاع في الأسعار
عطلت العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل بصورة مستمرة على جنوبي لبنان حركة انتقال السلع إلى سوريا، بما أن ذلك كان يعتبر شريان حياة اقتصاديا مهما بالنسبة للنظام السوري منذ بداية النزاع السوري في عام 2011، وقد تسبب التهديد بانقطاع مزيد من خطوط الإمداد الأساسية بضرر بالغ على أصحاب المشاريع التجارية في سوريا، كما خلف زيادة كبيرة في الأسعار بما أن هؤلاء التجار شرعوا بالاستعداد لمجابهة ظروف أسوأ.
ومن أهم الآثار التي خلفها ذلك بشكل مباشر الارتفاع الهائل في أسعار الوقود والمحروقات، إذ ارتفعت أسعار البنزين بشكل جنوني في السوق السوداء بدمشق لتقفز من 12 ألف ليرة سورية لليتر الواحد (أي ما يعادل 0.81 سنتاً) إلى 30 ألفاً (أي ما يعادل دولارين ونصف) خلال بضعة أيام. وهذا الارتفاع الحاد في أسعار المحروقات أثر بشكل ارتدادي على بقية السلع الأساسية، إذ مثلاً تضاعفت كلفة نقل سلع مثل الفاكهة والخضار، ما أدى إلى ارتفاع في أسعارها بنسبة تراوحت ما بين 15-25% في كثير من المناطق، وهذا ما تسبب بضغط جديد على ميزانية الأسر السورية.
لم تسلم من هذا الارتفاعات حتى السلع التي يستخدمها الإنسان بصورة يومية، فقد ارتفعت أسعار السجائر المستوردة بنسبة تراوحت ما بين 20-30% خلال أسبوع فقط، واختفت بعض العلامات التجارية للسجائر من الأسواق بصورة كلية، كما أصبحت منتجات أخرى مثل فحم وتبغ النارجيلة الباهظة الثمن كثيراً، بعد أن ارتفعت أسعار تلك المواد بنسبة 20%.
العوائق المعرقلة للتجارة والتحديات التي تواجه عملية التصدير
لم يؤثر انقطاع العمليات التجارية على السلع الاستهلاكية فحسب، بل أثر أيضاً على توريد المواد الأولية اللازمة لتشغيل قطاع الصناعة في سوريا، وذلك لأن أغلب تلك المواد تصل إلى سوريا من لبنان، ولهذا تسبب نقص تلك المواد إلى زيادة هائلة في تكاليف الإنتاج بالنسبة للصناعيين السوريين.
أما الصناعات السورية التي تعاني بالأصل من آثار العقوبات، فقد باتت هي الأخرى تواجه عقبة تهدد وجودها بسبب زيادة الأسعار وضعف القوة الشرائية محلياً وعدم القدرة إلى الوصول إلى الأسواق العالمية إلا بصورة محدودة، وهذه الضغوط الإضافية تهدد بتدمير جديد للقاعدة الصناعية في البلد والتي عانت بشكل كبير حتى تصمد في خضم حالة انعدام الاستقرار على المستوى الاقتصادي طوال فترة طويلة من الزمن.
ساء الوضع أيضاً بالنسبة للصادرات السورية، إذ قبل التصعيد الأخير، كان نحو 30-40 شاحنة تجارية سورية تعبر إلى لبنان كل يوم، لتنقل سلسلة من البضائع منها الألبسة والمنتجات القطنية والمواد البلاستيكية والغذائية، ولكن استهداف إسرائيل للمعابر الحدودية وطرق النقل والشحن كاد أن يوقف تلك التجارة. بيد أن خسارة لبنان الذي يعتبر وجهة أساسية للصادرات السورية يمثل ضربة قاصمة للاقتصاد السوري، بما أن لبنان يعتبر أحد الأسواق الأجنبية الناشطة المتبقية أمام سوريا، كما يعد مصدراً حيوياً للقطع الأجنبي الذي يرفد خزينة الدولة، وفي ظل غياب هذا الدخل، تتعرض قطاعات الإنتاج الهشة بالأصل في سوريا إلى مزيد من العزلة والتراجع، وهذا ما حول مسألة التعافي الاقتصادي في سوريا إلى حلم بعيد المنال.
أزمة سكن خانقة
تسببت الحرب في لبنان بتدفق أعداد هائلة من الناس على سوريا، وهذا ما تسبب بخلل في سوق الإسكان في مناطق سيطرة النظام، إذ تشير البيانات الرسمية إلى دخول أكثر من 425 ألفاً إلى سوريا في غضون الشهر الماضي فقط، وهذه الزيادة الهائلة في الطلب على الإسكان، التي اجتمعت مع ضعف الإشراف التنظيمي على هذا القطاع، والنقص في المساكن بسبب الحرب التي قامت في سوريا، دفع بأصحاب البيوت وسماسرة المكاتب العقارية لاستغلال الوضع، وهذا ما أدى لارتفاع كبير في بدلات الإيجار، إذ في معظم مناطق سيطرة النظام، وخاصة في دمشق، زادت الإيجارات بنسبة تراوحت ما بين 50-100%، وفي بعض الأحياء، صار أصحاب البيوت يطلبون دفع الإيجار بالدولار الأميركي، وهذا ما يعكس حالة النقص الهائلة في المساكن، كما صار من واجب المستأجرين اليوم أن يدفعوا بدل الإيجار مقدماً لستة أشهر، وهذا ما صعب الأمور بشكل أكبر على الباحثين عن سكن بسعر معقول.
لم تكن زيادة الطلب على المساكن هي السبب الوحيد الذي أدى لرفع بدلات الإيجار في سوريا، بل هنالك سبب آخر وهو التباين في أسعار بدلات الإيجار بين لبنان وسوريا، إذ على الرغم من أن الإيجارات تعتبر مرتفعة بالنسبة للقوة الشرائية لدى السوريين، نكتشف بأنها ما تزال أقل من متوسط الإيجارات في لبنان، وهذا ما دفع أصحاب البيوت لفرض أسعار على اللاجئين الوافدين أعلى بكثير من سعر السوق.
ونتيجة لذلك، ألفى المستأجرون السوريون القدامى أنفسهم غير قادرين على دفع إيجارات بيوتهم، إذ تشير التقارير إلى أن ملاك البيوت في المناطق التي شهدت تدفقاً هائلاً من اللاجئين، أبلغوا المستأجرين القدامى برفع بدل إيجار البيوت وإلا فعليهم أن يتركوا البيت، وهذا ما زاد عبئاً آخر على الأعباء الثقيلة التي يتحملها المواطن السوري العادي.
كيف أثر ذلك على الناس؟
بالنسبة للمواطنين السوريين العاديين، أصبح الوضع غاية في السوء، وذلك لأن الأجور التي ثبتت عند حد معين لا يكفي لسد الاحتياجات الأساسية، هبطت قيمتها أكثر أمام الزيادة التي لا ترحم في كلفة المواد الأساسية مثل الغذاء والوقود والسكن. كما ارتفع الحد الأدنى لتكاليف المعيشة شهرياً بالنسبة لأسرة مؤلفة من خمسة أفراد ليصل إلى ثمانية ملايين وخمسمئة ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 575 دولاراً)، في حين بقي الحد الأدنى للأجور على حاله والذي وصل إلى 278910 ليرة سورية، أي ما يعادل أقل من 19 دولاراً بالشهر.
وفي الوقت الذي انهارت سلاسل التوريد وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، بات عدد لا يحصى من الأسر السورية أقرب من حد الفقر، بما أن هؤلاء أصبحوا يناضلون حتى يؤمنوا أبسط أساسيات الحياة، ولذلك غدت مسألة البقاء معركة يومية يخوضها أغلب أبناء الشعب السوري، وهذه المعركة تقوض ما تبقى من قدر ضئيل من الاستقرار بالنسبة لمن وصلوا إلى حافة الانهيار. وفي الوقت الذي يواجه الشعب السوري خيارات مستحيلة، ارتفع مستوى السخط بشكل مطرد في مناطق سيطرة النظام، بما أن هذه الضغوط المتزايدة تهدد بتعميق حالات الظلم وزيادة الإحساس العميق بالعجز بين المواطنين السوريين العاديين.
هل ثمة أي توقع بخروج احتجاجات؟
في السابق دفعت العوائق الاقتصادية إلى ظهور حالة معارضة عامة للنظام في مناطق سيطرته، وتجلى ذلك بوضوح في السويداء، حيث خرجت الاحتجاجات في آب 2023، رداً على تخفيض نسبة الدعم المخصص للمحروقات، ومنذ ذلك الحين تحولت تلك الاحتجاجات إلى حركة سياسية أوسع تطالب بتغيير النظام، وذلك لأن استمرار خروج تلك المظاهرات بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، يعبر عن وجود تيار أعمق من الإحباط الذي يمكن أن يتوسع ليصل إلى مناطق أخرى.
وبما أن الديناميات الاجتماعية والسياسية التي تتفرد بها السويداء جعلت منها الاستثناء، بات من المنطقي أن تؤدي الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي استمرت لفترة طويلة إلى خروج مظاهرات مماثلة في مناطق أخرى من سوريا، وعلى رأسها تلك المناطق التي بات السخط فيها يغلي تحت الرماد، مثل درعا وريف دمشق، إلى جانب المناطق الساحلية الموالية للنظام.
إذ في حال تعمق الأزمة الاقتصادية، فإن تلك المناطق يمكن أن تشهد تجدداً لموجات المعارضة، وهذا ما يشكل تهديداً للتصورات التي رسمها النظام حول تحقيقه للاستقرار في تلك المناطق، كما أن الانكماش الاقتصادي لم يعد حكراً على أفقر شرائح المجتمع، لأنه بات يضر اليوم بالعائلات التي تنتمي للطبقة المتوسطة ولأصحاب المشاريع التجارية الصغيرة، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى توسيع قاعدة التململ الشعبية.
ما تأثير ذلك على النظام؟
على الرغم من احتمال حدوث اضطرابات، لا يرجح أحد أن يسبب ذلك زعزعة هائلة لاستقرار النظام، وذلك لأن حكومة النظام أبدت على الدوام استعدادها لاستخدام القوة من أجل قمع المعارضين، وهذا ما تجلى في عمليات القمع السريعة التي جوبهت بها الاحتجاجات التي قامت في مناطق معينة في السابق، إذ على سبيل المثال، وعقب اندلاع الاحتجاجات في السويداء خلال العام الفائت، سارع النظام إلى استهداف مناطق أخرى إثر ظهور بوادر اضطرابات فيها وذلك لاحتوائها ومنع انتشار المظاهرات وتفشيها. وفي غضون أيام قليلة، أجرى النظام أكثر من 100 عملية اعتقال في حلب و70 في المناطق الساحلية، وفرض حصاراً على المناطق التي كانت تخضع لسيطرة الثوار في السابق داخل محافظتي حلب وريف دمشق.
ما تزال قدم الأجهزة الأمنية المتنوعة التي تعمل لدى النظام راسخة في مكانها، ولهذا يمكن أن تجابه أي حالة اضطراب قد تظهر لاحقاً بقمع شديد وفوري. ولكن في الوقت الذي بوسع القوة أن تحتوي أي معارضة بشكل مؤقت، فإنها غير قادرة على استئصال أسباب المعاناة الاقتصادية من جذورها، كما أن الاعتماد المفرط على القمع يمكن في نهاية الأمر أن يخلف نتائج عكسية، كما حدث خلال انتفاضة عام 2011، خاصة في حال وصول حالة الغضب الشعبي إلى نقطة الانفجار فيتغلب عندئذ اليأس على الخوف.
وعلى المدى البعيد، يمكن القول بإن عجز النظام عن التخفيف من غلواء التبعات الاقتصادية التي خلفها استمرار النزاع في لبنان، وخاصة في ظل عدم وجود أي حل على المدى المنظور، يمثل تهديداً كبيراً لاستقراره، كما أن استمرار تدهور الظروف المعاشية يمكن أن يضغط على الموالاة أيضاً، وهذا ما قد يعمق الشقاق بين البطانة المقربة من النظام، ويكشف عن الثغرات في سلطته ويمهد الطريق أمام مزيد من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
المصدر: Middle East Institute