"كان من بين أسوأ الخونة، والأكثر أنانية ممن خدموا العدو في وقت الحرب. خان بلده لمن يدفع سعراً أعلى". أجمع البريطانيون والفرنسيون والأميركان والألمان على وصف شخص واحد خلال الحرب العالمية الثانية بتلك الصفات. نعم، اجتمعت كل الأطراف المتحاربة على احتقاره. رغم أن الخيانة، كما هو معروف، فعل مذموم، إلا أن الطرف المستفيد منها يحاول عادةً وضع بطلها في موقع أفضل من أن يستحق كل ذاك الازدراء. مع ذلك فإن هذا ما حدث مع الضابط البريطاني "هارولد كول" العميل المزدوج.
"أسوأ خائن في الحرب" هي الجملة التي أطلقتها عليه بلاده. يعتقد البريطانيون أن نشأته الوضيعة، حيث سجن عدة مرات بتهم الاحتيال في شبابه الأول، كانت وراء تلك السيرة المشينة. ولكن من يستطيع التأكيد بأن كل الخونة من أصول وضيعة؟ فالتاريخ قدم لنا العديد من أسماء هؤلاء، ممن كانوا يحملون سيرة عطرة، بل وشهادات أكاديمية عليا. في حالتنا السورية، لا يبدو الأمر على هذا النحو، رغم إمكانية الجزم بوجود عدد ممن يشبهون "كول" لدينا.
بعد احتلال هتلر لفرنسا. بقي كثير من الجنود البريطانيين في الشمال الفرنسي، ممن لم تتمكن قيادة الجيش من إجلائهم. احتاج أولئك للاختفاء ريثما يتمكنون من الفرار والعودة إلى بلدهم، قبل أن تقبض عليهم القوات الألمانية. كان كول واحداً من هؤلاء، واستطاع بمساعدة آخرين، والمقاومة الفرنسية، من قيادة عملية الإيواء وتأمين خطوط التهريب، وحقق نجاحاً بطولياً. سيتبين في النهاية أنه كان يعمل من أجل المال، فقد سرق معظم تمويلات العملية. قبضت عليه القوات الألمانية. على الفور، وعد الرجل بتقديم كل أسماء المشاركين، وقدم بالفعل ثلاثين صفحة عليها أسماء وعناوين زملائه السابقين. ألقت القوات الألمانية القبض عليهم بمرافقة كول في عديد من الحالات، وأعدمت خمسين منهم. كانت مقايضة عادلة بالنسبة له، وتحرر من الأسر.
مع تقدم جيوش الحلفاء صيف عام 1944، فر كول من باريس. ارتدى زي ضابط ألماني وانسحب مع الألمان. وفي ربيع 1945 تخلى عن زيّه، وقدم نفسه للأميركيين كعميل سري بريطاني، وحصل على بزّة ملازم في الجيش الأميركي، وبطاقة هوية كعضو في استخبارات الحلفاء. لكن سريعاً، وخوفاً من اكتشاف أمره، فرّ إلى مناطق السيطرة الفرنسية في ألمانيا.
سينكشف أمره، وتنفضح هويته الحقيقية ويلاحق، لينتهي به المطاف مقتولاً خلال مداهمة في باريس
هناك، بسبب أنه ارتدى الزي العسكري الأميركي، حظي بترحيب حار، بعد أن قدّم نفسه على أنه عميل مخابرات متمرس. تم تكليفه بمهمة اعتقال واستجواب النازيين الهاربين. أنجز المهمة بأقصى قدر من النهب والوحشية، بما في ذلك تنفيذ الإعدامات غير المصرح بها. سينكشف أمره، وتنفضح هويته الحقيقية ويلاحق، لينتهي به المطاف مقتولاً خلال مداهمة في باريس.
في حالتنا السورية للأمر وجه آخر، رغم أنه يتقاطع في بعض السمات، مع سيرة كول في بضعة حالات لمعارضين سوريين. تبين للسوريين، منذ البدايات الأولى أن لكل دولة وديعة في هيئات المعارضة. لم يشعر هؤلاء ولا للحظة أنهم عملاء، بل كانوا يعتقدون أنهم يخدمون بلدهم. رغم أن طموحاتهم الفردية كان يمكن أن تشي إلى أين يمكن أن يصلوا في نهاية المطاف. تابعنا جميعاً الصراع الشخصي على المناصب، حين كانت الآمال عالية بسقوط الأسد قريباً. مقولة "يتصارعون على جلد الدب قبل اصطياده" ليست اجتراحاً خارجياً يخص الدول التي انخرطت في الصراع على سوريا، بل هي ما عمل بموجبها حرفياً، من قبل تلك الجهات، كثير من المعارضين منذ بداية الثورة، على المستويين السياسي والعسكري.
فعدا عن الصراع العلني والمخجل على المناصب في الأجسام السياسية، عرفنا عسكرياً كثيرا من الجهات التي كانت تحتفظ بالسلاح والذخائر من أجل اللحظة الحاسمة، بهدف التغلب على المنافسين والسيطرة في حال سقوط النظام. وكنا نعلم أن معظم أولئك كانوا يأخذون الأوامر من الخارج لبدء أو إيقاف أي مواجهة مع قوات الأسد، حين ترغب الجهات الداعمة.
تسببت تلك الحالة في كثير من الانسحابات من الأجسام المعارضة لوجوه عديدة من الأوائل، غالباً نتيجة القرف من الخلافات الداخلية. من ثبتوا في مواقعهم السياسية والعسكرية حتى اليوم، هم من قبلوا بكل الأمراض التي نخرت تلك الهيئات، وأرجو أن لا يكون التعميم هنا من باب الحماقة. بداهةً، أولئك لا يرتجى منهم اليوم أن يكون لهم أي صوت مستقل، يستطيع قول لا بمواجهة مصالح ومخططات واتفاقات الدول المتدخلة. بل قريباً جداً سيجدون رؤوسهم في مواقع خطوات تلك الدول نفسها، إن لم يكن هذا حدث من قبل لكثيرين منهم.
طبعاً، لا يمكن وضع المعارضين المنتمين إلى التشكيلات السياسية والعسكرية حتى اليوم في سلة واحدة، فهناك من تدفعه لما هو عليه، رغبته بالمال والثروة، وهناك من هو موعود، من جهةٍ ما، بسلطة في قادم الأيام، وهناك من هو مستمتع بسلطته الحالية، أو حتى بالشهرة على ضحالتها ورداءة رائحتها. وحتى لجهة التاريخ الشخصي لكل منهم، فهناك اختلافات بالغة. نجد من له تاريخ نظيف فعلاً، لكنه غيَّر موقعه عبر انتقالات بسيطة في كل مرة، لدرجة أنه ربما لم يشعر أن تلك الانتقالات الطفيفة المتتابعة قد أدّت به إلى حيث هو اليوم.
استسهال التغيير على مراحل، أمر معقد ولكنه ناجح غالباً، ليغدو في نهاية المطاف انقلاباً. كل خطوة هي انحراف بسيط جداً لن تُشعِر الإنسان بأنه انقلب على أخلاقه ومبادئه، بل وأحياناً تبدو كنوع من العقلانية، وتجنب أو تجاوز لحالة من النزق والتشنج. أما انتظار تجرع كل خطوة، قبل المباشرة بالتالية فهو سر النجاح.
هل الجميع وصلوا إلى ما وصلوا إليه عبر هذه الآلية التي سهلتها ارتباطاتهم بدول منخرطة في الشأن السوري؟ بالتأكيد لا. فليس من المستبعد وجود خونة حقيقيين يتعاملون مع أجهزة مخابرات تحركهم بأوامر محددة، بل وحتماً هناك منهم من هو مرتبط بمخابرات الأسد ومنذ البداية. للأسف هؤلاء لن نعرف هوياتهم إلا عند انتهاء المأساة. وطبعاً سيوجد منهم عملاء لأكثر من جهة، بما يسمى عالمياً "دوبل كروس" أو العملاء المزدوجون. على سبيل السخرية، ما عليكم إلا أن تختاروا اسماً ما لا على التعيين من معارضي اليوم الرسميين، مسبوقا بصفة "Double Cross"، لتجدوا أنفسكم في حالة من الهزل.
لكن هل يستدعي الموضوع السوري أي من أنواع الهزل؟ قطعاً لا، بالنسبة لمآسي السوريين. أما لجهة المواقف الدولية ومواقف أجسام المعارضة السياسية والعسكرية اليوم، فهو حقل شاسع من السخرية والكوميديا السوداء المستمرة منذ أكثر من عقد. بالعودة لملاحظة الانقلاب المتسلسل واستسهال التغيير. قبل سنوات قليلة، سألت عضواً مزمناً في وفد أستانا، هل هناك وعود ملموسة وأكيدة لكم من الجانب الروسي بتنفيذ القرار 2254 تجعلكم تتابعون؟ أجاب الرجل بكلام مُرسل، لا يليق حتى بفتى غر، بأن الروس يعدونهم دوماً بالتغيير السياسي في سوريا خلال الاجتماعات الخاصة.
نهاية الكوميديا أنه لم يعد هناك من إغراءات، بل ولم يعد هناك من يراهم يستحقون أن يُدفع لهم، لا أعلى سعر ولا حتى بأسعار مخفضة
لا أستطيع الجزم بوجود طريقة ما، لسحب الاعتراف الشعبي من تلك الأجسام، خصوصاً مع حاجة بعض الدول لهياكلها الشكلية لتمرير ما تريد. ولكن كل ما آمله، أن يشعر بعض هؤلاء، ممن لم يدركوا بعد، أنهم باتوا حقيقةً في موقع العملاء، حتى لو لم يرغبوا بذلك، فيتحسسوا مواقعهم بما يدفعهم لموقف ما. ونهاية الكوميديا أنه لم يعد هناك من إغراءات، بل ولم يعد هناك من يراهم يستحقون أن يُدفع لهم، لا أعلى سعر ولا حتى بأسعار مخفضة.